بدأ الألمان اليوم الأحد الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات التشريعية التي يتوقع أن تفوز بها أنجيلا ميركل بولاية رابعة على التوالي، في الوقت الذي يتوقع أن تشهد هذه الانتخابات اختراقًا تاريخيًا لليمين الشعبوي والقومي.
وحسب استطلاعات الرأي فمن المتوقع فوز المحافظين بزعامة ميركل بنسبة تتراوح بين 34 و36% متقدمين على الاشتراكيين الديمقراطيين بزعامة مارتن شولتز بواقع 21 إلى 22%، كما تبين الاستطلاعات أن حزب البديل من أجل ألمانيا سيحقق على الأرجح ما بين 11 إلى 13% ليصبح ثالث قوة في البرلمان الألماني.
أما حزب اليسار المعارض فيتوقع أن يحتل المرتبة الرابعة بما نسبته ما بين 9.5% إلى 11% من الأصوات، والحزب الديمقراطي الحر ما بين 9 إلى 9.5% من أصوات الناخبين، أما الخضر فيرجح أن يحصلوا على ما بين 7 إلى 8% من أصوات الناخبين الألمان.
يوم الانتخابات الحاسم
ركزت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حملتها الانتخابية على موضوع الاستمرارية لبلد مزدهر، في رسالة تهدف إلى الطمأنة في وجه الأزمات التي تهز العالم ولا سيما مع وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.
وعلى العكس من المستشارة أنجيلا حرص شولتز أن يقدم نفسه كممثل للتغيير في وقت يشارك حزبه في حكومة ميركل منذ 2013، وقال إن السنوات الأربعة القادمة لا يجب أن تكون سنوات جمود وسبات، منددًا في آخر خطاباته بـ”سياسة التنويم” التي تنتهجها ميركل، كما دعا إلى المزيد من العدالة الاجتماعية، علمًا أن هذه الدعوة لم تلق استجابة من الناخبين في بلد يشهد نموًا قويًا وبطالة في أدنى مستوياتها.
بلغ الفائض المالي في الحساب الجاري لميزان المدفوعات الألماني 300 مليار دولار في العام الماضي 2016، وهو الأكبر في العالم متفوقة حتى على الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم
انتخابات هذا الدورة شهدت تطورات جديدة منها مشاركة 16 حزبًا جديدًا، يخوضون تحدييات عدة جنبًا إلى جنب مع الأحزاب الصغيرة القديمة، من أجل حصد 5% من الأصوات، وهي عتبة دخول البرلمان، وتنحصر المنافسة بين الأحزاب الكبيرة التي تحوز معظم الأصوات وهي الاتحاد المسيحي (يمين وسط) والاشتراكي الديمقراطي (يسار وسط) والديمقراطي الحر (يمين وسط).
من المتوقع فوز المحافظين بزعامة ميركل بنسبة تتراوح بين 34 و36%
وقد سجلت المشاركة الحزبية في انتخابات هذا العام رقمًا قياسيًا إذ لم يسبق أن شارك 42 حزبًا في الانتخابات منذ توحيد شطري البلاد عام 1991، حسب مجلة “دير شبيغل” الألمانية، ويُشار أنه يحق لنحو 62 مليون شخص من أصل 82 مليونًا هم إجمالي عدد السكان في ألمانيا، المشاركة في الاقتراع اليوم، وانتخاب أعضاء البوندستاغ (البرلمان) الـ630 من بين أربعة آلاف و828 مرشحًا يمثلون 42 حزبًا في البلاد.
لماذا سيختار الألمان ميركل؟
لا شك أن ميركل تشبه الاقتصاد الألماني الذي يتقدم بهدوء ولكن بثبات، خلال فترات حكمها الثلاثة والبالغة 12 عامًا، حيث تمكنت من مواصلة تحويل رجل أوروبا المريض إلى صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا وأنجحها، وإزعاج الدول الكبرى، بالأخص أمريكا الذي لم يخف رئيسها ترامب رغبته في تقليص هذا الاقتصاد وسطوته على أوروبا.
ليس غريبًا في ألمانيا وأوروبا أن تفوز ميركل اليوم بولاية رابعة، فهي “الأم” الحنون للشعب الألماني، لما يجدون فيها ربما من عاطفة وتفاعل مع حاجياتهم الاجتماعية، وهي “أقوى امرأة في العالم” لست سنوات بحسب تصنيف مجلة “فوريس” الأمريكية، وكذلك هي “السيدة الحديدية” كما أطلقت عليها العديد من الصحف والمجلات، لمواقفها الصارمة ومنهجها العلمي الجاف مقارنة بالعمل السياسي التقليدي. تسلمت في أغسطس/آب 2008 “جائزة الناس” في أوروبا والتي تمنحها “مجموعة باساو” الألمانية للنشر لشخصيات سياسية تساهم في بناء جسور التفاهم بين الشعوب وإحلال السلام.
في مايو/أيار الماضي كان هناك أقل من 2.5 مليون شخص رسميًا عاطلين عن العمل، وهو أدنى معدل منذ عام 1991
وفي 2013 فازت بوسام التميز لأكثر الشخصيات تأثيرًا في العالم خلال التصويت الذي دشنه المجلس الدولي لحقوق الإنسان والتحكيم والدراسات السياسية والاستراتيجية. وهي قبل كل شيء عالمة الفيزياء، الاختصاص الذي يتطلب الكثير من المهارة التحليلية التطبيقية.
ليس من الأمر السهل منافسة ميركل بعد تاريخها المشرف لألمانيا بالدرجة الأولى ولأوروبا بدرجة ثانية، منذ عام 2005 على الرغم أن العديد من الدول الأوروبية وشعوبها يكنون لها العداء ويصفونها بهتلر بسبب السياسات التي فرضتها ألمانيا على بلدانهم والتي أدت لاتباع تقشف أرهق بعض طبقات المجتمع كما في اليونان وإسبانيا وإيطاليا.
استطاعت ميركل تحقيق استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي خلال فترة بقائها في المستشارية، مما مكّنها وائتلافها الحكومي، من تعزيز موقع ألمانيا على الخارطة الأوروبية والدولية بعدما فرضت نفسها كشريك سياسي مؤثر على الساحة الدولية.
الناتج المحلي الإجمالي الألماني من 2004 وحتى 2015
فالاقتصاد الألماني الأول أوروبيًا ورابع أكبر اقتصاد على مستوى العالم بعد اليابان والصين وأمريكا، بناتج محلي إجمالي بلغ 3.423 ترليون دولار، حقق الاقتصاد نموًا متواصلاً على مدى السنوات الماضية، في مايو/أيار الماضي كان هناك أقل من 2.5 مليون شخص رسميًا عاطلين عن العمل، وهو أدنى معدل منذ عام 1991، وعلى مدى السنوات الثلاثة الماضية ارتفعت الأجور بمعدل 2%. ووفقًا للتوقعات، سيزيد عدد العاملين من 43.6 مليون في عام 2016 إلى 44.62 مليون هذا العام وإلى 44.6 مليون عام 2018، وهو أعلى مستوى على الإطلاق.
وزاد معهد IFO الاقتصادى الذى يتخذ من ميونيخ مقرًا له، توقعاته للنمو الاقتصادى لعامي 2017 و 2018 في ألمانيا، وبالنسبة للسنة الحالية، فإنها تتوقع الآن نموًا بنسبة 1.8% من الناتج المحلي الإجمالي بدلاً من التوقعات السابقة بنسبة 1.5%.
تسلمت ميركل في أغسطس/آب 2008 “جائزة الناس” في أوروبا والتي تمنحها “مجموعة باساو” الألمانية للنشر لشخصيات سياسية تساهم في بناء جسور التفاهم بين الشعوب وإحلال السلام.
كما أن ميركل أثبتت جدارتها في إدارة اقتصاد البلاد وصموده أمام أعتى أزمة اقتصادية واجهت العالم في العام 2007، التي أصابت أغلب دول أوروبا والعالم بالركود، وكادت أن تودي ببعضها إلى الإفلاس.
ولعل الفائض التجاري أحد الأمور التي تزعج دول العالم وأمريكا في مقدمتها، وهو دلالة على نجاح الاقتصاد الألماني رغم الأزمات الاقتصادية التي رآها العالم خلال السنوات الماضية، إذ بلغ الفائض المالي في الحساب الجاري لميزان المدفوعات الألماني 300 مليار دولار في العام الماضي 2016، وهو ما يعادل نحو 3.8% من الناتج الملحي الإحمالي لألمانيا، وفائض الحساب الجاري هو الفرق بين ما تصدره الدولة وما تستورده من سلع وخدمات، وما حققته ألمانيا هو الأكبر في العالم متفوقة حتى على الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
معدل التوظيف في ألمانيا من 2005 حتى عام 2015
على العموم فهذا الفائض أثار حنق الأمريكيين، حيث وصف رئيسها ترامب النجاح الألماني الكبير للصادرات الألمانية في السوق الأمريكية بأنه “أمر سيء للغاية” ووعد بالعمل على مواجهته وتقليصه عبر فرض رسوم جمركية على السلع الألمانية الداخلة إلى أمريكا.
تضع ميركل التحديات المشتركة للتعليم من ضمن الملفات التي تخص الأسرة والتعليم، من بين أولوياتها لتحديد أوجه القصور الموجودة لتحسين جودة التعليم بهدف تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد وكفاءة مؤسسات الدولة في العديد من القطاعات، كشرط مسبق لاستمرار الرخاء بالمقارنة مع باقي الدول الأوروبية، وهي في حوار دائم مع الولايات المحلية لمواجهة تلك التحديات.
زادت توقعات النمو الاقتصادى لعامي 2017 و2018 في ألماني، إذ من المتوقع أن ينمو الاقتصاد الألماني بنسبة 1.8% بدلاً من التوقعات السابقة بنسبة 1.5%.
أثبتت قدرتها على تجاوز المشاكل وتحويلها إلى إنجازات تحسب لها، بعد قرارها الشهير في عام 2015، بفتح الحدود الألمانية أمام الآلاف من اللاجئين الذين وصلوا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وهي بذلك كسرت “اتفاقية دبلن” و”فضاء شينغن” والهدنة مع دول أوروبا الشرقية.
سببت تلك السياسة لها الكثير من الانتقادات من قبل المسؤولين السياسيين في البلاد، وأثار شكوكًا ونوعًا من عدم الثقة من قبل أعضاء حزبها، لكنها علقت على ذلك في أحد حواراتها قائلة: “أنا أكافح من أجل الطريقة التي أتصورها لخطتي، وأفعل ذلك بكل قوتي”، وهناك من عبّر عن القلق من الاختلال الثقافي والديموغرافي نتيجة استقبال اللاجئين، إلا أن ميركل تمكنت من تجاوز تلك المرحلة وواجهتها، وعادت وحزبها لتتصدر استطلاعات الرأي بعدما سيطرت وحكومتها على أزمة اللجوء، وذلك عقب رعايتها للاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي، بالتزامن مع إغلاق طريق البلقان.
لقبت ميركل بالأم والمرأة الحديدية وحازت على أقوى امرأة في العالم لست سنوات بحسب تصنيف مجلة فوربس الأمريكية
جنبت اليونان الخروج من الاتحاد الأوروبي بعد المساعي الألمانية لإعادة هيكلة ديون اليونان، ودافعت عن استقرار منطقة اليورو وهي اليوم حجر الأساس في أوروبا وقوتها، إذ ساهمت أيضًا في إنقاذ إيطاليا، ودافعت بشراسة عن عدم خروج بريطانيا من أوروبا، إلا أن نتائج تصويت البريكسيت أفضت إلى خروج بريطانيا من الاتحاد المتوقع بحلول عام 2019.
تقدم ميركل نفسها دائمًا كقوة محركة لأوروبا، وتثبت في كل مرة على الساحة الدولية، أنها تتمتع بمهارة دبلوماسية في إدارة الأزمات، ومعروف عنها أنها تستطيع تدوير الزوايا بكثير من اللباقة من دون أن تمكّن شخصًا واحدًا من الفوز في خياراته، من خلال سعيها الدائم لتحقيق أكبر قدر من توافق الآراء بين المشاركين الدوليين، وتستفيد، بذلك، من سمعتها كمفاوض صعب ومرن في الآن نفسه.