يواجه العراق تحديات كبيرة في تطهير أراضيه من المواد المتفجرة والذخائر بعد سنوات من الحروب والأزمات، فيما يهدد تراجع التمويل الدولي بتأخير العمليات لعقود، فرغم التقدم المحرَز في بعض المناطق العراقية الموبوءة بالمخلفات الحربية القابلة للانفجار، إلا أن النقص في التمويل يعيق الجهود الضرورية لتحقيق تطهير سريع وعودة آمنة للنازحين.
نقلت صحيفة “الصباح” الحكومية في 11 فبراير/ شباط الجاري، عن المدير الأقدم لدائرة الأمم المتحدة للأعمال المتعلقة بالألغام، بير لودهامر، تقديراته بحاجة العراق إلى نحو 30 عامًا لإزالة وتطهير المواد المتفجرة والذخائر منه بسبب قلة التمويل.
ويلفت لودهامر إلى أن المنظمة الأممية مسحت ما يقارب الـ 31 مليون متر مربع، واستطاعت تطهير أكثر من 673 ألفًا من المواد المتفجّرة والذخائر، منذ بدء عملها عام 2015.
جذور المشكلة
تعود جذور مشكلة الألغام في العراق إلى سنوات النزاعات والحروب التي شهدتها البلاد، حيث أسفرت هذه الصراعات المستمرة منذ عقود عن تلويث الكثير من المناطق بمختلف أنواع الذخائر والألغام، بما في ذلك الألغام التقليدية والعبوات الناسفة والذخائر العنقودية.
وحول ذلك، يقول خبير إزالة الألغام عقيل المشرفاوي، إن المساحات الملوثة بالألغام والمخلفات الحربية والعبوات الناسفة تقدَّر بعشرات الكيلومترات، إضافة إلى المباني التي لا تزال أسيرة المخلفات، وهي قرى كاملة باتت مهجورة من سكانها.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، يعزو المشرفاوي أسباب قلة تمويل برامج إزالة الألغام، إلى عوامل كثيرة أولها انعدام الاهتمام الحكومي الجادّ بهذا الملف الخطير، ويضيف أن آفة الفساد هي سبب آخر يعيق جهود التخلص من هذه المخلفات الحربية، حيث تورّط بعض أصحاب الشركات المتخصصة وبعض المنظمات العاملة في مجال إزالة الألغام في صفقات فساد كبيرة.
وكشفت وزارة البيئة العراقية في أغسطس/ آب الماضي، أن الأراضي التي لا تزال ملوثة بالألغام تصل مساحتها إلى 2100 كيلومتر، بعد إزالة نحو 59% من الأراضي الملوثة.
ومن جانبها، ذكرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالعراق، في أبريل/ نيسان الماضي، أن محافظة البصرة ومدينة الموصل القديمة تعتبران من أكثر مدن العالم تلوثًا بالأسلحة غير المنفجرة.
تحديات إزالة الألغام
ويعيش العراق تحديات كبيرة تتعلق بإدارة ما تركته النزاعات والحروب من مشكلات مرتبطة بالألغام، إذ تتسبب بإعاقة عمليات إعادة الإعمار، وتشكّل تهديدًا مستمرًّا على الحياة اليومية.
ويرى خبير الألغام، قصي السعيدي، أن أبرز تلك التحديات يتمثّل في حجم التلوث الكبير بالألغام والعبوات الناسفة والمخلفات الحربية في مختلف المناطق، خاصة في المناطق التي شهدت عمليات عسكرية ضد تنظيم “داعش”.
ويبيّن السعيدي في حديثه لـ”نون بوست”، أن ثمة تحديات أخرى تتعلق بنقص الموارد المالية والفنية والبشرية لتنفيذ عمليات إزالة الألغام بشكل فعّال وآمن، وعدم وجود بيانات دقيقة وموثوقة عن مواقع وأنواع وأعداد الألغام والمتفجرات الموجودة في الأراضي العراقية.
ويشير إلى عدم وجود تشريعات ومعايير وطنية موحّدة ومحدّثة لتنظيم ورصد وتقييم الأعمال المتعلقة بالألغام، فضلًا عن غياب التوعية الكافية للمجتمعات المحلية بمخاطر الألغام والمتفجرات وكيفية التعامل معها.
ويلفت الخبير إلى أن انتقال العراق من الشريحة السفلى إلى الشريحة العليا من البلدان متوسطة الدخل عام 2020، أفقدته بعض المزايا والامتيازات التي كان يحصل عليها من المانحين الدوليين، ما أسهم في تلكُّؤ العديد من المشاريع ومن ضمنها مشاريع إزالة الألغام والمتفجرات.
وحول الخطة الاستراتيجية الوطنية لإزالة الألغام التي أطلقها العراق في أغسطس/ آب الماضي، يوضّح السعيدي أن هناك تحركات بالتنسيق بين الوزارات المعنية والمنظمات الدولية والشركات النفطية في المناطق الجنوبية والمناطق الأخرى من العراق، لوضع الخطة المستقبلية لجعل العراق خاليًا من الألغام بحلول عام 2028.
ويرى السعيدي أن “المبلغ المخصص في الموازنة لـ 3 سنوات (2023-2025)، والمخصص للأعمال المتعلقة بالألغام، وهو 68 مليون دولار، لا يكفي هذه الخطة، لكونها تحتاج إلى مشاريع لتحديد الأولويات لمواقع التطهير وما يليه للتنمية والاستقرار، ومن دون ذلك لن نستفيد شيئًا من إزالة الألغام”.
ودعا السعيدي إلى اعتماد المعايير الدولية والوطنية للأعمال المتعلقة بالألغام، وتوفير برامج تدريبية متخصصة ومستمرة ومتكيّفة مع الحاجات والظروف المحلية للكوادر المشاركة في عمليات إزالة الألغام، فضلًا عن الاستفادة من الخبرات والموارد المتاحة من قبل المنظمات الدولية والإقليمية والمحلية المتخصصة في هذا المجال.
ويحذّر السعيدي من أن إغفال ملف المخلفات الحربية يهدد حياة وسلامة وصحة المدنيين والعاملين في القطاعات الإنسانية والتنموية، كما يسهم في تعطيل إعادة الإعمار والتنمية والاستقرار في العراق، وإحباط عودة النازحين واللاجئين إلى ديارهم ومناطقهم، ويفاقم تلويث البيئة والتربة والمياه والمحاصيل الزراعية والموارد الطبيعية.
إجراءات تسابق الزمن
يقول الخبير الاستراتيجي صفاء الأعسم، إن وزارتَي الدفاع والبيئة وهيئة الحشد الشعبي تمتلك مديريات متخصصة لمكافحة المتفجرات والمخلفات الحربية، لكنها بحاجة إلى وقت طويل لإنجاز هذه المهمة.
ويبيّن الأعسم في حديثه لـ”نون بوست”، أن امتداد الألغام على مساحات شاسعة من الحدود العراقية الإيرانية، وصحراء الأنبار، والمدن التي سيطر عليها تنظيم “داعش” وغيرها، يجعل عمليات التطهير بحاجة إلى وقت طويل مع غياب التقنيات والوسائل الحديثة.
ويشير إلى أن العراق يحاول الاستفادة من تجارب الدول الأخرى، وتلقّت الكوادر العراقية تدريبات مكثفة في معالجة الألغام والقنابل غير المنفلقة، لكنّ قوات التحالف والإدارة الأمريكية غير جادّتَين في تقديم الأجهزة المتطورة الخاصة برفع الألغام.
ويكشف الخبير الاستراتيجي أن العراق شهد مؤخرًا اجتماعات للجهات المختصة، ناقشت إمكانية إشراك بعض الدول التي لديها خبرة في هذا الموضوع، بهدف تسريع عمليات مكافحة الألغام والمتفجرات.
ويشدد الأعسم على أهمية استثمار الوقت، والإسراع في عمليات تطهير البلاد من المخلفات الحربية، خاصة مع إقبال العراق على تدشين خطة استثمارية كبيرة تتضمّن مجموعة من المشاريع العملاقة.
وتعدّ التجربة الكمبودية من التجارب الناجحة في إزالة الألغام، حيث تعهّدت حكومة كمبوديا بإزالة جميع الألغام الأرضية والمدفعية غير المنفجرة بحلول عام 2025.
وتسبّبت الألغام الأرضية المنتشرة في جميع أنحاء كمبوديا بمقتل أكثر من 64 ألف شخص، في حين تمّ تسجيل 25 ألف شخص مبتوري الأطراف منذ عام 1979، وفق مؤسسة هالو ترست.
لكن وبفضل جهود إزالة الألغام وبرامج التوعية، انخفض متوسط عدد القتلى السنوي من عدة آلاف إلى أقل من 100 شخص، ويعدّ خبراء إزالة الألغام الكمبوديون من بين الأكثر خبرة في العالم، وقد تم إرسال عدة آلاف منهم في العقد الماضي تحت رعاية الأمم المتحدة للعمل في أفريقيا والشرق الأوسط.
وفي المقابل، لا تزال أفغانستان تعاني من الألغام والمتفجرات غير المنفلقة بسبب الاضطرابات المزمنة، وسط تهديد كبير للسكان المحليين والعاملين في القطاع الزراعي، ورغم جهود العديد من المنظمات الدولية والحكومة الأفغانية، إلا أن عجلة التقدُّم في إزالة الألغام وتطهير الأراضي لا تزال بطيئة بسبب التحديات الأمنية ونقص التمويل.