على مدار 76 عامًا من النكبة الفلسطينية، اعتمد الاحتلال الإسرائيلي سياسة تقسيم الاتصال الجغرافي بين الفلسطينيين، وشقّ الطرق وإقامة المستوطنات على الأراضي المحتلة، بشكل يقطع الطرق أمام كتلة جغرافية فلسطينية واحدة، فدفع داخل المدينة الواحدة بعدد من المستوطنات، وربطها بطرق خاصة للمستوطنين تمنع الفلسطينيين من الوصول إليها، فحوّل الضفة إلى جزر متفرقة.
لم يكن قطاع غزة بأحسن حال، حيث أقام الاحتلال على أراضيه، بعد احتلاله عام 1967، 21 مستوطنة إسرائيلية قطعت جغرافيًّا القطاع الذي لا يتجاوز مساحته 365 كيلومترًا، وحاصر الأحياء الفلسطينية داخلها، واستمرَّ ذلك حتى الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من مستوطنات قطاع غزة عام 2005، وإخلاء الاحتلال جميع المستوطنات وعودة كل قطاع غزة تحت السيادة الفلسطينية.
مجددًا وبعد 19 عامًا من الانسحاب الإسرائيلي من القطاع، دفع الاحتلال الإسرائيلي بقواته البرّية خلال حرب الإبادة الجماعية المستمرة منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، وفصل شمال القطاع عن جنوبه، ومنع الحركة بين الشقَّين.
كما جرى ترويج خطط “إسرائيل” لإعادة احتلال قطاع غزة، من قبل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو وحكومة الحرب، ووزراء إسرائيليين وأعضاء كنيست نظّموا في القدس “مؤتمر الاستيطان في غزة”، وصاحبها منشورات بثّتها قنوات جيش الاحتلال الإعلامية، عن إجراءات فعلية يتخذها الجيش لترسيخ التقسيم.
فصل الشمال عن الجنوب
مع بداية العملية البرية لجيش الاحتلال بقطاع غزة في 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، نشرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية تقريرًا عنوانه: “التطويق والتقسيم في غزة: الجمهور سيدفع الثمن إذا علمَ أن هناك خطة ثابتة وعملية”.
كتبت الصحيفة في التقرير “أن التطويق وربما التقسيم هما المصطلحان اللذان يلخّصان هذه المرحلة من القتال، ويبدو أن التطويق يتحول إلى خط فاصل: على طول مدينة غزة، هناك خط يفصل شمال القطاع عن وسطه، ولا خروج ولا قدوم. كما طُرحت خطط لتشريح غزة أفقيًّا في جولات القتال السابقة، ولم تنفَّذ لأسباب عديدة. لقد تم ذلك هذه المرة”، ومع ذلك ذكّرت بأن “ثمن حياة المحاربين باهظ ومكلف جدًّا”.
وفي مقال آخر، نهاية الشهر نفسه، قالت الصحيفة تحت عنوان “المدرّعات على شاطئ غزة”، إن الهدف الرئيسي للتحرك العسكري الإسرائيلي الراهن يتمثل في تطويق مدينة غزة من مختلف الجهات، وعزلها بالكامل عن جنوب قطاع غزة، ثم محاولة الاستمرار في التقدم من مختلف الجهات إلى مركز مدينة غزة، ومحاولة احتلالها تدريجيًّا منطقة تلو الأخرى.
مع اشتداد الحرب البرية، ووصول الجنود الإسرائيليين إلى شارع صلاح الدين وإعلانه “ممرًّا آمنًا (ممرات موت وفق الغزيين)”، بات فصل شمال القطاع أكثر وضوحًا، مع سماح الاحتلال الإسرائيلي بحركة النزوح في خط واحد من شمال وادي غزة إلى جنوبه، ومنع العودة إلى الشمال، ونصب الحواجز ومحطات التفتيش على شارع صلاح الدين، وصولًا إلى تكثيف الأحزمة النارية في المناطق الشمالية من القطاع.
وتولت فرقة 99 في جيش الاحتلال مهمة منع الفلسطينيين من العودة إلى شمال قطاع غزة، وتقسيم القطاع إلى قسمَين، هذه الفرقة التي تضم 4 ألوية رئيسية، وهي لواءان مظليان ولواء غولاني ولواء غفعاتي، أنشأها الاحتلال عام 2020، وأجرت خلال السنوات الثلاثة الأخيرة قبل الحرب مناورات تحاكي عملية عسكرية في قطاع غزة وجنوب لبنان.
وفي 1 ديسمبر/ كانون الأول 2023، بعد ساعات من انهيار هدنة إنسانية استمرت 7 أيام، نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي خارطة قسّم بموجبها قطاع غزة إلى مئات المربعات السكنية، مدّعيًا أنها تهدف إلى تمكين الفلسطينيين من معرفة أماكن الإخلاء بموجب التقسيم.
غزة: كانتونات صغيرة
مع بداية 2024، كشفت قناة “كان” الرسمية العبرية عن خطة لجيش الاحتلال، تتضمّن تقسيم غزة إلى مناطق تحكمها العشائر، وتتولى مسؤولية توزيع المساعدات الإنسانية، موضحة: “سيتم تقسيم القطاع إلى مناطق ونواحٍ، حيث ستسيطر كل عشيرة على ناحية، وستكون مسؤولة عن توزيع المساعدات الإنسانية، وهذه العشائر المعروفة لدى الجيش وجهاز الأمن العام (شاباك) ستقوم بإدارة الحياة المدنية في غزة لفترة مؤقتة”.
ونشرت الأطراف العبرية هذا المخطط تزامنًا مع زيارات مكوكية عربية وإسرائيلية وأمريكية، للحديث عن مرحلة ما بعد قطاع غزة، والخلاف بشأن من سيديرها: السلطة الفلسطينية، أو عشائر محلية، أو إدارة مدنية جديدة، أو الاحتلال الإسرائيلي بعد إعادة سيطرته على القطاع.
ولا تبدو خطة كانتونات صغيرة تحكمها عشائر جديدة على الفلسطينيين، إذ سبق وأن طرحها وزير مالية الاحتلال بتسلئيل سموتريش للسيطرة على الضفة الغربية مع تصاعد الكتائب المسلحة، وتوسيع المخططات الاستيطانية، وكانت تنصّ على تحويل الضفة إلى مناطق إدارية تحكم كل منها تركيبة عشائرية، في ظل حكومة تكنوقراط، تكون على وفاق مع الاحتلال، لها أجهزة أمنية ونظام اقتصادي وسلطة تفوق سلطة البلدية دون بُعد سياسي، وتدير شؤون التعليم والصحة والاقتصاد والعمالة.
لكن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي عارض مقترح سموتريش في الضفة الغربية، باتَ يجده حلًّا منطقيًّا في قطاع غزة، ويسعى إلى إيجاد جهة تتولى إدارة الشؤون المدنية، بحيث يحتفظ الجيش بالسيطرة الأمنية، في الوقت الذي أعلن فيه أنه يرفض استلام السلطة الفلسطينية قطاع غزة بعد الحرب، رافعًا شعاره “لا حماسستان ولا فتحستان”.
حواجز و”الطريق 749″
مطلع فبراير/ شباط 2024، نشر موقع “والّا” العبري أن جيش الاحتلال “بدأ التخطيط لإنشاء معابر في وسط قطاع غزة من شأنها عزل المنطقة”، ترسيخًا للمعابر المؤقتة التي أقامها على ممرات النزوح في قطاع غزة، والتي نصب عليها كاميرات مراقبة ذكية، تجمع معلومات الفلسطينيين النازحين في مجال رؤيتها.
ولم ينقضِ الشهر حتى عاد إعلام الاحتلال إلى الترويج لـ”الطريق 749″، الاسم المؤقت لممرّ يفصل شمال غزة عن باقي القطاع، ويمتد “الطريق 749” من مستوطنات الغلاف إلى شاطئ غزة، إذ يبدأ من مستوطنة نحال عوز وينتهي عند البحر الأبيض المتوسط.
لكن الجبهة الداخلية الفلسطينية في قطاع غزة نشرت توضيحًا حول هذا الطريق، باعتباره طريقًا مؤقتًا إلى حين انتهاء عمليات الاحتلال، ويأتي نشره في سياق الحرب النفسية على الغزيين، ودلّلت ذلك بأن الاحتلال بدأ بإقامة الطريق مع بدء العملية البرية، وذلك لتسهيل حركة قوات الاحتلال، بعيدًا عن الطرق التقليدية التي يخشى العدو أن تكون مفخّخة.
وقالت إن الطريق من البسكورس وليس من الإسفلت ما يعني أنه مؤقت، وهو يشبه الطريق الذي صمّمه الاحتلال أثناء عدوان 2008 من منطقة كارني إلى حي الزيتون، وأكدت من تحليل الصور الجوية أن الطريق اكتمل نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ووضع الاحتلال مجموعة من السواتر الترابية على جوانب الطريق، خوفًا من تحوُّل قواته التي تسير على الطريق إلى أهداف للمقاومة.
ماذا يعني الفصل؟
من وجهة نظر جيش الاحتلال، وفق ما يصدره إعلاميًّا، يهدف فصل شمال قطاع غزة عن جنوبه إلى قطع الإمدادات عن مقاومي حماس، وإفراغ القطاع الشمالي من سكانه، بحيث يتيح ذلك المجال أمام عملية عسكرية برية دون عوائق بشرية، لا سيما مع استمرار وجود أكثر من 600 ألف فلسطيني رفضوا النزوح من شمال قطاع غزة.
وانعكس هذا الفصل على خط سير المساعدات الإنسانية الضئيلة أصلًا، وفي حين يتم توزيع المساعدات في جنوب القطاع، إلا أنه منذ 1 يناير/ كانون الثاني الماضي لم يصل إلا 21% فقط من إجمالي المساعدات إلى شمال وادي غزة، وفق المؤسسات الإغاثية، في حين لا تتجاوز نسبة مجمل المساعدات الداخلة 10% من احتياجات الفلسطينيين في قطاع غزة للمواد الأساسية.
في أثناء ذلك، يستمر مستوطنون، بينهم عدد من عائلات الأسرى الإسرائيليين في قطاع غزة، بإغلاق معبر كرم أبو سالم أمام شاحنات المساعدات الإنسانية التي كانت في طريقها إلى غزة، مطالبين بعدم دخول أي شاحنة حتى إعادة جميع الأسرى الإسرائيليين، وهو ما حذّرت منه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين، من مجاعة في شمال غزة الذي تقلصت فرص دخول المساعدات إليه بعد إغلاق معبر كرم أبو سالم.
ويعدّ الفصل بين الشمال والجنوب مسألة حسّاسة في المفاوضات على وقف إطلاق النار وتبادُل الأسرى، فإلى جانب التمسُّك بشرط حركة حماس بوقف إطلاق النار بشكل دائم، فإنها تشترط انسحاب الاحتلال الإسرائيلي من المناطق التي اجتاحها بريًّا، والسماح بعودة الفلسطينيين إلى شمال قطاع غزة، ووصول المساعدات إلى الشمال دون قيد أو شرط.
وفي قراءة أخرى في الفصل، تحديدًا تصوير “الطريق 749″، بالتزامن مع الحديث عن العملية البرية في مدينة رفح، قد يُفهم منها رغبة الاحتلال قطع الطريق أمام أحلام النزوح العكسي المطلق من رفح إلى شمال وادي غزة، وأن الخيارات المتبقية هي وسط القطاع أو النزوح إلى سيناء وتحقيق خيار التهجير.
يحاول الاحتلال الإسرائيلي منذ بدء الحرب البرية تمرير عدة مقترحات لتقسيم قطاع غزة، والسيطرة عليه وإدارة القطاع بعد الحرب، والدفع قدمًا بعملية التهجير نحو سيناء، لكن الاحتلال ما زال يتذكر منذ عام 2005 والانسحاب من القطاع، ومنذ العدوان البرّي عام 2014، وأخيرًا خلال عملية “طوفان الأقصى” عام 2023 وحتى اللحظة، أن بقاء قواته عسكريًّا بأماكن ثابتة يعني مزيدًا من خسائر الجنود والضبّاط والآليات.