دخلت العلاقات بين البرازيل ودولة الاحتلال منعطفًا جديدًا من التوتير إثر التصريحات الصادرة عن الرئيس البرازيلي إيناسيو لولا دا سيلفا، التي شبّه فيها ما يتعرض له الفلسطينيون في قطاع غزة بـ”المحرقة النازية ضد اليهود”، وهي التصريحات التي أثارت استفزاز “إسرائيل”، وقال وزير خارجية تل أبيب يسرائيل كاتس إن الرئيس لولا “شخص غير مرغوب فيه ما لم يتراجع عما قال”.
وكان الرئيس البرازيلي على هامش مشاركته في قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا وخلال لقائه بالصحفيين، الأحد 18 من فبراير/شباط الحاليّ، قال: “ما يحدث في قطاع غزة ليس حربًا، إنها إبادة جماعية”، مضيفًا: “ليست حرب جنود ضد جنود، إنها حرب بين جيش على درجة عالية من الاستعداد ونساء وأطفال”، وأشار إلى أن تلك الجريمة “لم تحدث في أي مرحلة أخرى في التاريخ”، قبل أن يستدرك بقوله “في الواقع، سبق أن حدثت بالفعل حين قرر هتلر أن يقتل اليهود”.
عقب إدانة الرئيس البرازيلي للاحتلال وما يرتكبه في #غزة من إبـ،ـادة بحق الشعب الفلسطيني.. البرازيل تصعد في حملتها التضامنية وتسحب سفيرها من "إسرائيل"
📌الاحتلال اعتبر الرئيس البرازيلي شخصاً غير مرغوب ومعادياً للسامية، ما دفع برازيليا لسحب سفيرها. pic.twitter.com/6ZH28Pt6ri
— نون بوست (@NoonPost) February 19, 2024
وأسفرت تلك التصريحات عن استدعاء البرازيل لسفيرها لدى تل أبيب التي استدعت بدورها سفيرها لدى برازيليا، فيما استشاط رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو غضبًا إزاء تلك الكلمات معلقًا بقوله “مقارنة إسرائيل بالمحرقة النازية وهتلر تجاوز للخط الأحمر”، بينما اعتبرها زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لبيد “مشينة ومعادية للسامية”.
طعنة دبلوماسية جديدة تتلقاها دولة الاحتلال، وحلقة إضافية في سلسلة العزلة الدولية التي تواجهها، جراء حرب الإبادة التي تشنها ضد قطاع غزة منذ 8 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وأسفرت عن ارتقاء قرابة 30 ألف مدني وإصابة أكثر من 100 ألف آخرين، وتشريد ما يزيد على مليون و400 ألف شخص محاصرين في منطقة ضيقة، وباتت حياتهم على المحك إذا ما نفذ الاحتلال تهديداته بشن عملية عسكرية ضد رفح جنوب القطاع.
دبلوماسية الحياد
تتحرك البرازيل في تعاطيها مع الحرب في غزة من اعتبار إنساني بحت، فلا عوامل مشتركة بينها وبين طرفي الحرب، “إسرائيل” وحماس، تدفعها لتغليب كفة إحداهما على الأخرى، كذلك لا وجود لتناغم أيديولوجي يربطها بأي منهما، ومن ثم التزم الموقف البرازيلي منذ 7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى اليوم بترمومتر الأحداث وتطوراتها الميدانية والإنسانية.
– مع اليوم الأول لعملية “طوفان الأقصى” وصف دا سيلفا العملية بأنها “عمل إرهابي”، حيث غرد على حسابه في “إكس” قائلًا: “صُدِمتُ من الهجمات الإرهابية اليوم ضد المدنيين في إسرائيل التي أوقعت العديد من الضحايا، أُعرِب عن تعازيَّ لأسر الضحايا وأؤكد مجدّدًا رفضي للإرهاب بجميع أشكاله”، معربًا عن استعداد بلاده العمل من أجل “الاستئناف الفوري للمفاوضات التي تؤدي إلى حل للصراع يضمن وجود دولة فلسطينية قادرة على البقاء اقتصاديًا وتتعايش بسلام مع إسرائيل”.
– في الـ11 من أكتوبر/تشرين الأول، وبعد 4 أيام فقط من الطوفان، طالب الرئيس البرازيلي حركة حماس بإطلاق سراح الأطفال الإسرائيليين المحتجزين لديها، مضيفًا في تغريدة له أنه على “إسرائيل” أن توقِف القصف حتى يتمكّن الأطفال الفلسطينيون وأمهاتهم من مغادرة قطاع غزة عبر الحدود مع مصر.
– في اليوم التالي مباشرة أجرى اتصالًا هاتفيًا مع رئيس الاحتلال إسحاق هرتزوغ أكد له فيها إدانة بلاده لهجمات الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول وتعازيه لأسرهم، مشددًا على ضرورة “ألا يصبح الأبرياء ضحايا للمجانين الذين يريدون الحرب”، مطالبًا في الوقت ذاته بـ”إقامة ممر إنساني حتى يتسنى لمن يريدون مغادرة قطاع غزة عبر مصر المغادرة بأمان”، وفي الوقت ذاته أجرى اتصالين آخرين مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ونظيره الفلسطيني محمود عباس، مؤكدًا لهما دعمه للقضية الفلسطينية وحل الدولتين.
– في الـ17 من أكتوبر/تشرين الأول امتنعت البرازيل عن التصويت لصالح مشروع القرار الروسي المقدم لمجلس الأمن والداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة كونه لا يتضمن توجيه الاتهامات لحركة حماس، وهو الموقف الذي صدم الشارع العربي والإسلامي آنذاك.
– في الـ18 من الشهر الحاليّ وأمام ما يتعرض له سكان غزة من حرب إبادة مكتملة الأركان، قتل وتنكيل وتشريد، خرج الرئيس البرازيلي ليؤكد أن ما يحدث أشبه بما تعرض له اليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية بين عامي 1941 – 1945، ما أثار استفزاز الداخل الإسرائيلي رغم موقف البرازيل السابق التي وصفت فيه ما حدث في الطوفان بـ”العمل الإرهابي” بما يتماشى مع السردية الإسرائيلية.
فلسطين بين اليمين واليسار البرازيلي
لم تكن العلاقات بين البرازيل من جانب وفلسطين ودولة الاحتلال من جانب آخر ذات مسار واحد، فهي علاقات متغيرة ومتأرجحة حسب النظام الحاكم، حيث يدعم اليمين واليمين المتطرف الكيان المحتل الذي يتشابك معه فكريًا وأيديولوجيًا بنسبة كبيرة، فضلًا عن الصبغة الأمريكية لهذا التيار المدعوم من واشنطن بشكل كبير، في حين يميل اليسار إلى القضية الفلسطينية التي يراها متناغمة مع توجهاته الرامية إلى نصرة المظلوم ودعم أصحاب الحقوق في مواجهة الطغاة.
– في الوقت الذي اعترفت فيه البرازيل بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني عام 1975، واعترفت لاحقًا بدولة فلسطين على حدود 1967 عام 2010 وفتحت سفارة لفلسطين في برازيليا، ساهم ممثلها في الأمم المتحدة أوزفلد آرانيا في تمرير القرار 181 القاضي بالاعتراف بالدولة اليهودية والفلسطينية عام 1947، حين كان رئيسًا لتلك الجلسة التي صوتت على هذا القرار، ما دفع الإسرائيليين لصناعة نصب تذكاري له في تل أبيب.
– شهدت العلاقات البرازيلية الإسرائيلية أوج ازدهارها، وبالتبيعة أسوأ محطاتها على الجانب الفلسطيني، خلال ولاية جائير بولسونارو الماضية (2019 – 2023)، حيث شارك نتنياهو في حفل التنصيب كما زار بولسونارو (الملقب بترامب الاستوائي) تل أبيب، وهاجم في كثير من تصريحاته العرب والمقاومة الفلسطينية، مداعبًا اليمين المتطرف الذي يحظى بشعبية كبيرة في الداخل البرازيلي، فيما أكد بعد نجاحه عزمه نقل سفارة بلاده في الكيان المحتل من تل أبيب إلى القدس.
رئيس حزب برازيلي: من الطبيعي أن نعبّر عن دعمنا للنضال المسلح في #فلسطين وبشكل علني#الجزيرة_مباشر #البرازيل pic.twitter.com/ndEWcrzm1y
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) February 20, 2024
– خلال حملته الانتخابية كرر الرئيس البرازيلي السابق إعجابه الشديد بـ”إسرائيل” والولايات المتحدة، بل وصل الأمر إلى وضعه لعلم البلدين خلفه في أثناء مؤتمراته التي دشنها قبيل الانتخابات، فيما حصل – وتياره المتطرف – على دعم كبير من تل أبيب وواشنطن ساعده على الفوز بالانتخابات وقتها على منافسه اليساري (لبناني الأصل) فرناندو حداد بـ55.1% من إجمالي أصوات الناخبين.
– مع نجاح اليسار وتوليهم السلطة العام الماضي تصاعد منسوب التفاؤل لدى المناصرين للقضية الفلسطينية بتغير الموقف البرازيلي – بعد نجاح اليساري دا سيلفا – من القضية برمتها، وهو ما أكده السكرتير الخاص للرئاسة البرازيلية، سلسو أموريم، الذي شدد على أن بلده داعم تاريخي للقضية الفلسطينية، ويعارض بشدة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، منوهًا إلى أن الرئيس البرازيلي الحاليّ مناصر قوي لفلسطين، ويؤيد حل الدولتين، لكنه ليس مناوئًا لـ”إسرائيل”.
الصدام مع “إسرائيل” ومأزق دا سيلفا
لا شك أن توتير الأجواء مع “إسرائيل” من خلال تصريحات كتلك، والصدام معها وصولًا إلى سحب السفراء، سيكون له ما بعده بالنسبة للرئيس البرازيلي الذي من المتوقع أن يتعرض لضغوط شديدة من اليمين البرازيلي المدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها.
ويمتلك اليمين البرازيلي، خاصة المتطرف، آلة إعلامية نافذة وحضور شعبي قوي، فيما تعد السردية الأمريكية إزاء الصراع العربي الإسرائيلي هي الأكثر حضورًا وانتشارًا وقناعة لدى الشارع البرازيلي بفعل التجييش الإعلامي والسياسي المدعوم بطبيعة الحال من اللوبيات اليهودية والصهيونية.
وكان دا سيلفا نفسه قد تعرض لاستهداف سابق على أيدي هذا التيار المتطرف، حين اتُهم بقضية فساد ورشاوى عام 2018، قيل إنها مفبركة، صُدر بحقه على إثرها حكم بالسجن 14 عامًا، ما منعه من الترشح للانتخابات الرئاسية وقتها، قبل أن تلغي المحكمة العليا هذا الحكم في مارس/آذار 2021 ويُسمح له بالترشح في الانتخابات الأخيرة التي فاز فيها على بولسونارو.
دعما للسلام و #فلسطين.. الرئيس البرازيلي "لولا دا سيلفا" يزرع شجرة زيتون في السفارة الفلسطينية في برازيليا #قناة_الغد pic.twitter.com/9QLxCMiqhB
— قناة الغد (@AlGhadTV) February 11, 2024
يعلم الرئيس البرازيلي تبعات موقفه الحاليّ وتصريحاته ضد “إسرائيل”، لكن إيمانه برسالته ومعتقده السياسي والإنساني كان الغالب في هذا الأمر، فيما يتوقع أن يواجه هجومًا عنيفًا وضغوطًا وابتزاز متعدد الأوجه، من يمين الداخل والخارج ومن حلفاء دولة الاحتلال، وهي الضغوط التي ربما تدفعه – قهرًا – لإبداء بعض المرونة حفاظًا على مستقبله السياسي من جانب، وربما حياته من جانب آخر.
جدير بالذكر أن دا سيلفا منذ بداية الحرب، حاول – قدر الإمكان – التزام الحياد الدبلوماسي، حماية لشعبيته التي قد تتأثر إذا ما انحاز بشكل مباشر وعلني للجانب الفلسطيني على حساب نظيره الإسرائيلي الذي يحظى بشعبية اليمين المتطرف، وحفاظًا على حظوظ حزبه “العمل” في الاستحقاقات الانتخابية القادمة، غير أن تجاوز الانتهاكات الإسرائيلية للخطوط الحمراء والكارثة الإنسانية المحققة التي يواجهها سكان غزة وحرب الإبادة التي يتعرض لها مليونا إنسان، دفعته للتخلي مؤقتًا عن دبلوماسيته الحيادية انتصارًا لإنسانيته ومبادئه.
الانتصار للإنسانية أولًا
لم تكن البرازيل وحدها التي انتصرت في النهاية لإنسانيتها على حساب مقارباتها في تعاطيها مع الحرب على غزة رغم محاولات التزام الحياد ودبلوماسية الانفتاح على طرفي المواجهة منذ بداية المعركة، فهناك دول عدة فجرت عملية الطوفان بداخلها ينابيع الدعم والتأييد للقضية الفلسطينية ولقطاع غزة.
فمع الأيام الأولى للحرب اتخذت بلدان أمريكا اللاتينية على وجه التحديد مواقف مشرفة إزاء جرائم الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضد القطاع، حيث كست أعلام فلسطين شوارع شيلي والأرجنتين وبوليفيا وكولومبيا والبرازيل وكوبا وفنزويلا وغيرها.
البداية كانت مع بوليفيا التي أعلنت قطع العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” واتهمتها بارتكاب “جرائم ضد الإنسانية” خلال عملياتها في قطاع غزة، وكانت قد قطعت علاقاتها قبل كذلك عام 2009 بسبب حرب غزة آنذاك، ولم تُستأنف إلا عام 2020، كذلك كولومبيا التي استدعى رئيسها جوستابو بيترو، سفير بلاده لدى الكيان الإسرائيلي بسبب الأوضاع في غزة، منوهًا في تغريدة له على منصة “إكس” أنه “إذا لم توقف إسرائيل المذبحة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني فلن نتمكن من البقاء هناك”.
الموقف ذاته اتخذته دولة هندوراس التي استدعت سفيرها لدى تل أبيب، بسبب ما أسمته “الوضع الإنساني الخطير الذي يعاني منه السكان المدنيون الفلسطينيون في قطاع غزة”، كذلك شيلي الذي جاء في بيانها أنها استدعت سفيرها لدى “إسرائيل” بسبب ما وصفتها بـ”انتهاكات للقانون الإنساني الدولي” في قطاع غزة.
ماذا عن العرب؟
اللافت هنا أن كل تلك البلدان التي اتخذت هذا الموقف لا يربطها بفلسطين أي عوامل مشتركة، فلا حدود ولا تاريخ ولا لغة ولا ثقافة ولا مصالح مشتركة، وعلى العكس من ذلك تتشابك علاقاتها أكثر مع دولة الاحتلال لا سيما على المستوى الاقتصادي والسياسي، ورغم ذلك كان الانتصار للإنسانية هو الدافع الأبرز بصرف النظر عن أي اعتبارات أو مقاربات أخرى، مع الوضع في الاعتبار الثمن المتوقع أن تدفعه تلك الدول بسبب هذه المواقف.
وفي المقابل فالبلدان التي تتشارك مع فلسطين جغرافيًا وسياسيًا وأمنيا وتاريخيًا وثقافيًا ودينيًا واقتصاديًا وأخلاقيًا لم تحذو ما حذته تلك البلدان التي تفصل بينها وبين غزة عشرات الآلاف من الكيلومترات، في مقارنة فاضحة تعكس حجم الخذلان والانبطاح والانهزامية وتقزيم الثقل العربي والإسلامي.
أيهما اولى: أن يطرد العرب سفراء الكيان الصهيونى من العواصم العربية، أم البرازيل التي طردت أمس السفير الإسرائيلي لديها؟!
أمر مؤسف جدا أن يصل بنا الحال إلى هذا الدرك!
نحن الأقربون وهم الأبعدون، ولكنهم يدعمون الشعب الفلسطيني وكأنهم الأقربون، ونحن نجافي هذا الشعب الشقيق وكأننا… pic.twitter.com/z8zeEygHYP
— أحمد بن خليفة البنعلي (@AhmedKhAlbinali) February 20, 2024
وتتمتع دولة الاحتلال مع 6 دول عربية بعلاقات دبلوماسية كاملة (مصر – الأردن – الإمارات – البحرين – المغرب – السودان)، ورغم استدعاء الأردن والبحرين سفيرهما لدى تل أبيب لكنها خطوة غير كافية في ظل العربدة الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والأمن القومي العربي، فيما التزمت البلدان الـ4 الأخرى الصمت، وعلى العكس من ذلك حين خرجت بعض التسريبات التي تشير إلى احتمالية التلويح باتفاقية السلام الموقعة بين مصر ودولة الاحتلال كورقة ضغط مصرية لإثناء الاحتلال عن جرائمه، خرج وزير الخارجية المصرية ليكذب تلك التسريبات ويؤكد على استمرار الاتفاقية رغم حرب الإبادة التي تشنها قوات الاحتلال على حدود بلاده وتهديدها للأمن القومي المصري بشكل مباشر.
وهنا يبقى السؤال: ألم تحرج بلدان جنوب إفريقيا والبرازيل وكولومبيا وشيلي وهندوراس (غير العربية) بمواقفها الداعمة للفلسطينيين من باب إنساني بحت، البلدان العربية (لا سمح الله)؟ ألا تحرك فيهم أي اعتبارات تدفعهم للتخلي عن راية الخذلان التي يتشبثون بها منذ بداية الحرب؟ ماذا ينتظرون للتحرك؟ وما الثمن الذي من الممكن أن يقدمه الفلسطينيون حتى يتحرك الضمير الإنساني العربي؟