في كل عقد من الزمان تبرز وتتفوق إحدى السينمات القومية لبلد محدد وتفرض نفسها على ساحة السينما العالمية وفي أروقة المهرجانات الدولية الشهيرة حاصدة أرفع الجوائز، وتجعل كل محبي السينما في انتظار كل جديد يصدر عن سينما هذا البلد. هكذا توهجت السينما الإيطالية في الأربعينيات بأفلام الواقعية الجديدة، وجددت السينما الفرنسية من نفسها مع شباب الموجة الجديدة الفرنسية في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، كما تألقت السينما التشيكية أيضًا في عقد الستينيات وقدمت أفضل أفلام السينما العالمية وقتها ومخرجين جددوا فيما بعد شباب السينما الأمريكية ذاتها مثل ميلوش فورمان، وفي السبعينيات عادت السينما الألمانية إلى مجدها، أما في التسعينيات فقد توجهت أنظار العالم إلى الأفلام القادمة من إيران.
يتناول الفيلم قصة الطبيب “روميو ألديا” ومحاولاته الدؤوبة لإخراج ابنته طالبة الثانوية العامة “إليزا” من رومانيا من خلال حصولها على إحدى المنح التعليمية من إحدى الجامعات البريطانية، مؤمنًا أنه لا مستقبل مضمون لابنته في بلد مثل رومانيا يعتمد نجاح الشخص فيه على الوساطة
ومع الألفية الجديدة أتى الدور على رومانيا لتفرض نفسها على ساحة السينما كأهم سينما موجودة حاليًا، بعدما قدمت عددًا من الأفلام المدهشة في عدد قليل من السنين مثل فيلم “موت السيد لازاريسكو” عام 2005 للمخرج كريستي بيوى، والفيلم الروماني الأبرز “4 شهور و3 أسابيع ويومان” للمخرج الروماني المتميز كريستي مونجيو، والذي حصد عن فيلمه جائزة السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 2007، ليصبح من وقتها كلاسيكية سينمائية تنضم دائمًا لقوائم أهم أفلام الألفية وإلى الآن. في العام الماضى عاد كريستي مونجيو بفيلم سينمائي فائق الأهمية حصد عنه جائزة الإخراج في مهرجان كان الشهير.
وكان الفيلم تحت عنوان “بكالوريا” وهو نفس الاسم الذي كان يطلق على شهادة الثانوية العامة بمصر قديمًا وما زال سائدًا في بعض البلدان العربية، والحقيقة أن التشابه لا يقتصر على عنوان الفيلم فقط بل يمتد أيضًا إلى الدراما التي يطرحها الفيلم والتي تشبه ما يسود في مجتمعاتنا العربية إلى حد غريب، بحيث لو نقلنا الفيلم إلى البيئة المصرية أو المغربية مثلًا لما شعرنا بأي اختلاف مما يدل على أن البيئة الرومانية تشبه إلى حد كبير البيئة العربية خاصة في الوقت الحالي، والمقصود بالبيئة هنا العرف الاجتماعى وطبيعة النظام السائد في كلا المجتمعين. وبينما كانت أحداث فيلم “4 شهور و3 أسابيع ويومان” تدور في الثمانينيات من القرن الماضي في أواخر عهد ديكتاتورية شاوشيسكو، فإن الأحداث في فيلم “بكالوريا” تدور في رومانيا المعاصرة.
يتناول الفيلم قصة الطبيب “روميو ألديا” ومحاولاته الدؤوبة لإخراج ابنته طالبة الثانوية العامة “إليزا” من رومانيا من خلال حصولها على إحدى المنح التعليمية من إحدى الجامعات البريطانية، مؤمنًا أنه لا مستقبل مضمون لابنته في بلد مثل رومانيا يعتمد نجاح الشخص فيه على الوساطة والمعارف وتقديم الخدمات المتبادلة وليس على قدر اجتهاد الشخص.
الطبيب الروماني روميو وزوجته ماجدا الموظفة البائسة بإحدى المكتبات المدرسية من الجيل الذي عاد إلى بلده رومانيا بعد سقوط الديكتاتور شاوشيسكو، وكان متفائلاً بحدوث تغيير إلى الأفضل حيث ظن الجميع أن بمقدورهم تحريك الجبال إلا أنهم لم يستطيعوا أن يحركوا أي شيء كما اعترف لابنته في لحظة صدق مفعمة بالانكسار، لذا يقنعها بألا تضيع عمرها كما ضيعوا عمرهم في هذا البلد الذى لا أمل في تغييره إلى الأفضل، حتى العلاقات الإنسانية فقدت بهجتها وحيويتها في مثل هذا المجتمع، فعندما تبث البنت مخاوفها لأبيها بأنها سوف تفتقد أصدقاءها عندما تسافر إلى بريطانيا فإن الأب الطبيب يستهين بقلقها ويذكرها بأن عليها أن تفكر في مصلحتها ومستقبلها فقط، وأنه سيسهل عليها تكوين صداقات أخرى في المجتمع البريطاني.
هذا الحديث لا يصدر عن قسوة أو أنانية من الأب، بل هو في الحقيقة شخص دمث ومهذب ورقيق في تعاملاته لكنه ما عاد يؤمن بإمكانية استمرار أي علاقة في مجتمع كهذا، حتى علاقته بزوجته ماجدا أصبحت شبه ميتة وانتهت منذ زمن، فالزوجة شاحبة مريضة بالصداع أغلب الوقت، وروميو متجهم دائمًا يبدو وكأن روحه قد انكسرت وما عاد يأمل في شيء سوى إنقاذ ابنته بإرسالها إلى الخارج، وحتى عندما نعلم بعد ذلك أن الطبيب على علاقة بشابة تدعى ساندرا، مطلقة وأم لصبي صغير يعاني من صعوبة في النطق، وتعمل موظفة في المدرسة التي تدرس بها ابنته، ونشاهده وهو يختلس معها لحظات حب صغيرة في شقتها الضيقة، إلا أنه لم يعد يأمل في حياة سعيدة كما يقول لزوجته ماجدا وهو يعترف لها بحقيقة علاقته بساندرا.
منذ بداية الفيلم وهناك جو من القلق وإحساس بالخطر يداهم المشاهد مع أول مشهد ونحن نرى طوبة تهشم زجاج نافذة منزل الدكتور روميو ثم يتكرر الأمر مع زجاج سيارته دون أن نعلم أبدًا من الفاعل، ولماذا يفعل ما يفعل، وحتى حادثة الفيلم الرئيسية والتي تفجر دراما الفيلم وهي تعرض الابنة إليزا لمحاولة اعتداء عليها في شارع جانبي بجوار مدرستها قبل الامتحانات بيوم، لم نعرف أبدًا وحتى نهاية الفيلم من الذي اعتدى على البنت في إشارة لمونجيو بأن هذا ليس حادثًا فرديًا، وليس المهم معرفة الفاعل لأنه حادث يتكرر يوميًا في رومانيا. وكما قال روميو لصديقه رجل البوليس إيفانوف إن حوادث مثل هذه لا تحدث في الخارج بنفس الشيوع الذي تحدث به في رومانيا، وينقل لصديقه مخاوفه بشأن تلك الحادثة التي أصابت ابنته بالصدمة والتي حتمًا ستؤثر على أدائها في بقية الامتحانات النهائية، وربما لا تحصل على الدرجات المتوقعة لها والتي تلزمها للفوز بمنحة الجامعة البريطانية.
الفيلم عبارة عن دراما ومعضلة أخلاقية يغزلها مونجيو ببراعة ونزاهة، فهو لا يدين الأفراد بقدر ما يدين المجتمع الذي يدفعهم لمثل هذه التجاوزات
هنا يأتي الاختبار الحقيقي أمام الطبيب بالعرض الذي يعرضه عليه صديقه رجل الشرطة إيفانوف، هل سيقبل روميو أن يقدم خدمة إنسانية لبولاي نائب العمدة المريض بالكبد وذلك بأن يدفع اسمه إلى أول قائمة المنتظرين لعملية زرع كبد وذلك بواسطة زملائه – الدكتور روميو – بوزارة الصحة مقابل أن يقوم نائب العمدة بمفاتحة المسؤول عن تصحيح الامتحانات بحيث يمنحون الابنة الدرجات التي تلزمها للحصول على المنحة؟
هي دراما ومعضلة أخلاقية يغزلها مونجيو ببراعة ونزاهة، فهو لا يدين الأفراد بقدر ما يدين المجتمع الذي يدفعهم لمثل هذه التجاوزات والتي هي مجرد “خدمات متبادلة”، فنائب العمدة رجل في أواخر مراحل مرضه وحتى إن كان سلوكه الوظيفي واستغلاله لمنصبه ليس فوق مستوى الشبهات إلا أننا نراه مريضًا بالفعل وعلى وشك الوفاة وهو فعلًا بحاجة إلى عملية ينقذ بها حياته، وهو لا يريد فقط سوى التعجيل بعمليته بل يعرض على الطبيب بإصرار مبلغ العملية، مؤكدًا أن مساعدته لابنته تعتبر لا شيء مقابل إنقاذه لحياته، حتى رئيس شؤون الامتحانات يقول للدكتور روميو إنه لا يتبع مثل هذا الأسلوب، فهو رجل شريف، لكنه يعلم بالحادث الذي تعرضت له ابنته، ويقول بأنه ليس من العدل أن تدفع البنت ثمن الانفلات الأمني في شوارع رومانيا.
عندما يحدث روميو زوجته ماجدا بأنهما يجب أن يقنعا ابنتهما إليزا بتعليم أوراق إجاباتها بعلامة متفق عليها حتى يساعدها المصححون في الحصول على الدرجات اللازمة تبدو الزوجة نفسها رافضة للجوء إلى الغش مقتنعة أنه طريق لا رجوع عنه، فهي لن تستطع إخبار ابنتها اللجوء لمرة واحدة لوسيلة غير مشروعة حتى لا تضيع منها الفرصة ومن بعدها يمكنها أن تعود إلى الطريق القويم، يقول لها روميو بمرارة إنها – ماجدا – دفعت ثمن استقامتها وها هي مجرد موظفة مكتبة بائسة لا يشعر بها أحد.
وأمام رفض الأم يحاول الأب وحده إقناع ابنته باللجوء لمثل هذا الحل إلا أن الابنة لا تبدو مقتنعة بل وفي داخلها تعرف أن والدها ما زال الرجل المستقيم لكن عاطفة الأبوة عنده غلبت المبادىء المقتنع بصحتها، حتى عندما يحقق رجال النياية فيما بعد مع روميو بصورة غير رسمية في المستشفى، وكانت قد تسربت لهم تسجيلات أحاديثه مع نائب العمدة، يخبره أحدهم أن لكل جواد كبوة، وهو رجل معروف بنزاهته وهم مثله أباء ويقرون بأنهم لا يعرفون كيف كانوا سيتصرفون لو كانوا في مثل موقفه، ربما لأن عاطفة الأبوة تطغى على أي نبل أخلاقي.
بنهاية الامتحانات تخبر إليزا أباها بأنها لم تقم بتعليم ورقتها كما اتفقت معه، هم منحوها وقتًا إضافيًا للإجابة ووجدت أن هذا كافيًا، كما أنها لا تود أن تغادر بلدها رومانيا، فيقبل الأب رأس ابنته، ورغم خوفه عليها يصارحها بأنه فخور بها لأنها اتخذت القرار الصائب وبإرادتها الحرة، فتبتسم الابنة وتدعو الأب أن يلتقط صورة جماعية لها وهي بين زملائها احتفالًا بتخرجهم من المدرسة، وينتهي الفيلم على لقطة جماعية لشباب غض ما زال يبتسم ببراءة، ولم يتعلم بعد لعبة التنازلات والخدمات المتبادلة، وربما بتضامنهم معًا يستطيعون تغيير رومانيا إلى الأفضل.