تختلف المناهج الحياتية في فقه الواقع وتكريس القيم والشرائع عليه، إلا أنها كلها التقت على أهداف مشتركة واجتمعت على غاية واحدة وهي بلوغ الحد الأقصى من الحقيقة الإنسانية في أبعادها الحياتية والعقائدية والسلوكية في إطار المجتمع، ولذلك جاء الإسلام كمنهج شامل يحمل المجتمعات من التعصب القبلي إلى التمدن مظهرًا وسلوكًا ويدفع الناس بحكمة بالغة أساسها الفرد والأسرة وشموليتها المجتمع لبلوغ المفاهيم الكونية السوية التي ينبثق عنها الفرد والمجتمع المثالي.
فالإسلام دين التمدن سلوكًا وأخلاقًا وإحاطة بالأرحام، وهو البوتقة الشاملة للقواسم المشتركة بين المناهج في القيم السامية، إلا أن كل منهج مهما بلغ من القيم فقد يسقط عنوانه بفعل الفقه السقيم والفهم السطحي لآليات التطبيق على الواقع والتأثر بكل ما هو سموم فكرية ديماغوجية.
لقد جاء الإسلام بعد الثورة المحمدية على عصبية قريش بمفهوم “المدينة”، حينما تحول المجتمع، من مهاجرين وأنصار، من مجتمع قبلي إلى مجتمع مدني قوامه الحرية والتعايش السلمي بين مكوناته، المجتمع الصغير الذي جمع خليطًا في مدينة تنشأ على مفاهيم متينة لتؤسس فيما بعد كيانًا بشريًا شاسعًا، جمع من الأعراق والأطياف والأديان ما كان ينسجم ويتعايش تحت ظل قيم تشمل الكل، فنحن نتحدث عن مجتمع جمع تميم وقريش وفارس واليهود والمسيحيين.
هل أفلحت الوهابية في تكريس مفهوم التمدن في سلوك المجتمع وفي تصور الشاكلة السليمة للفرد والأسرة في ظل المدينة أم أنها كرست العكس تمامًا؟
وقبل أن تتنزل أي شريعة من السماء على محمد ومجتمعه كان الأساس موجودًا لتقبل تفاصيل الشريعة، وهو المناخ الحر والعادل الذي تقوم على أساسه المدينة ويتجلى من خلاله السلوك البشري في بعده الأخلاقي الذي يعتمر به الخلاء ليكون مشهدًا منظمًا حسب الطبيعة المجتمعية، وما مشهد العمران إلا انعكاسًا لصورة نفسية المجتمع، وكلما تنظم المشهد في عمرانه كلما تكرس الإسلام في القوم الذي ينطبق عليهم مفهوم العدل، وفي ذلك خلدت مقولة ابن خلدون “العدل أساس العمران”.
فالمدينة المنظمة التي تشمل مؤسسات في شتى الفروع وتقوم على اقتصاد قوي وتسوس وتُطعم أفرادها وتؤمنهم من خوف، هي ليست إلا صورة للنواة المجتمعية التي أُنشأت عليها، ألا وهي الفرد في نفسه وبدرجة جماعية “الأسرة”.
وهنا يأتي السؤال عن أكبر المناهج التي طغت على الفكر الإسلامي طيلة العقود الماضية، هل أفلحت الوهابية في تكريس مفهوم التمدن في سلوك المجتمع وفي تصور الشاكلة السليمة للفرد والأسرة في ظل المدينة أم أنها كرست العكس تمامًا؟
وعن تجليات هذا المنهج وغيره على أرض الواقع لا سيما في مرحلة ما بعد الثورات العربية، فلعل أبرز ما نستخلصه هو حالة التشرذم التي شهدتها التجارب الإسلامية في الحكم في أكثر من قُطر، بين أن تتسم بالوهابية من قبل العلمانيين وأن تتسم بالعلمانية من جهة أخرى من طرف السلفيين، وبين العلمانية والوهابية والتخبط الهووي الذي شهدته هذه التجارب بينهما يحل سؤال آخر: أيهما أقرب في جوهره لفقه الواقع بالقواعد العامة للإسلام في ظل هذا التناقض الشكلي العقيم بين كليهما؟ لا سيما أن رواد الوهابية يكفّرون العلمانية والعلمانيين على أساس المظهر ورواد العلمانيين يصنفون الإسلام دينًا عدائيًا من خلال المظهر والجوهر وصورة الوهابيين وما أنتجوه من تطرف طيلة الحقبات الماضية.
وبين المفهومين وجب العودة مجددًا إلى مفهوم التمدن والعدل والحرية في كل من جوهرهما، وإننا لو تحدثنا عن العلمانية فسنجدها حسب السياق التاريخي منهجًا جاء كنتيجة زمن مديد من التناحر الديني بين الكاثوليك والبروتستانت، تناحر عقبته ثورة تنويرية قادها الفلاسفة ليستخلصوا مفاهيمها للمجتمع السليم الذي يتمدن في ظل دولة يُفصل فيها الديني عن السياسي وتنشأ فيها المؤسسات بمنأى عن المعتقد والعبادات، ليعيش كل في ظل تشريعات تقوم على أساس إنساني شامل، وتجليات هذا المنهج مهما شذّ من مظاهر فهي واضحة في الغرب وعمرانه، وحتى إن فسدت السياسة ونخبتها فإن المجتمع به الأسس الثابتة التي تحافظ له على مناخ التعايش بحرية وسلوك تطغى عليه الأخلاق الحسنة.
أما الوهابية فهي منهج وُجد دائمًا تحت ظل السلطان، يتلخص دوره في الحكم على الفرد والمجتمع دون تحت نشوة سلطانه الذي يستهوي ترعيب الرعية بصنم الموروث الديني و تخديرهم بمعجم العاطفة في السيرة والإعجاز الوهمي.
القرآن خاطب محمدًا في ثلاثة أبعاد، في كونه رسولًا وفي كونه نبيًا وفي كونه محمد الإنسان
لقد عبثت الوهابية بمفاهيم الإسلام عن طريق اعتماد “المقدس” كأساس لا يُمس، ونجحت في الهيمنة العاطفية على الفرد فالأسرة فالمجتمع باستخدام موروث سني مصنّم كل من اقترب منه إلا لقي نصيبه من التكفير والتنفير، حتى أنتجت بذلك كائنات عدائية ترفض الجميع، ولأن العاطفة كلما أفرطت على العقل كانت النتائج كارثية، فنتيجة الفكر الوهابي تجلت في القيود التي وُضعت بأساس شهواني عاطفي فُرضت على الفرد من خلال أسس لا صحة لها. الفكر الذي يقوم على الذكورية تجلت نتائجه في المرأة في المجتمعات العربية والخليجية منها خاصة بكبتها وجعلها كالدابة الجنسية، والفكر الذي نظّر على أن منظومة الدفاع في الإسلام هي منظومة سبي واغتصاب فتجلى ذلك في بؤر الدواعش، والفكر الذي جعل الإسلام مظهرًا لا جوهرًا جعل من التقوى لحية وبصمة على الجبين، والفكر الذي مهّد للظلم فأعطى الولاء والبراء للطغاة وشرع لهم أعمالهم، ولعل هذا الزمن أثبت ذلك في كل من مصر والسعودية وغيرهما.
ولعل أحد الأسئلة المؤرقة دائما كلما يتم الاقتراب من الموروث، إن كان القرآن هو الحق والثابت والبقية اجتهاد بشري متغيّر فلماذا سُمي “الصحيح” بالصحيح؟ ولماذا أُضفيت عليه هذه القداسة منذ أن كُتب وهو اجتهاد؟ وكيف للبشر أن يضفي على اجتهاده الصحة إن كان الصحيح الوحيد الذي يحيط بالزمان والمكان هو كتاب السماء؟
لقد أنتج الاعتماد الأعمى على صحيحي مسلم والبخاري في تقويم سلوك الفرد والجماعة الكثير من الفساد والمغالطات في فقه الواقع، فلم يفرق ناقل الحديث بين الوصيتين لمحمد صلى الله عليه وسلّم، أولًا النبي الذي قال “لا تكتبوا عني” وثانيًا الرسول الذي قال “انقلوا عني ولو آية”، وكأن من جمع الصحيح لم يفقه أن القرآن خاطب محمدًا في ثلاثة أبعاد، في كونه رسولًا وفي كونه نبيًا وفي كونه محمد الإنسان، الرسول الذي لا ينطق عن الهوى والذي تُنقل عنه الآيات والنبي الذي يُؤمر وينهى في القرآن لأنه يجتهد في فهم الشريعة وأما الإنسان فهو ابن امرأة تأكل القديد، يخطئ كما يخطئ كل البشر ولذلك خوطب بالضمير في معظم القرآن لا بالمناداة.
بين تجليات العلمانية والوهابية فإن الأساس القويم والأساس النخر في البعد المدني واضح، وإننا لو حكمنا العقل على العاطفة ونظرنا إلى المجتمعات التي تكرس عليها المنهجان فسندرك جيدًا أيهما أقرب
ومن هذا فواقعنا اليوم في حاجة إلى تغيير ثلاثية القرآن وصحيح مسلم وصحيح البخاري بثلاثية أخرى قد تكون متغيرة حسب الثقافة الفقهية ولكن أحسبها أقوم وأنفع في ظل طغيان العاطفة على العقل في ترجمة النص على الواقع وهي ثلاثية القرآن ولسان العرب ومقدمة ابن خلدون، فالقرآن هو الثابت وما يحيط به هو المتغير، والقرآن جُعل عربيًا تحديًا لأولي الألباب، ولأن من أكبر أسباب أزمة الفقه عدم تأصيل المصطلحات إلى جذرها الثلاثي والرباعي وفهم معناها الصحيح، فلسان العرب من يعتبر من أعظم مراجع اللغة العربية والقرآن جاء بثلث اللغة العربية واللسان فيه ثراء معجم، لذلك فهو وسيلة حقيقية لفهم النص وتدبره حينما تتوقف عند كل مصطلح غامض، فنحن اليوم في تدبرنا للايات نستعمل “جوجل” وموقع “معاني” في بحثنا عن المفردات أكثر من استعمالنا لتفسير ابن كثير والطبري.
أما مقدمة ابن خلدون وغيرها من مراجع علم الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي فهي من أهم مفاتيح فقه واقعنا اليوم الذي يحتاج إلى فهم في النفسية الاجتماعية، لا سيما أن القرآن ركز كثيرًا على الأقوام وطباعهم النفسية من خلال حواراتهم مع الأنبياء، ومن هذا فإن ابن خلدون من مؤسسي الفقه المدني والاجتماعي البعيد عن العاطفة الدينية التي تتجلى بوضوح في الناس من خلال الديماغوجيا الوهابية بفقهها للواقع بطابعها الخرافي الحماسي الذي يكتسي بالحمية الجاهلية لقداسة السيرة.
وبين تجليات العلمانية والوهابية فإن الأساس القويم والأساس النخر في البعد المدني واضح، وإننا لو حكمنا العقل على العاطفة ونظرنا إلى المجتمعات التي تكرس عليها المنهجان فسندرك جيدًا أيهما أقرب.