كتالونيا، 7.5 مليون نسمة، قومية ذات تاريخ متفرد ولغة مستقلة تعود في أصولها إلى اللاتينية، أغنى إقليم من أقاليم إسبانيا السبعة عشر وبقرتها الحلوب، ما شئت من أنهار متدفقة وجبال شاهقة وطبيعة خلابة ومصانع على امتداد البصر، نسبة ما تفيض به على ميزانية الدولة أكثر مما تناله منها، فالكتالونيون يشكلون 16% من مجموع السكان، وتنتج كاتالونيا 25% من صادرات الدولة، وتستضيف 23% من النشاط الصناعي في البلاد، بينما لا تتلقى سوى 11% من نفقات الدولة فقط، في حين تصل حصتها من الناتج الوطني الخام إلى 19%.
فمن ناحية اقتصادية صرفة يمكن إدراك دوافع الطرفين، أقصد هنا الحكومة الإقليمية والحكومة المركزية، فإحداهما تعتبر نفسها خاسرة من طبيعة العلاقة غير المتوازنة وتواضع الاستفادة العامة من موارده الذاتية التي تتوزع على باقي الأقاليم بشكل أكبر، والثانية تخشى ضياع كل تلك الفوائد والأرباح في ظل أزمة مالية ضربت البلاد منذ 2008 لم تتعاف منها إسبانيا إلا جزئيًا.
لكن ماذا عن العوامل الخارجية والأطراف الأخرى التي تساهم بشكل أو بآخر في تأزيم الأوضاع الداخلية في إسبانيا وعموم دول الاتحاد الأوروبي؟
لم تعد روسيا ذلك الدب الهرم الذي يجتر نفس الشعارات والأفكار المتصلبة للينين وتروتسكي والثورة البلشفية، والجندي الجاف الملامح والمدجج بالنياشين الحديدية والمدمن على شرب الفودكا كما تصوره هوليوود عادة في قوالبها الجاهزة
لقد تجرأ الروس على أوروبا والولايات المتحدة مرتين في تحركين مهمين يشكلان تحولاً نوعيًا في السياسة الخارجية الروسية، وساهما في نمو مضطرد لنفوذ الاتحاد الروسي على الساحة الدولية، أولهما: في أزمة شبه جزيرة القرم عندما اجتاحت روسيا الإقليم وضمته لسيادتها وحصنت شبه الجزيرة على امتداد السنوات الثلاثة الأخيرة بوسائل الدفاع الثقيلة، آخرها نشر أنظمة الصواريخ كاليبر وs400 ومضاعفة حضورها العسكري خلال السنتين الماضيتين إلى الضعف لردع أي تدخل أمريكي محتمل في مناطق نفوذها القديمة.
وثانيهما: عندما دخلت على خط الانتخابات الرئاسية الأمريكية، واختراقها لحساب مرشحة الرئاسة هيلاري كلنتون، ونشر الروس آلاف التغريدات التي تحتوي على رسائل من البريد الشخصي للأخيرة قاصدة التأثير على قرار الناخبين الأمريكيين لصالح دونالد ترامب.
لم تعد روسيا ذلك الدب الهرم الذي يجتر نفس الشعارات والأفكار المتصلبة للينين وتروتسكي والثورة البلشفية، والجندي الجاف الملامح والمدجج بالنياشين الحديدية والمدمن على شرب الفودكا كما تصوره هوليوود عادة في قوالبها الجاهزة، ولم يعد الروس مهتمين فقط بالتسلح وتضخيم قوتهم العسكرية نوعًا وكمًا لمجرد أن يتركهم الغرب في حالهم، بل أصبح لهم اهتمام متزايد بمناطق كانت حتى زمن قريب بعيدة عن تدخلاتهم، كما استعادت أجهزة الاستخبارات الروسية أمجادها واتسعت دوائر اختراقها لتشمل دولاً كبرى، وجددت وسائلها الدعائية بشكل جذري، فبات للروس حضور مهم على الصعيد الإعلامي والمواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي.
لقد جعل بوتين من الإعلام التقليدي والإلكتروني سلاحًا لضرب الأعماق الأوروبية وخلق إزعاج كبير لدول الاتحاد
لقد أدرك الرئيس بوتين ذلك منذ زمن، عندما قرر إطلاق قناة روسيا اليوم ودشن عهدًا جديدًا للبروباغاندا الروسية، وجعلها تتوجه إلى كل أمة بلسانها، وتروج لسياسة الكرملين عبر مواقع إلكترونية ومراكز أبحاث متطورة وذات كفاءات عالية.
لقد جعل بوتين من الإعلام التقليدي والإلكتروني سلاحًا لضرب الأعماق الأوروبية وخلق إزعاج كبير لدول الاتحاد، وعمل على استغلال الأزمات التي تمر بها دول الاتحاد الأوروبي لينتقم من موقفها العدائي منذ اشتعال الأزمة الأوكرانية، وآخرها العقوبات الأوروبية ضد شركات ورجال أعمال روس على خلفية التوربينات الموجهة إلى شبه جزيرة القرم.
إنه يعاملهم بالمثل، ولا يعتقد أن أمريكا والاتحاد الأوروبي يمثلان معيارًا أخلاقيًا لسياسات الدول أو سلطة مرجعية يتحتم الرجوع إليها قبل اتخاذ أي قرار، فقد قال في 2014 عقب الهجوم الذي شنه الاتحاد الأوروبي وواشنطن عقب ضمه لشبه جزيرة القرم: “يعتقدون أنهم يتمتعون بمكانة استثنائية، ويشعرون أنهم المختارون وبإمكانهم تقرير مصائر العالم، وأنهم فقط من هم على حق”.
يومها اعترض الأوروبيون على الاستفتاء، وقالت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل: “ضم روسيا لشبه جزيرة القرم بعد الاستفتاء وإعلان استقلالها انتهاك للقانون الدولي، وما يسمى بالاستفتاء انتهك القانون الدولي، كما أن إعلان الاستقلال الذي قبله الرئيس الروسي يتعارض مع القانون الدولي، وضم القرم إلى الاتحاد الروسي في رأينا ينتهك كذلك القانون الدولي”.
هو اليوم يلعب نفس الدور، لكن هذه المرة مع الاستفتاء في كتالونيا من أجل تقرير المصير، ويستعمل قنواته الإعلامية القوية ومواقعه الإلكترونية وتحليلات الأكاديميين والخبراء والكتاب الدائرين في الفلك الروسي، وحتى الحسابات المجهولة والموجهة على تويتر لإذكاء فتيل حرب أهلية بدأت تتشكل بوادرها بعد إعلان المحكمة الدوستورية الإسبانية عدم قانونية الاستفتاء الذي أقره البرلمان الكتالوني، وإسقاط القضاء الإسباني الشرعية عن الهيئة التي كان من المفروض أن تشرف على نزاهة الاستفتاء.
وقادت حكومة راخوي في مدريد انقلابًا على الشرطة الكتالونية “لوص موصوص” الدراع الأمني للقومية الكتالانية – والذي يأمل عليه القوميون كثيرًا لردع أي محاولة من الحكومة المركزية لإجهاض الاستفتاء – وحذرت مدريد على لسان وزير الداخلية رئيس الشرطة خوسيب ترابيرو من مغبة عدم التنسيق مع السلطات المركزية، وعصيان الأوامر القادمة من مدريد، والتمرد على توجيهات وزارة الداخلية التي أرسلت تعزيزات إلى الإقليم لمنع أي محاولة لإجراء الاستفتاء في أكتوبر القادم، مما يعتبر إجراءً استباقيًا لأي تخاذل أو تواطؤ للشرطة الكتالونية مع القوميين في الإقليم.
صحيفة واشنطن بوست أشارت إلى ما أسمته “صراعًا على الشارع” في كتالونيا بين الحكومة المركزية في مدريد والشرطة الإقليمية المعروفة بـ”لوص موصوص”، وألمحت إلى أن هناك تنازع بين وزارة الداخلية والأمن الكتالوني بشأن قيادة هذا الجهاز في هذه الفترة التي تسبق موعد الاستفتاء.
فحكومة مدريد يبدو أنها لا تثق في نوايا شرطة الإقليم التي في نظرها لا تبدي حزمًا كافيًا لمنع حصول الاستفتاء، وقد تداولت الصحف تصريحًا لرئيس الجهاز جواسيب ترابيرو يدعو فيه أفراد الشرطة إلى عدم الاستجابة لمطالب الداخلية، مما ينذر باصطدام محتمل بين الجهاز الأمني الإقليمي والسلطة المركزية في مدريد.
ليست هذه المرة الأولى التي تتعرض فيه إسبانيا وكتالونيا للاقتتال الداخلي، وقع ذلك في زمن فرانكو عندما دخل الإقليم بعد ثلاثة أعوام من الحرب الأهلية وألغى المؤسسات الكتالونية وألغى المعاملات الرسمية باللغة الكتالونية وقضى على جميع مظاهر الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به هذا الإقليم الغني في شمال شرق البلاد.
اتهمت الجريدة القومية الإسبانية الذائعة الصيت روسيا بتجريد ماكينة إعلامية لنشر الدعايات المغلوطة وترويج الأكاذيب والأراجيف عن السياسة الداخلية للحكومة الإسبانية تجاه الأزمة في كتالونيا
في مقال نشر في جريدة إل باييس الإسبانية، عرض فيه كاتبه التدخلات الروسية السافرة في شؤون الاتحاد الأوروبي الداخلية، فبعد دعمها من وراء حملات مقنعة لخروج بريطانيا من عروة الاتحاد، ومساندتها للحزب الوطني العنصري لمارين لوبين في انتخابات الرياسة الفرنسية، وللحزب اليميني المتطرف في ألمانيا الذي تمكن من خلال اقتراع الأحد الماضي أن يقتحم لأول مرة أبواب البوندستاغ (البرلمان)، ها هو اليوم يدخل على خط الأزمة المتصاعدة في إسبانيا.
فقد اتهمت الجريدة القومية الذائعة الصيت روسيا بتجريد ماكينة إعلامية لنشر الدعايات المغلوطة وترويج الأكاذيب والأراجيف عن السياسة الداخلية للحكومة الإسبانية تجاه الأزمة في كتالونيا، وأن الروس حسب كاتب المقال دافيد ألنديتي وجدوا في كتالونيا فرصة أخرى لتعزيز نفوذهم الدولي وتعميق الخلافات في داخل الاتحاد الأوروبي من خلال مجموعة من المواقع الإلكترونية والشبكات الاجتماعية الموالية للاتحاد الروسي، والتي تقدم استنتاجات مغلوطة وتحليلات مغرضة هدفها زعزعة الاستقرار في شبه الجزيرة الإيبيرية.
تقول الجريدة إن المواقع الموالية لروسيا ترسم صورة قاتمة لما يجري وتشبه الإجراءات التي تتخذها حكومة مدريد بما قام به فرانكو عام 1939، وبعض تلك المواقع وضعت صورته وهو يمتطي فرسه كخلفية لمواضيع تخص الأزمة في كتالونيا، مشيرة إلى أن روح الديكتاتورية لا زالت تجد امتدادًا في السياسة الداخلية الإسبانية في تعاطيها مع الاستفتاء.
وتضيف الصحيفة أن الروس استعانوا بخدمات نشطاء مثل مبرمج الكمبيوتر الشهير جوليان أسانج الذي يشن حملة محمومة هذه الأيام على حسابه في تويتر ضد إسبانيا مجهزًا بجيش من المتابعين المجهولين والحسابات المزورة التي تعيد تغريد تغريداته ونشرها على نطاق واسع، باعتماد برنامج شبكة الروبوت التي تتحكم في ملايين البوتات التي تعيد التغريد التلقائي لتغريدات أسانج، وبوسعها في رأي الكاتب أن تحيل الأكاذيب الملفقة إلى حقائق وقناعات متداولة.
وأشار المقال إلى أنه ليس من قبيل الصدفة أن تقوم وسيلة إعلامية وعنصر من عناصر الدعاية الروسية الممولة من الكرملين مثل قناة روسيا اليوم، بتوظف بوابتها الإلكترونية الناطقة بالإسبانية لنشر أخبار ذات ميول متنافية مع الشرعية الدستورية لإسبانيا، في إشارة إلى الموقف من الاستفتاء الكتالوني الذي صدر حكم قضائي ببطلانه قانونيًا.
في 12 من سبتمبر أذاعت القناة نفسها تغريدة على موقعها لأسانج يتنبأ فيها الرجل بـ”ميلاد كتالونيا كدولة مستقلة أو الحرب الأهلية” وهي التغريدة التي تشاركها 1700 شخص على فيسبوك وتويتر
فمنذ 28 من أغسطس نشر الموقع 42 خبرًا عن الأزمة الكتالونية، بعضها يحمل عناوين مغلوطة مثل: “الاتحاد الأوروبي يحترم استقلال إقليم كتالونيا، لكن سيكون عليه أن يتبع إجراءات الانضمام (إلى الاتحاد)”، يضيف الكاتب، روسيا اليوم تعرض تقاريرًا وتحليلات تعبر عن وجهة نظر الحكومة الروسية حول الحرب في سوريا، استفزازات كوريا الشمالية أو إدارة الرئيس دونالد ترامب، إضافة إلى أنها اليوم أضحت تعيد الصدى الذي تحدثه رسائل نشطاء مثل جوليان أسانج التي تتوافق مع مصالح موسكو.
رسائل الحب والحرب
في 12 من سبتمبر أذاعت القناة نفسها تغريدة على موقعها لأسانج يتنبأ فيها الرجل بـ”ميلاد كتالونيا كدولة مستقلة أو الحرب الأهلية” وهي التغريدة التي تشاركها 1700 شخص على فيسبوك وتويتر.
وتصف الجريدة أسانج بأنه تحول إلى المهيج الرئيسي للأزمة الكتالونية على المستوى الدولي، ناشرًا آراءه الشخصية كما لو كانت أخبارًا ووقائع حقيقية، وحسب بيانات موقع audiense وهي منصة متخصصة في تحليل بيانات مواقع التواصل الاجتماعي فإن أسانج في سبتمبر فقط تمت الإشارة إليه 940 ألف مرة على تويتر الغالبية العظمى منها كانت وسوم (هاشتاغات)متعلقة باستقلال كتالونيا: Catalonia,1oct,Catalonianreferendum,1o,Rajoy.
وساق المقال إحدى التغريدات لأسانج في 15 من سبتمبر التي أحرزت أكبر تفاعل عن استفتاء كتالونيا عبر العالم، ينتقد فيها محاولة الحكومة الإسبانية الالتفاف على حق الشعب الكتالوني في تقرير مصيره بأعذار القانون وذرائع القضاء، جاءت التغريدة التي حظيت بـ12000 إعادة تغريد و16000 إعجاب كالتالي: “أدعو الجميع إلى دعم حق كتالونيا في تقرير مصيره، إسبانيا لا يمكن السماح لها بتقنين إجراءات قمعية لمنع التصويت”.
تنبه الجريدة إلى أن المعهود في مثل هذه الشبكة الاجتماعية أنها تسمح للتغريدات بالتناسل وإعادة إلانتاج الذاتي على امتداد عدة أيام، لأن فعل تداول التغريدة أو الرسالة مرهون بإرادة وقرار المتابعين المتوزعين عبر دول متعددة.
في حالة هذه التغريدة “الأسانجية” كغيرها من كثير من التغريدات لنفس الكاتب، أحرزت أكثر من 2000 إعادة تغريد في ساعة واحدة، وبلغت مداها الأقصى 12000 إعادة في أقل من نصف يوم.
من ضمن النشطاء الذين وصفهم الكاتب بالمنضمين إلى حملة أسانج، إدوارد سنودن الذي كان يعمل محللاً لدى الاستخبارات الأمريكية وهو الآن مطلوب للعدالة في الولايات المتحدة لاتهامه بالتخابر مع موسكو قبل أن يطلب اللجوء إلى روسيا
وكي تتناسل رسالة بهذا الشكل السريع بل والمريع، تضيف الجريدة، فإنها تخضع لتدخل برنامج البوت أو الحسابات المزورة المبرمجة فقط للاستجابة التلقائية وعملية إعادة التغريد الآلية لرسائل معينة، وحسب الجريدة فإن تحليلاً مفصلاً عبر خدمة TwitterAudit لعينة ضمت 5000 متابع لأسانج على تويتر أظهر أن 59% من تلك الحسابات مزورة.
ومن ضمن النشطاء الذين وصفهم الكاتب بالمنضمين إلى حملة أسانج، إدوارد سنودن الذي كان يعمل محللاً لدى الاستخبارات الأمريكية وهو الآن مطلوب للعدالة في الولايات المتحدة لاتهامه بالتخابر مع موسكو قبل أن يطلب اللجوء إلى روسيا، هو الآخر كتب تغريدة على تويتر يوم 12 من سبتمبر تقول: “القمع الإسباني الذي يتجلى في التصريحات غير اللائقة، السياسات الممارسة، التعامل مع الاحتجاجات في كتالونيا، يعد انتهاكًا لحقوق الإنسان”، في أقل من 24 ساعة أحرزت زهاء 8000 إعادة لها و8000 إعجاب.
في تغريدة أخرى من التغريدات التي حظيت بتفاعل كبير لأسانج خلال الأيام السبع الماضية (2200 إعادة و2000 إعجاب) ملحق بها رابط مقال لجاستن رايموندو وهو معروف بموالاته للروس وصاحب موقع AntiWar وناشط ضد العولمة ومن الذين دعموا ترامب، كان عنوان المقال كالآتي: “كتالونيا، ساحة تياننمين إسبانية”، في هذا المقال يقارن بين المظاهرات في برشلونة مع تلك التي قمعها النظام الصيني عام 1989، والتي أوقعت مئات بل آلاف القتلى”، ما يواجهه الغرب، هو إمكانية وقوع أمر مشابه لما وقع في ساحة تياننمين في قلبه، إجراء عنيف، بدل أن يؤكد شرعية سلطات مدريد، يجردها من الشرعية بسرعة، ليس فقط أمام أعين مواطنيها بل والعالم بأسره، كتالونيا سوف تتحول إلى تجسيد جماعي (للثائر المجهول) أو رجل الدبابة Tank man أمام دبابات وسلطات مدريد التي ستكون بمثابة طغاة بكين.
والثائر المجهول الذي يشير إليه رايموندو – وترجمت الجريدة خطأ تعبيره embodiment” ” الذي هو تجسيد إلى reencarnacion” وهو بعث الروح بعد فناء الجسد في العالم الآخر حسب بعض العقائد الدينية – هو ذلك الصيني الذي صورته عدسات الكاميرات في ساحة تياننمين يقف بشجاعة وصمود أمام صف من الدبابات لمنعهم من المرور حماية للمتظاهرين في الساحة، وقد انتشرت تلك الصور في العالم آنذاك محدثة أصداء قوية، وبعد مضي 28 عامًا على المجزرة، ما زالت هوية الرجل مجهولة للعالم، ولذلك سمي برجل الدبابة أو الثائر المجهول.
جوليان أسانغ يكرس غالب وقته وجهده هذه الأيام لأزمة لا تجمعه بها أي رابطة قومية أو ثقافية، ومستبعد أن يقوم بذلك لأسباب أخلاقية أو حقوقية بحتة، بل إن بعض تلك الرسائل يصل إلى درجة التحريض المفضوح
وذكرت الجريدة القومية الإسبانية أن هذا التشبيه تداولته الجهات الموالية لروسيا من مواقع مختلفة، وجاء على ألسنة العديد من المتداخلين في الأزمة من أكاديميين ونشطاء وكتاب ومواقع إلكترونية، حتى أسانج نفسه نشر صورة للثائر الصيني المجهول وهو واقف أمام فيلق من الدبابات.
والحقيقة أن الجريدة لها بعض الوجاهة في توجيه اللوم لجوليان أسانج، فالرجل قد حول حسابه إلى رسائل حربية متلاحقة إلى الحكومة الإسبانية، بعضها مكتوب باللغة الإسبانية حتى تكاد تظن أن في الرجل عروقًا كتالونية، فلغة التغريدات القاسية والمتجاوزة في بعض الأحيان، وبلاغتها المعنوية المثيرة للحساسيات، والجهد المبذول في استقصاء المعلومة والمقالات، والإحاطة الدقيقة بجوانب الأزمة وتفاصيلها، تعطي شعورًا بعدم البراءة.
فالرجل يكرس غالب وقته وجهده هذه الأيام لأزمة لا تجمعه بها أي رابطة قومية أو ثقافية، ومستبعد أنه يقوم بذلك لأسباب أخلاقية أو حقوقية بحتة، بل إن بعض تلك الرسائل يصل إلى درجة التحريض المفضوح، كرسالة نشرها في حسابه على تويتر قبل أيام خرجت كالتالي: “هناك 7.5 مليون كتالوني، مليون منهم رجال قادرون، هم قوة إذا عبئت بأعداد كبيرة قادرة على حجب القوات المتوفرة من الشرطة الإسبانية والجيش الذي يظهر في صورة شرطة”.
أمريكا وأوروبا.. حياد بنكهة الوحدة
في حين تتهم جريدة إل باييس في هذا المقال صراحة روسيا بتحريك الحساسيات القومية للكتالونيين وتدعم انفصالهم عن الأمة الإسبانية، وتتآمر على استقرار ووحدة دول الاتحاد الأوروبي بوسائل غير شريفة (رغم أن الموقف الروسي الرسمي يتظاهر بالحياد)، نجد مواقف الأمريكيين والأوروبيين وكأنها تميل إلى وحدة إسبانيا، وأقرب إلى تثبيط حماس أكثر المتشوفين إلى الاستقلال.
فعندما صرح العضو في الحزب الجمهوري دانا روهراباشير والموصوف في الأوساط الأمريكية بعضو الكونغرس المفضل لبوتين بدعمه انفصال الإقليم لموقع المؤسسة الصحفية الأمريكية بوليتيكو politico،(مشبهًا كاتالونيا بالمستعمرات الأمريكية خلال الحرب الثورية ضد الاحتلال البريطاني في القرن الثامن عشر)، أصدرت سفارة الولايات المتحدة لدى مدريد بيانًا تنأى به عن تصريحات روهراباشير، جاء فيه أن الولايات المتحدة تعتبر الأزمة الكتالونية شأنًا إسبانيًا داخليًا لا تتدخل فيه، لكن البيان أضاف عبارة اعتبرها البعض ترجيحًا لكفة الحكومة المركزية عندما قال: “والولايات المتحدة حريصة على استدامة العلاقة مع إسبانيا قوية وموحدة”. فالبيان باستعماله لفظ الوحدة يأخذ جانب حكومة مدريد، وغني عن الذكر أن مثل هذه البيانات الدبلوماسية تدقق في اختيار الكلمات إلى أبعد الحدود.
بينما نجد الاتحاد الأوروبي يذكر الكتالونيين بأنهم في حالة انفصالهم فإن عليهم إعادة طلب الانضمام من جديد، وهو الأمر الذي من المرجح أن تعرقله إسبانيا مستقبلاً، وتقف سدًا في وجه انضمام الكتالونيين إلى الاتحاد، إضافة إلى الحصار الاقتصادي والأضرار الكبيرة التي ستترتب على انسحاب فوري من اتفاقية التجارة الحرة مع دول الاتحاد.
القوميون الكتالان يريدون الإسراع بالاستفتاء، والقشتاليون في مدريد يعملون على عرقلته وتأخيره ما أمكن، ذلك لأن الأمر كل الأمر يتعلق بالوضع الاقتصادي الذي تتقلب معه الأمزجة والقناعات
فإلى أين تسير الأمور وكيف سينتهي صراع السيطرة على الشارع الذي وصفته واشنطن بوست بالحساس، بين وزارة الداخلية والشرطة الكتالونية، في ظل تزايد المظاهرات والاعتقالات ومصادرة الحكومة لعدد من المؤسسات والهيئات الكتالونية ومداهمة المقار الحكومية التي كانت تعد الوسائل اللوجيستيكية لإجراء الاستفتاء، هل سيؤدي فقدان طرف من الأطراف ضبط النفس، إلى نشوب مواجهات بين الشرطة الإقليمية من جهة والشرطة الوطنية ومعها الحرس المدني والجيش كآخر متدخل من جهة أخرى؟.
إن ما يجعل الأزمة أشد احتدامًا العامل الزمني الذي يخترق الصراع، وقد يكون التوقيت حاسمًا لمصير الإقليم بشكل عام، فالقوميون الكتالان يريدون الإسراع بالاستفتاء، والقشتاليون في مدريد يعملون على عرقلته وتأخيره ما أمكن، ذلك لأن الأمر كل الأمر يتعلق بالوضع الاقتصادي الذي تتقلب معه الأمزجة والقناعات، فعندما كانت الأزمة الاقتصادية الإسبانية في أوجها والتي بدأت منذ عام 2008، أشارت استطلاعات الرأي حينها إلى أن أكثر من نصف الإقليم يؤيد الانفصال، والآن بعدما بدأ الاقتصاد الإسباني يتعافى ولو جزئيًا، تؤكد الاستطلاعات أن نسبة المؤيدين للانفصال تعرف تراجعًا مع مرور الوقت.
فهل يعود الود مرة أخرى بين الملك فرديناند والملكة إيزابيلا، أم أن الرباط المقدس الذي دام قرونا طويلة سيشهد آخر فصوله في سنة 2017؟