على نحو متسارع، تفاقمت الخلافات داخل هيئة تحرير الشام، التنظيم الذي يسيطر على أجزاء كبيرة من محافظة إدلب وريف حلب الغربي، شمال غربي سوريا، رغم محاولات مجلس القيادة التعامل مع التطورات الأخيرة بتشكيل لجان وعقد لقاءات مع الأطراف الغاضبة، والتي بدأت تطالب بشكل علني باستقالة زعيم التنظيم وقادته.
فقد علم “نون بوست” أن مجموعة من القادة العسكريين داخل الهيئة، اتفقت على تشكيل مجلس قيادي جديد من أجل طرحه على كوادر التنظيم، بعد التجاوزات والانتهاكات التي وقعت على يد جهاز الأمن العام، خلال التحقيق مع الموقوفين من قادة وعناصر الهيئة، الذين تمّ توقيفهم خلال الشهرَين الماضيَين بتهم “العمالة والتآمر”، بينما علّق مسؤولون في الجهاز عملهم احتجاجًا على ما وصفوه بالتدخل في صلاحياتهم.
وكان الجهاز المعروف بسمعته السيّئة قد اعتقل أكثر من 700 من كوادر تحرير الشام منذ منتصف يناير/ كانون الثاني 2023، على خلفية ما عُرف بخلايا التجسّس، والتآمر للانقلاب على “القيادة الشرعية” والفساد.
لكن وعلى مدار الأسبوعَين الماضيَين، اضطرت قيادة التنظيم التدخل من أجل الإفراج عن العشرات من هؤلاء الموقوفين، بعد انتشار معلومات تتحدث عن تعرض الكثير منهم، وبينهم قادة مهمين، للتعذيب الشديد، من أجل انتزاع اعترافات تدينهم لاستخدامها في الصراع على الهيمنة داخل التنظيم.
غضب وانفجار
قبل أسابيع فقط، لم يكن باستطاعة أي قيادي في الهيئة، مهما كان موقعه أو كانت أسبقيته، أن يجرؤ على طرح مجرد تساؤل حول ما يجري من اعتقالات، وما يروج من اتهامات طالت أسماء كبيرة.
لكن مع تفاقم السطوة الأمنية التي بلغت ذروتها، ومعها أصبح كل مسؤول أو قيادي، حتى من الدرجة الثالثة أو الرابعة، يخشى من تدبير تهمة لاعتقاله أو التخلص منه، بعد استخدام الجهاز الأمني شماعتَي ملف التجسّس والانقلاب لضرب كل من يُشَكّ بولائه للقيادة، تحرك الكثير من كوادر الهيئة وبدأت المطالبات بوضع حدّ لما يجري داخلها.
وعلى نحو مفاجئ وغير مسبوق، بدأ معظم القادة وغالبية العناصر بمهاجمة الجهاز الأمني وانتقاد أبو محمد الجولاني ومجلس قيادة الهيئة، بل يطالبون بمحاسبتهما وتغييرهما، بعد ثبوت التجاوزات والانتهاكات في التعامل مع المعتقلين من كوادر التنظيم، والتأكُّد من كيدية الاتهامات التي وُجّهت إلى أكثرهم، وصولًا إلى التشكيك حتى بأصل القضايا المعلن عنها، حيث بات الكثيرون يعتقدون أن ما تمّ الحديث عنه مجرد تلفيق هدفه تصفية المنافسين.
لكن مصادر خاصة كشفت لـ”نون بوست” تفاصيل الملفَّين، مؤكدة أن خلايا التجسّس والنية بالانقلاب موجودتا بالفعل، لكن الجولاني وفريقه ضخّما القضيتَين وتعاملا معهما كفرصة للتخلُّص من القادة والكوادر غير الخاضغين لهم.
وحسب هذه المصادر، فإن العدد الحقيقي للمتهمين بالتجسّس لصالح روسيا والنظام السوري 22 شخصًا، معظمهم قادة عسكريون من رتب مختلفة، بالإضافة إلى مسؤولين إداريين، لكن الجهاز الأمني وقادة كتلة إدلب في الهيئة استغلوا الأمر لزجّ اسم كل من يقف حجر عثرة أمام هيمنتهم على التنظيم، ما أدّى إلى اتهام واعتقال أكثر من 700 من القادة والكوادر، وتوسيع دائرة الاتهام لتشمل التجسّس لصالح قوات التحالف الدولي أيضًا، كما حصل مع القيادي العراقي ميسرة الجبوري (أبو ماريا القحطاني).
ملف القحطاني
تؤكد المصادر أن القحطاني لم يكن جزءًا من ملف التجسّس، الذي لم يكن التحالف الدولي أو التواصل معه أو العمالة له جزء منه بالأصل، لكن إقحام اسمه هو والمقرّبين منه جاء بعد الحصول على معلومات تفيد بنيّته الانقلاب على الجولاني وفريقه.
ووفقًا للمعلومات التي حصل عليها “نون بوست”، فإن الجولاني حصل على الأدلة التي تكشف سعي القحطاني للانقلاب عليه أو الانشقاق عنه، وتشكيل تنظيم جديد في ريف حلب الشمالي بحال فشل الانقلاب، بعد شهريَن من الكشف عن خلية التجسّس، لكن بهدف عزله عن حاضنته ولتجنّب دعم “كتلة الشرقية” له، والتي تضم الكوادر والعناصر المنحدرين من محافظتَي دير الزور والحسكة، وعليه لجأ الجولاني إلى اتهامه بالتخابر والعمالة.
تشير المصادر إلى أن الصراع بين “كتلة إدلب” والقادة القديمين في الهيئة، أو من تبقّى منهم، والذي بدأ كتنافس على النفوذ قبل نحو عامَين، تفاقم بمرور الوقت بسبب عدم قدرة الجولاني على ضبطه وإدارته، ومع رجحان كفة “الكتلة” بسبب إمساكها بالقطاعَين الأمني والاقتصادي، بدأ القحطاني وعدد آخر من المسؤوليين، ومعظمهم من مؤسِّسي التنظيم، يشعرون بالتهميش، الأمر الذي دفع أبو ماريا كما يبدو إلى العمل جديًّا من أجل تنفيذ انقلاب.
وبما أنه لا يمكن اتهام القيادي العراقي بالتجسّس للنظام وروسيا أو التشكيك به على هذا الصعيد، ونظرًا إلى أنه كان مسؤولًا عن ملاحقة خلايا تنظيم “داعش” في مناطق سيطرة الهيئة، ومخولًا بالتواصل مع الجهات الخارجية من أجل التعامل مع هذا الملف، فقد وجد الجولاني وفريقه أن اتهام الجبوري بالتجسّس لصالح قوات التحالف سيكون أكثر قابلية للتصديق، وهو ما حصل، كما يؤكد قيادي سابق في تحرير الشام تحدّث لـ”نون بوست”.
وبالفعل، يضيف القيادي الذي طلب عدم الكشف عن اسمه: “راجت هذه الرواية، خاصة بعد صمت قادة “كتلة الشرقية” التي كان القحطاني محسوبًا عليها على اعتقاله، وفي مقدمتهم مظهر الويس، الشرعي العام السابق للهيئة، بعد أن أطلعهم الجولاني على وثائق حول اتصالات أبو ماريا، علمًا أن هذه الاتصالات كانت تتم بعلم وقرار من قيادة التنظيم”.
نكسة
هذا النجاح الذي حققه الجولاني ومسؤولو الجهاز الأمني تعرّض لنكسة قوية، “بعد التأكد من ارتكاب المحققين انتهاكات جسيمة، أجبرت الموقوفين على الإدلاء باعترافات تصبّ في صالح توجّهات هذا الفريق وأهدافه الخاصة”، الأمر الذي دفع الكثير من الكوادر الذين كانوا في حالة ترقب للخروج عن صمتهم والتعبير عن غضبهم، والمطالبة بوضع حدّ لما يجري داخل الهيئة.
تطور دفع الجولاني إلى اتخاذ إجراءات عاجلة بهدف احتواء الموقف، حيث سارع للإفراج عن مجموعات من المعتقلين وزيارة بعضهم، وتوجيه اعتذار علني مصوّر لهم تم نشره على وسائل التواصل الاجتماعي، أقرَّ فيه زعيم التنظيم بالتجاوزات، بينما نشرت حسابات شبه رسمية تابعة للهيئة توضيحات قالت فيها إن “القيادة علمت بتجاوزات المحققين، وتحركت من أجل التصدي لها ومعالجة آثارها، وأنها مستمرة في هذا المسعى”.
وبالإضافة إلى ذلك، تمّ تشكيل لجنة متابعة خاصة بملفّ المتهمين بالتجسّس والعمالة، تتكون من عدد من القادة، بينهم الشرعي العام للهيئة عبد الرحيم عطون، ومظهر الويس، كما شُكّلت لجنة قضائية مهمتها الفصل بالشكاوى التي تقدّمَ بها الموقوفون المفرج عنهم ضد الجهاز الأمني.
لكن مصادر “نون بوست” أكدت أن الإقرار بما قام به الأمنيون خلال فترة التحقيق، كان بمثابة دليل على صحّة ما وُجّه من اتهامات للجولاني و”كتلة إدلب”، باستغلال ملف خلية التجسّس من أجل تصفية الحسابات والتخلص من المنافسين والخصوم، الأمر الذي أثار موجة سخط جديدة داخل تحرير الشام، وصولًا إلى المطالبة باستقالة مجلس القيادة.
وعليه، شكّل القسم الأكبر من القادة العسكريين في الهيئة مجموعة تنسيق، كان باكورة نشاطاتهم فيها رفض دعوة وجّهها الجولاني إليهم، من أجل الاجتماع والتباحث في ما يمكن فعله لاحتواء الأزمة.
وحسب مصادر خاصة، اتفقت هذه المجموعة على المطالبة بتشكيل لجنة قضائية تحقق في ما حصل بقضية الموقوفين وتعذيبهم، على أن يكون من صلاحيات هذه اللجنة فصل الجولاني إذا ثبت تورّطه بالتجاوزات التي وقعت على المعتقلين، وفي حال لم يثبت ذلك يكون من واجب اللجنة الدعوة إلى تشكيل مجلس قيادة جديد، مع عزل القادة الأمنيين الحاليين وتعيين مسؤولين من الجناح العسكري عن الجهاز الأمني.
في المقابل، قرأ أمنيو تحرير الشام ما يحصل على أنه “تمرد” ساعد عليه زعيم الهيئة، ما دفع عددًا منهم إلى تعليق عملهم احتجاجًا على إطلاق سراح مجموعات من المعتقلين قبل انتهاء التحقيقات.
واقعٌ حَرِج وجد الجولاني نفسه وفريقه القيادي فيه، ما أدّى إلى إضراب فاقم منه خروج أصوات من داخل التنظيم، تطالب بإصلاحات كبيرة وعاجلة.
علي صابر، وهو أحد المسؤوليين الإعلاميين في الهيئة، كتب على حسابه في فيسبوك منشورًا، اعتبر فيه أن “الجولاني فقدَ أهليته”، وأن “كوادر الهيئة فقدت ثقتها به”، مطالبًا بتسليم دفة القيادى إلى مجلس جديد.
وقال صابر في منشوره الذي أثار جدلًا واسعًا: “بناء على ما حصل من مجريات وأحداث، نطالب قائد هيئة تحرير الشام باتخاذ قرار جريء بتسليم دفة القيادة إلى مجلس جديد حقيقي لقيادة المحرر، لأن أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني) فقدَ الأهلية، وإن كان ما صنعه مسبقًا ظلمًا وعدوانًا فيكفينا ما ذقناه منه، و إن كان ما قدّمه من خير لا نعلمه فسيأجره الله عليه، أما نحن فقد فقدنا الثقة به وعزلناه من قلوبنا”.
مآلات الانقسام
الانقسام الذي كان موجودًا داخل هيئة تحرير الشام على شكل صراع بين الكتل والأجنحة، تفاقم إثر التطورات الأخيرة، ليتحول إلى انقسام أكبر بين الجناحَين العسكري والأمني، خاصة أن جميع من تعرضوا للتعذيب خلال التحقيقات هم من العسكريين.
أمر يرى الباحث عرابي عرابي أنه سيؤدي إلى تبعات خطيرة على الهيئة، خاصة أن بين هؤلاء العسكريين قادة مهمون، الأمر الذي سيضع الجولاني وفريقه في موقف حَرِج، ويصعّب من مهمة احتواء الموقف عليهما.
ويقول عرابي في حديثه لـ”نون بوست”: “هناك قيادات عسكرية كبيرة في التنظيم اُعتقلت وتعرضت للتعذيب على يد الأمنيين، ومنهم على سبيل المثال أبو مسلم آفس، القيادي العسكري المقرّب من أبو محجن الحسكاوي، وقد تعرض لتعذيب شديد وإهانات جسدية ومعنوية، ما أثار غضبًا واسعًا ودفع الكثيرين إلى اقتراح تشكيل مجلس قيادة جديد مع التهديد بالتحرك لفرض ذلك، الأمر الذي قد يؤدي إلى انشقاقات تهدد تحرير الشام كما لم يحدث من قبل”.
من جانبه، يتفق الباحث في مركز كاندل للدراسات، عباس شريفة، مع عرابي عرابي، في التأكيد على خطورة الموقف وحصول هذا الانقسام، لكنه يرى أن الأمور لم تصل بعد إلى مستوى التمرد الكامل من الجناح العسكري، إنما “المطالبة اليوم هي محاسبة الأمنيين على ما ارتكبوه خلال التحقيقات في ملف خلايا التجسّس”.
ويضيف في حديث مع “نون بوست” حول ذلك: “لن تستطيع قيادة الهيئة معالجة الموضوع بسهولة، لأن هذه القيادة، من وجهة نظر العناصر والقادة الذين تعرضوا للتعذيب، أو حتى الذين كانوا يراقبون التطورات، متورّطة فيما حصل، وبات الكثيرون على قناعة أنها استثمرت في هذا الملف لأغراض خاصة”.
وحول مآلات هذا الملف، لا يتوقع شريفة أن يحدث انشقاق كبير، مرجّحًا أن يتم فرض مجلس قيادة جديد يقيّد من صلاحيات الجولاني وفريقه، ويحدّ من هيمنتهما في المستقبل.
إدلب وتركيا
لكن ماذا لو ضعفت هيئة تحرير الشام؟ وكيف سيؤثر ذلك على مناطق سيطرتها وعلى مجمل الملف السوري؟
سؤال قلق تفرضه التطورات الأخيرة، إذ ورغم عدم التأييد الذي تحظى به الهيئة في الأوساط الشعبية، إلا أن الكثيرين يتخوفون من أن يؤدي هذا الصراع إلى انعكاسات سلبية على هذه المناطق، سواء على الصعيد الأمني حيث فرضت تحرير الشام استقرارًا واضحًا وإن كان يقوم على عامل العنف، أو على الصعيد العسكري حيث يخشى الجميع من أن يستغل النظام وحلفاؤه أي تضعضع في التنظيم للهجوم على إدلب، خاصة أن الهيئة أضعفت إلى حدّ كبير بقية القوى العسكرية في المنطقة.
وفي ضوء هذه المخاوف، يتساءل الجميع عن موقف تركيا ممّا يجري هناك، ليس فقط بسبب حضورها القوي في الملف السوري، بل لأنها أيضًا تمتلك نقاطًا وقواعد عسكرية في إدلب ومحيطها، كما أن حدودها عرضة للتأثر المباشر بأي تطورات سلبية قد تحصل في حال وقوع أي اضطرابات أمنية وعسكرية.
تتباين التقديرات بخصوص الموقف التركي على هذا الصعيد، فبينما يرى البعض أنه قد يكون من صالح أنقرة تفكيك هيئة تحرير الشام من داخلها، من أجل توسيع رقعة سيطرة الجيش الوطني السوري المتحالفة معه والأكثر طواعية لها، كما أن ذلك سيجعل مهمتها التفاوضية مع روسيا وإيران حول المعارضة السورية ومستقبل العملية السياسية أيسر، خاصة أن الهيئة مصنّفة على قوائم الإرهاب، لكن يرى آخرون أنه ليس من صالح تركيا انهيار تحرير الشام، في الوقت الحالي على الأقل.
من جانبه، يشدد الباحث عباس شريفة على أهمية ما يجري في هذا الملف بالنسبة إلى تركيا، لكنه لا يتوقع أن تتدخل بشكل مباشر.
ويقول تعليقًا على هذه النقطة: “أعتقد ليس من مصلحة تركيا أن تحدث أي فوضى في إدلب بهذا الوقت بالتحديد، لكن مع ذلك لا أتوقع أن تتدخل بشكل مباشر، وإن كنت أرى أنها تفضّل ألا يحدث تغيير كبير داخل الهيئة يطال الجولاني نفسه، بحكم إمساك القيادة الحالية بزمام ومفاصل الأمور، وهذا هام جدًّا من الناحية الأمنية”.
بدوره، يرجّح الباحث عرابي عرابي أن تكون أنقرة مكتفية بالمراقبة حاليًّا، مؤكدًا أن “هذه المراقبة ستكون دقيقة وعن كثب، ويمكن لتركيا أن تتدخل في اللحظة التي تشعر فيها أن التطورات تسير باتجاه يهدد أمنها القومي ومصالحها”، لكن من الصعب التكهُّن بكيفة وآليات ومستويات هذا التدخل.