ما كان فيما مضى خيال سصبح بعد نهاية اليوم حقيقة بالنسبة للأكراد في إقليم كردستان العراق، فبعد فشل جميع الوساطات الدولية والغربية والإقليمية لإلغاء أو تأجيل الاستفتاء _على الأقل_ آثرت قيادة كردستان العراق صباح اليوم الإثنين إعلان بداية الاستفتاء على انفصال كردستان العراق وفتح 12 ألف صندوق في مناطق الإقليم والمناطق المتنازع عليها، غير آبهة بكل التهديدات التي تلقتها “مهما كلف الأمر” على حد ما جاء في بيان اجتماع الأحزاب الكردية الرئيسية.
وأتت الضربة القاصمة من بغداد مساء السبت الماضي، عندما رفض رئيس الوزراء العبادي، استقبال وفد كردي من الإقليم للحديث عن الاستفتاء، وتم الإعلان رسميًا عن فشل الزيارة. وأصدر البرلمان العراقي في جلسة اليوم قرارًا يلزم رئيس الوزراء العبادي بإعادة نشر الجيش بالمناطق المتنازع عليها بما فيها كركوك.
هل سيكون هذا اليوم هو آخر يوم للإقليم مع العراق؟ بحيث يكون الإقليم صباح الثلاثاء الموافق 26 سبتمبر/أيلول دولة لها حدودها ومواردها ومؤسساتها وحلفاءها.
اليوم التالي للانفصال
قد يكون من السهل إجراء الاستفتاء وإعلان الانفصال، ولكن ليس من السهل مطلقًا أن تقف أمام حقيقة الانفصال والمسؤوليات المترتبة على عاتق إدارة الإقليم. وعلى أية حال، الأمر الوحيد الذي سيظهر في اليوم التالي للانفصال هو امتلاك إدارة الإقليم ورقة قوية من الشعب يعطيه الحق بالانفصال عن العراق. هذه الورقة ستشكل قوة ضغط كبيرة في مفاوضات أربيل مع الأطراف المعنية في ترتيب الانفصال سواءًا مع حكومة بغداد المركزية أو مع الدول الإقليمية كإيران وتركيا في قضايا الحدود والثروة وتنظيم العلاقات البينية.
لن يتم طباعة عملة جديدة وإصدار جواز جديد وكتابة دستور وقوانين جديدة لتنظيم الحياة في الإقليم، جميع هذه الأمور ستكون مؤجلة حتى يتم الاتفاق عليها مع حكومة بغداد، والدول الإقليمية تركيا وإيران وبدون هذا التوافق ستواجه الدولة الكردية مصاعب ومشاكل في تحقيق الانفصال.
إغلاق الحدود بين تركيا والإقليم سيكون بمثابة انهيار القدرة المالية والاقتصادية لكردستان، فالمنتج المحلي لا يسد أكثر من 60% من احتياجات كردستان.
ما يمكن تأكيده هو أن هذه القضية ستكون معضلة سياسية بين إدارة الإقليم من جهة، والأطراف الأخرى من جهة أخرى، وستأخذ حيزًا أكبر من الحرب على “الإرهاب” في سوريا والعراق، أو بالأحرى مشكلة سياسية مؤجلة تضاف إلى جملة المشاكل الأخرى التي تعاني منها المنطقة. وستتحمل إدارة الإقليم بعد اليوم انتقادات لاذعة وتهديدات بعمليات عسكرية من الأطراف الرافضة للانفصال عن العراق.
مصادر أكدت أن الإقليم سيكون دولة مستقلة مع مرور الوقت، ولكن هذا سيأخذ وقتًا طويلا إذ لا يرغب أي رئيس حكومة عراقي أن يسجل انفصال العراق في عهده. سيضل هذا الملف قيد التأجيل على أمل أن يحصل الإقليم على سلطات ومزايا أكبر من الحكومة المركزية في بغداد، تبدأ من ملف المناطق المتنازع عليها مرورًا بالموارد النفطية وانتهاء بمحاولة الحصول على الكونفدرالية بعد تعديل الدستور العراقي المقر بعد 2003.
الوفد الكردي الذي رفض العبادي لقاءه يوم السبت الماضي، جاء إلى بغداد بمطالب سقفها عالي لا يمكن أن تكون مقبولة لا من الحكومة ولا من الشارع العراقي، إذ قامت أربيل برسم خط عرض داخل الخريطة العراقية ابتلعت فيه أكثر من 11 ألف كم من الأراضي العراقية لضمها إليهم تحت عنوان “المناطق المتنازع عليها”، وفيما يبدو أن الوفد حاول ابتزاز بغداد بهذا الطرح.
يبدو أن الحكومة العراقية مطمئنة إلى عدم إمكانية الأكراد القيام بأي إجراء عملي بعد هذا الاستفتاء، فالمشكلة خرجت من كونها مسألة داخلية إلى كونها مسألة إقليمية ودولية، فهناك تركيا وإيران وروسيا لا توافق على الانفصال بشكل قطعي. لذا سيكون اليوم التالي للاستفتاء أشبه بما هو قبله. وعلى العموم فإيران وتركيا استبقت النتيجة، التي ربما متأكدة منها، وأعلنت أنها لن تتوانى عن اتخاذ تدابير قاسية بحق الإقليم، ليس أقلها إغلاق الحدود معه وخنقه تجاريًا.
كردستان العراق لا تتمتع بمقومات اقتصادية قوية تؤهلها لأن تستقل وتنشئ دولة مكتفية بذاتها
بالنسبة لإيران، فقد أعلن مجلس الأمن القومي الإيراني الأعلى، والذي عقد أعضاؤه جلسة طارئة، أمس الأحد، عن إغلاق إيران لمجالها الجوي مع إقليم كردستان العراق بناءًا على طلب من الحكومة العراقية في بغداد. في موازاة ذلك، كثفت القوات الإيرانية من مناوراتها العسكرية في المنطقة الحدودية مع إقليم كردستان، ونفّذت طائراتها ضربات جوية ضد أهداف لحزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية.
وفي 17 سبتمبر/أيلول الحالي، هددت ايران بإغلاق حدودها مع كردستان العراق ووضع حد لكل الاتفاقات الأمنية في حال إعلان استقلال الإقليم عن السلطة المركزية في بغداد. وفي اتصال هاتفي بين بوتين وروحاني أكد الزعيمان على ضرورة عدم تقسيم العراق. كما أجرى بوتين وأردوغان أيضًا اتصالا هاتفيًا أكدا فيه على وحدة الأراضي العراقية والسورية ورفضا فيه أي عملية تقسيم تجري هناك.
فيما يخص تركيا فقد صرح أردوغان ظهر اليوم، الإثنين، حاليًا سنسمح بالعبور إلى الجانب العراقي فقط، وخلال الأسبوع سنفصح عن تدابيرنا الأخرى وسنغلق المعبر مع الإقليم، على حد قول الرئيس، وأضاف سنرى بعد اليوم إلى أين سيبيع الإقليم الكردي في العراق النفط؟ الصنبور لدينا، فعندما نغلقه، ينتهي الأمر. وختم حديثه، كما طهرنا مدن جرابلس والراعي والباب من “داعش” في سوريا لن نتوانى عن اتخاذ خطوات مشابهة في العراق أيضًا إذا لزم الأمر.
يمتلك الإقليم مناطق زراعية إلا أنها غير مستغلة بالشكل الكافي وشبه غائبة، وتحتاج إلى سنوات عدة لتطويرها
وقال وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو في تصريحات صحفية اليوم، أن الجهة الأساسية التي سنحاورها بعد اليوم هي بغداد، وقال أيضًا في تصريحات صحفية أنه في حال القيام بأي عملية ضد التركمان سننفذ عملية عسكرية فورًا.
أما بغداد، فقد أعلن البرلمان العراقي قبل صدور النتيجة، منع الشركات النفطية من العمل بحقول النفط بالمناطق المتنازع عليها، وإعادة حقول النفط في تلك المناطق لسيطرة الدولة العراقية.
كما صوت البرلمان على إبعاد المسؤولين الأكراد المشاركين بالاستفتاء من مناصبهم. ووجّهت الحكومة العراقية، أمس الأحد، حكومة إقليم كردستان إلى تسليم جميع المنافذ الحدودية والمطارات إلى سلطة الحكومة الاتحادية، مطالبة دول الجوار ودول العالم، بالتعامل مع الحكومة العراقية الاتحادية حصرًا، في ملف المنافذ والنفط. كما عبر مقتدى الصدر زعيم التيار الصدري، أن الاستفتاء عبارة عن لي ذراع للعراق ويجب عقد اجتماع للدول العربية في بغداد.
بم تفكر إدارة الإقليم لاحقًا؟
بالنسبة للمجلس الأعلى للاستفتاء في إقليم كردستان فقد أعلن، أمس الأحد، ما وصفه بـ” وثيقة سياسية ترسم صورة دولة كردستان المستقبلية ووضعية المكونات فيها”. تضمنت الوثيقة 15 نقطة ستقدم لبرلمان الإقليم للمصادقة عليها. وقد تضمنت النقاط أن تكون كردستان دولة مدنية فيدرالية تحفظ حقوق الكرد والعرب والتركمان والكلد والسريان والآشور والأرمن والأيزيديين والمسيحيين والمسلمين، والكاكائية واليهود والزرادشتية والمندائية”، على حد قول خليل إبراهيم، عضو مجلس الاستفتاء، الذي شكلته الحكومة للإشراف على عملية الاستفتاء الخاصة بالانفصال عن العراق.
وأضاف خليل أن “دولة كردستان ستعتمد اللغات الكردية والعربية والتركمانية والسريانية والأرمنية بشكل رسمي فيها”، وبين أنه سيتم “الاعتماد على النظام الفيدرالي، وأن التركمان والعرب والأيزيدية سيحكمون مناطقهم، وبقية المكونات كذلك”. وأوضح المتحدث ذاته أن “التمثيل المكوناتي سيكون بالكامل في المناصب الحكومية وقوات البيشمركة، وأن علم كردستان سينظم بقانون ليمثل المكونات”.
الحكومة العراقية مطمئنة إلى عدم إمكانية الأكراد القيام بأي إجراء عملي بعد هذا الاستفتاء، فالمشكلة خرجت من كونها مسألة داخلية إلى كونها مسألة إقليمية ودولية
الموارد الاقتصادية
من المفترض أن نشوء دولة جديدة في شمال العراق أن تحظي بتوافق دولي، وحتى الآن لا يبدو أن هذا متوفر للتجربة الكردية في الانفصال عن العراق. فمحيطها الجغرافي، العراق وتركيا وإيران، رفضت سلفًا هذا الكيان.
أما الولايات المتحدة فهي لم تعبر عن رفضها لانفصال كردستان بشكل واضح ولكنها اعترضت على توقيت الاستفتاء، في حين تحظى بدعم من “إسرائيل” وعلى ما يبدو من دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ زار قنصل الإمارات في كردستان العراق إحدى مراكز الاستفتاء هناك. كما أن الأمم المتحدة ترفض هذا الكيان أيضًا، وعليه فإن الدولة الجديدة عمليًا لا تحظى بدعم دولي واسع وهذا ما يجعلها “تولد ميتة” كما يرى مراقبون.
ستواجه كردستان حصارًا بريًا وجويًا خانقًا من قبل محيطها الجغرافي، تركيا وإيران والعراق، إذ تعلن هذه الدول تباعًا إغلاق المنافذ البرية والمجال الجوي معها وهو ما يفرض عليها تحدي أشبه بالمستحيل وسط رفض هذه الدول الموافقة على نشوء هكذا دولة.
إذ من المفترض أن تقوم إدارة كردستان بعد الانفصال بعقد تحالفات واتفاقيات أمنية واقتصادية وسياسية جديدة مع الدول الجارة لها، إلا أن أنقرة أعلنت عبر مجلس الأمن القومي أن تركيا حتفظ بـ”جميع حقوقها المنبثقة عن الاتفاقيات الثنائية والدولية”، في حال أجرى إقليم شمال العراق استفتاء الانفصال، وهذه الاتفاقيات، تتمثل بكل من اتفاقية لوزان 1923″، و”أنقرة 1926″، و”الصداقة وحسن الجوار بين العراق وتركيا في 1946″، و”التعاون وأمن الحدود بين العراق وتركيا في 1983″.
وأكّد بوزداغ، بأن الاتفاقيات المذكورة تحدد بشكل واضح الحدود المرسومة بين تركيا والعراق، وتنظم سبل حل الخلافات في المنطقة، وتضبط آلية التعاون ضد أي تمردات في جانبي الحدود، كما أشار المتحدث باسم رئاسة الوزراء التركية، بكير بوزداغ.
هناك أكثر من ربع مليون برميل يمر إلى تركيا،التي أعلنت أنها لن تسمح بمرورها عبر أراضيها بعد الانفصال، ويشار أن الإقليم يعتمد على استيراد 95% من احتياجاته من إيران وتركيا
النسبة للموارد الاقتصادية المتوفرة في الإقليم، فكردستان العراق لا تتمتع بمقومات اقتصادية قوية تؤهلها لأن تستقل وتنشئ دولة مكتفية بذاتها، فضلا أنه إقليم مغلق، ولا يملك أي واجهة على البحر وبريًا لا يملك سوى منفذين مع تركيا وإيران، فيما تتمتع بموارد الطاقة من نفط وغاز، وحتى مع هذا المورد الهام يحتاج الإقليم عقد اتفاقات وقبول من جانب دول الجوار لتصريف منتجاته من النفط والغاز في المقام الأول.
مسؤولون عراقيون، ذكروا إن المحافظات التي تتبع الإقليم حاليًا لا يوجد بها النفط إلا بحدود ضئيلة، بينما يأتي معظم إنتاج الإقليم من الخام من محافظة كركوك التي تمثل ما يناهز 85% من نفط الإقليم وأجزاء أخرى توجد حاليًا تحت سيطرته العسكرية، وهي قانونيًا ودستوريًا تتبع بغداد حيث أعلنت ذلك بالفعل.
وتقدر حجم صادرات إقليم كردستان من النفط بما بين 550 – 600 ألف برميل يوميًا، وهو ما يدر على خزينة الإقليم نحو 11 مليار دولار سنويًا، ويشير وزير النفط السابق، عصام الجلبي، إلى أن هذه الإيرادات لا تكفي في الوقت الحالي لسداد مرتبات الموظفين إذ يعمل نحو 1,400 مليون شخص لدى الحكومة من موظفين أو عسكريين، وتقدر رواتبهم الشهرية نحو 740 مليون دولار، فكيف ستؤسس بتلك الإيرادات دولة!.
الجهة الأساسية التي ستحاورها تركيا بعد اليوم هي بغداد، و في حال القيام بأي عملية ضد التركمان ستنفذ تركيا عملية عسكرية فورًا.
أضف أن الإقليم لا يملك سوى منفذ رئيسي واحد باتجاه تركيا لتصدير النفط وباقي المنتجات الأخرى، وقد صرحت أنقرة بأنها لن تسمح بمرور النفط نحو ميناء جيجان التركي وستعمل على تجميد الاتفاقية الخاصة بإنشاء خط نقل للغاز المنتج في الإقليم إلى ولاية شرناق التركية.
ويُذكر أنه هناك أكثر من ربع مليون برميل يمر إلى تركيا. ويشار أن الإقليم يعتمد على استيراد 95% من احتياجاته من إيران وتركيا، وقد أشار محللون وأكاديميون في هذا الصدد أن إغلاق الحدود بين تركيا والإقليم سيكون بمثابة انهيار القدرة المالية والاقتصادية لكردستان، فالمنتج المحلي لا يسد أكثر من 60% من احتياجات كردستان.
يمتلك الإقليم مناطق زراعية إلا أنها غير مستغلة بالشكل الكافي وشبه غائبة، وتحتاج إلى سنوات عدة لتطويرها لذا لا يمكن التعويل عليها في هذه الفترة الحرجة من مصير الإقليم. كما تمتلك مقومات سياحية كبيرة حولتها إلى وجهة لآلاف العراقيين والأجانب ولكن هذا القطاع لن يتم التعويل عليه في ظل حالة عدم الاستقرار السياسي.
وفيما يخص البيئة الاستثمارية، فالاستثمارات التركية هناك تقع في المرتبة الأولى من بين الاستثمارات الأجنبية في الإقليم، وتتراوح بين 37 إلى 40 مليار دولار وفي مختلف المجالات والقطاعات. ومن شأن العقوبات الاقتصادية التركية على الإقليم أن توقعه في فجوة كبيرة إضافة أن المناخ الغير مستقر لن يسمح بجذب استمثارات إلى الإقليم.
انفصال إقليم كردستان العراق هي أشبه بمغامرة غير محسوبة المخاطر، فالإقليم عبارة عن منطقة مغلقة ترتهن الحياة فيها للعوامل الخارجية المحيطة بها، وأن الجانب الاقتصادي هناك غير قادر على الإيفاء بمتطلبات الإقليم وحاجياته.