من أجل بديل ديمقراطي اجتماعي في تونس

twns_2

تمر معظم أوقات الحياة والناس تقول: ”لم يحن الوقت بعد”، ثم “فات الأوان”، الأديب غوستاف فلوبير. يتواصل تشرذم العائلة الديمقراطية الاجتماعية في تونس مع تواصل فشل مبادرات تقاربها وتوحدها، بغض النظر عن الصيغة المتصورة والمروج لها أو المُنتجة، مما جعلها على هامش المشهد السياسي منذ سنة 2011.

حيث يعتبرها جل المحللين السياسيين الخاسر الأكبر بعد الانتخابات التشريعية والرئاسية الأخيرة في تونس 2014 ليس لابتعاد الناخب التونسي عنها بل لتعدد قوائمها الانتخابية وتشتت الأصوات بينها.

لا تكاد مشاورات العائلة الديمقراطية الاجتماعية تتقدم حتى تتعثر والحقيقة التي لا يجب أن تُخفى أنه من الصعب الجمع بين نرجسيات مجروحة الكبرياء وقد غذتها حرب الزعامات ليتواصل تشتيت هذا الكيان وتصدق مقولات كثير من الأصدقاء المتوجسين من التحزب أن ضعف الأداء السياسي للأحزاب المعارضة، متمثل في لا ديمقراطية الكثير منها وأهم عائق هو الزعامة المغشوشة داخل هذه العائلة  التي ساهمت بصمتها وضعفها في استفحال الوضع في تونس.

لقد حصلت الديمقراطية الاجتماعية على مصداقيتها من خلال ما تستلهمه قيمها الأساسية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة والتضامن

فقد عجز الجميع منذ سقوط النظام السابق عن إدارة المرحلة، خصوصًا من خلال طرح حلول تعي حاجيات التونسيين وتعطيهم الأمل في حاضرهم والحلم لمستقبلهم بالتنمية والتشغيل، بل تزداد الأزمة الاقتصادية حدة وتتشابك عوامل عديدة في استفحالها ولكنها تلتقي كلها في نقطة واحدة وهي عجز النظام (اليميني بتفريعاته) السياسي والاقتصادي والاجتماعي القائم منذ عقود على حل المشاكل الفعلية .

يبقى يقيني – كناشط سياسي – أننا في حاجة لبعث كيان حزبي (قاطرة لبقية العائلة) تمثل فيه المرجعية الديمقراطية الاجتماعية خيارًا فكريًا وسياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا ويكون قوة اقتراح حقيقية ومعارضة فعالة من خلال رسم خارطة طريق واستراتيجية لمستقبله  في تحقيق المعادلة السياسية خاصة بوجود خلل في المشهد السياسي العام.

لقد حصلت الديمقراطية الاجتماعية على مصداقيتها من خلال ما تستلهمه قيمها الأساسية القائمة على الحرية والعدالة والمساواة والتضامن، بما تعنيه على المستوى السياسي من انتصار لقواعد الديمقراطية التمثيلية والتشاركية ومحاولة تعظيم هذه المكاسب وتخفيض الضرر الذي تتسبب به الليبرالية الاقتصادية من خلال دمج مفاهيم “العدالة الاجتماعية” مع الليبرالية السياسية.

إنها محاولة جريئة أثبتت الكثير من النجاح في تعظيم هذه المصداقية باستعادة دور اليسار الديمقراطي ونجاحاته في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية في كبح جماح النيوليبرالية الاقتصادية المتوحشة، ولهذا جاء الفكر الديمقراطي الاجتماعي ليحاول محاربة التغول الاقتصادي الليبرالي وتبني خيارات تنحاز للتوزيع العادل للثروات وللسياسات ذات المضامين الاجتماعية المرتكزة على الأدوار الحمائية للدولة، وعلى منوال تنموي تضامني بأبعاده المختلفة.

البُعد الاجتماعي يحتل مركز القلب من الاهتمام في المشروع السياسي للعائلة الديمقراطية الاجتماعية، لأنه يحمل هاجس صون كرامة المواطنات والمواطنين عبر تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية

أظن أن هذا الكيان الذي ظل حلمًا للعديد من الشباب الصاعد سياسيًا بعد الثورة  يمكن أن يستفيد من أطروحة الخيار الثالث في طريقة تنظيمها للشأن العام وكيفية تصورها للعلاقة بين الدولة والمجتمع، دون فرض نموذج فكري صارم لا يراعي الخصوصيات التونسية الاجتماعية والحضارية والثقافية خصوصًا بما ينسجم الفكر الديمقراطي الاجتماعي مع مبادئ الحضارة التنويرية الحقيقية وما له من امتدادات فكرية عربية في أفكار وطروحات مجموعة من المفكرين العرب ورواد الفكر الإصلاحي الإسلامي أمثال عبد الرحمن الكواكبي ورفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ومحمد عبده.

هؤلاء العلماء كافحوا بعلمهم ووعيهم من أجل الإصلاح السياسي ورأوا في ذهنية الاستبداد أصل البلاء والفساد، وتشاركوا مع الفكر الديمقراطي الاجتماعي في نقاط أساسية وهي العدالة الاجتماعية والدولة المدنية الحديثة والديمقراطية البرلمانية وحقوق الإنسان والتكافل والتضامن ودولة الرفاه الاجتماعي والعدل ودولة القانون.

إن البُعد الاجتماعي يحتل مركز القلب من الاهتمام في المشروع السياسي للعائلة الديمقراطية الاجتماعية، لأنه يحمل هاجس صون كرامة المواطنات والمواطنين عبر تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية.

وانطلاقًا من كون تجسيد مبدأ العدالة الاجتماعية يتأسس عبر  بناء نموذج تنموي طموح من خلال إرساء دعائم اقتصاد وطني تنافسي ومنتج  بحيث لا يترك لآليات السوق النيوليبرالية وحدها الكلمة الفصل في السياسة الاقتصادية دون تدخل الدولة عبر التخطيط والمراقبة والمساءلة والحوكمة  مع العمل على تشجيع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في أفق خلق رفاه مشترك  لا يغفل تكريس العدالة الجبائية من أجل تقوية قدرة الدولة على تعبئة وتطوير موارد المجتمع المادية والبشرية والمالية لصياغة السياسات العمومية و تبني منوال تنموي طموح.

سأعيد ما كتبته في مقال سابق إيمانًا مني بهذا المشروع  من أن الفرصة التاريخية المتاحة اليوم لكبح جماح حكامنا النيولبيرالين لن تتكرر مجددًا، فهجمتهم الشرسة لإيقاف دور الدولة في المجتمع وتحويل الخدمات الصحية والتعليمية والتنموية المختلفة إلى القطاع الخاص يشكل تناقضًا تامًا ومباشرًا مع الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية. ولهذا يجب أن يكون أبناء العائلة والفكر الديمقراطي الاجتماعي في الصفوف الأمامية من خلال بناء حزب قوي وتقديم برنامج للحكم لمحاربة التغول الاقتصادي اليميني، ومحاولة إدخال مفاهيم “دولة الرفاه الاجتماعي” والعدالة الاجتماعية ودمجها مع السياسات التنموية والاقتصادية للدولة الوطنية.