ألقت ظروف الحرب على مدار 12 عامًا بكاهلها على كافة مناحي الحياة في شمال غربي سوريا، وكان للقطاع الزراعي نصيب منها، فقد تقلصت المساحات الزراعية بعد سلسلة من العمليات العسكرية التي شنتها قوات نظام بشار الأسد في مطلع عام 2020، إضافة إلى الغلاء الكبير في الكلف الزراعية، ما جعل المزارع يفكر بحلول مستدامة تحقق له مردودًا أكبر وبأقل التكاليف.
وتوجّه عدد من المزارعين في الشمال السوري إلى الزراعة في البيوت المحمية (البلاستيكية)، وبات انتشارها ملحوظًا في الأراضي الزراعية المحيطة بالمدن والبلدات، على أمل تحقيق الاكتفاء الذاتي من الخضروات والاستغناء عن استيرادها من تركيا.
وقال المهندس الزراعي عبد الحي الكرج في حديثه لـ”نون بوست”، إن العديد من المنظمات الإنسانية اتّجهت نحو دعم زراعة البيوت البلاستيكية لتعزيز الإنتاج الزراعي، والمساهمة في زيادة الإنتاج والحدّ من ظواهر الفقر والحاجة التي نتجت عن الحرب، بهدف زيادة الأمن الغذائي والتأسيس لأنشطة تمكين اقتصادي في هذه المنطقة.
خضار طوال العام
وحول أهمية الزراعة في المحميات البلاستيكية، قال المهندس الزراعي عبد الوهاب طيفور لـ”نون بوست”، إن لها أهمية في تأمين المتطلبات الغذائية من الخضار وغيرها طوال العام، لأن التحكم بدرجات الحرارة والرطوبة وغيرها يتم بسهولة، بعكس الزراعة المكشوفة التي تتعرض للظروف الجوية غير المناسبة لنمو النباتات بفصول معيّنة، وبالتالي تحقق الأمن الغذائي للسكان وتحدّ من الاستيراد.
فيما اعتبرها المهندس الزراعي موسى البكر مهمة لتحسين الواقع الزراعي ككل في شمال غربي سوريا، بعد تراجعه في السنوات الماضية، إذ تساعد على تحقيق الاكتفاء الذاتي للسكان، فبعد أن كانت تُزرع بمساحات قليلة، بدأت تنتشر بشكل كبير ووصل بعضها إلى مساحة 10 دونمات، الأمر الذي سيزيد الكميات المنتجة في الأسواق، وبالتالي يمكن الاستغناء تدريجيًّا عن الاستيراد من تركيا، على حدّ قوله.
وإلى جانب الزيادة التي تحققها في الإنتاج من خلال استثمار المساحات الزراعية الصغيرة، فلها فوائد عدة، إذ تعد أحد أساليب التنفيذ المكثف للزراعة، وتقلل من المخاطر التي يتعرض لها المنتَج، فوجود المحصول في مساحة مغلقة يمنعها من التعرض للتلف بفعل تغيرات أحوال الطقس، كالزيادة المفاجئة في درجة الحرارة أو انخفاضها.
هذا بالإضافة إلى حماية المحاصيل من الطيور والحيوانات الأخرى، كما يمكنها أن تمنع حدوث مشاكل الآفات والأعشاب الضارّة، وتوفير إمكانية السيطرة عليها، ورفع كفاءة استخدام المياه، وفق ما قال مختصون لـ”نون بوست”.
وفيما يخص متطلبات إنشاء البيوت البلاستيكية، أفاد عبد الوهاب طيفور بأن البيت البلاستيكي يحتاج بالدرجة الأولى إلى الهيكل المعدني المناسب والغطاء البلاستيكي، وحرّاق للتدفئة ومراوح ومكيفات للصيف، ومصدر مائي ومصدر للطاقة الكهربائية، وأسمدة وأدوية ومقاييس حرارة ورطوبة وحموضة وملوحة، وموازين عادية، ومستودع لفرز الخضروات وتغليفها تمهيدًا لبيعها، إضافة إلى وجود صواني تنبيت وتوربات وبرلايت وبذور ومرشّات لازمة.
وهناك نماذج متعددة للبيوت البلاستيكية بمتوسط تكلفة تتراوح من 5 آلاف و500 دولار حتى 7 آلاف دولار، وذلك تبعًا لنوعيات الحديد، ونوعيات الرقائق البلاستيكية المستخدَمة، والإكسسوارات الملحَقة بالبيوت، وفق المهندس الزراعي عبد الحي الكرج.
مخاطر زراعة المحميات
في أي مشروع يقوم به الشخص هناك فرص متاحة ومخاطر وتحديات تواجه العمل، ويحتاج إلى دراسة دقيقة من أجل ضمان نجاح المشروع، فإضافة إلى وجود أرباح من مشروع البيوت البلاستيكية، هناك مخاطر لها، وتتمثل وفق المهندس عبد الوهاب طيفور بـ”غلاء مواد تجهيز البيت البلاستيكي، فهي تحتاج رأس مال أوليًّا كبيرًا، ما يشكّل تحديًا للعديد من المزارعين”.
وأضاف طيفور أن هناك تحديات في “غلاء وقود التدفئة والأسمدة والأدوية والبذور والمعدّات”، إضافة إلى وجود منافسة من البضاعة المستوردة خاصة الخضار، والحاجة إلى عملية تسويق ثابتة ومستقرة، كما أن المشروع يتطلب مستوى عاليًا من المهارة، من خلال وجود خبراء فنيين ومهندسين زراعيين من أصحاب الخبرة الطويلة في هذه الزراعة، وقادرين على التحكم في جميع المتغيرات البيئية.
كما أن البيوت البلاستيكية تشكّل ظروفًا مثالية للأمراض، ورغم أنه يمكن توفير تدابير أمان أفضل ضد هذه المشاكل داخل الدفيئة، فإن الخطر قائم إذا لم يتم تنفيذها بشكل صحيح، حيث إن الآفات يمكن أن تظهر وتنمو بوتيرة أسرع من المعتاد، ما قد يؤدي إلى خسائر في الإنتاج.
الإنتاجية والتسويق
يمكن زراعة العديد من المحاصيل ضمن البيوت البلاستيكية، كالبندورة والفليفلة والخيار والباذنجان، فمثلًا تقدَّر إنتاجية دونم واحد من البندورة مزروع ضمن البيوت البلاستيكية بحوالي 30 طنًّا، أي بزيادة حوالي 23% عن الزراعات العادية، يضاف إلى ذلك جودة المنتجات الزراعية، ومساهمتها في ضبط أسعار الأسواق المحلية، بحسب عبد الحي الكرج.
وقال الكرج لـ”نون بوست” إن الأرباح ستكون مباشرة للمزارع ذاته صاحب المشروع، نتيجة فروقات الأسعار التي تحققها المنتجات خصوصًا في فصل الشتاء، وفائدة أخرى غير مباشرة لكافة المواطنين المستهلكين من خلال ضبط الأسعار في الأسواق، ومنع التجّار من تحقيق أرباح كبيرة من خلال طرح منتجات محلية في الأسواق.
أما بالنسبة إلى المردود المادي، فيعتمد على التسويق الجيد للإنتاج وفق الكرج، مضيفًا أن ذلك يرتبط ارتباطًا وثيقًا بأوقات الإنتاج خلال العام والكميات المستوردة، حيث إن مشكلة التسويق هي مشكلة عامة وجوهرية ورئيسية ومحددة لاستمرار أية زراعة في شمال غرب سوريا، كما هو الحال في زراعة البطاطا والقمح والثوم وغيرها.
الزراعة المائية
أطلقت منظمة “وطن” الإنسانية العاملة في الشمال السوري، مشروع الزراعة المائية ضمن البيوت البلاستيكية، لبحث سبل الاستدامة في إنتاج الخضروات وتوفيره على مدار السنة، وللتقليل من استهلاك مياه الري والبحث عن الوفرة في الإنتاج، إضافة إلى تقليل المساحة المزروعة، وهي من التقنيات الزراعية الحديثة التي دخلت منطقة شمال غربي سوريا، وفق ما قال عبد الحي سرميني، مدير المكتب الزراعي في منظمة وطن.
وعن آلية عمل الزراعة المائية، أضاف سرميني أن المنظمة اعتمدت طريقة الزراعة المائية، باستخدام أنابيب مفتوحة مثبّتة على سطح التربة، ثم ملأها بمادة البرليت الخاملة كيميائيًّا، لتثبيت جذور النبات والريّ بالتنقيط، باستخدام المحاليل المغذية اللازمة لنمو وإزهار وعقد النباتات.
وبحسب عدد من المختصين في المجال الزراعي، فإن الزراعة المائية مهمة لتحقيق الاستدامة الزراعية والحفاظ على الموارد الطبيعية، بسبب ازدياد عدد السكان وازدياد متطلباتهم، إضافة إلى انخفاض المساحات المزروعة على حساب التوسع العمراني، فهي توفر من استخدام المياه بنسبة 90%، والتقليل من استخدام الأسمدة والمبيدات بنسبة 50%.
تحديات المزارع
وفق المهندس الزراعي محمد كرنازي، فإن تغيّر المناخ في صدارة الصعوبات التي تواجه الفلاح في الشمال السوري، حيث يؤدي إلى انخفاض الإنتاج الزراعي، خصوصًا في الفترة الزمنية قبل جني المحصول، إضافة إلى معاناة الفلاح من ارتفاع أسعار المبيدات والأسمدة كونها تشترى بالدولار، وبعد جني المزارع محصوله والذهاب به إلى سوق الهال يتمّ بيعه بالليرة التركية، كما أن غلاء أسعار الوقود واليد العاملة أثّر سلبًا على الفلاح في زراعته.
وأشار إلى أن حال المزارع جيد طالما أن مشكلة المياه محلولة وهناك شيء جديد يطور العمل الزراعي، وأي تقصير في هذا المجال سيتراجع حال المزارع الذي سينعكس سلبًا على قطاع الزراعة ككلّ.
من جهته، اعتبر موسى البكر أن أبرز التحديات التي تواجه المزارعين في شمال غرب سوريا، هي المياه المستخدمة لريّ المزروعات، فالبذور والأسمدة والمبيدات يتم تأمينها بسهولة عبر الاستيراد من تركيا، إضافة إلى مشكلة تصدير أنواع معيّنة للمزروعات كالقطن، فلا توجد محالج خاصة لها، أو معامل سكّر من أجل تصريف الشمندر السكري، فالمزارع مضطر للعمل بمحاصيل محددة يتم زراعتها بسبب سهولة التصريف.
وتأثر القطاع الزراعي في سوريا كغيره نتيجة الحرب الدائرة على مدار عقد من الزمن، فبحسب تقديرات عام 2010 يشكّل القطاع الزراعي 17.6% من الناتج المحلي الإجمالي لسوريا، التي تبلغ مساحتها 18.5 مليون هكتار، 6.5 ملايين منها هكتار كمساحة قابلة للزراعة والغابات.