يبدو أن موازين اللعبة تتغير، فبغداد التي طالبت بشراسة قبل أقل من عام بخروج القوات التركية من معسكر بعشيقة والتي جاءت بالتوافق مع حكومة البرزاني قد وصل رئيس أركانها لأنقرة لبحث التعاون والتنسيق لمواجهة تداعيات الاستفتاء، وأردوغان الذي قال للعبادي “أنت لست بمستواي وصراخك في العراق ليس مهمًا بالنسبة لنا على الإطلاق، فنحن سنفعل ما نشاء، وعليك أن تعلم ذلك، وعليك أن تلزم حدك أولاً”، فيبدو أن الطرفين أصبح كل منهما أكثر اهتمامًا بموقف الآخر في ظل التطورات الجديدة.
حتى مساء ليلة الاستفتاء بدا أن المحاولات من عدد من دول الإقليم وخاصة تركيا لم تتوقف من أجل ثني رئيس إقليم كردستان العراق مسعود برزاني عن قراره بالتوجه نحو استفتاء الانفصال عن العراق والذي تم ترقب حديثه قبل الاستفتاء بيوم واحد.
وكان ذلك تارة بالترغيب والزيارات التي قام بها مسؤولون أتراك كبار منهم رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان، وتارة بالترهيب مثل بدء مناورات على الحدود وبعد ذلك الالتقاء مع رئيس الأركان العراقي عثمان الغانمي ثم الحديث عن إغلاق معبر الخابور صباح الاستفتاء وتعديل ذلك إلى تشديد الإجراءات الأمنية عليه للقادمين من العراق ثم العودة مرة أخرى للحديث عن إغلاقه تمامًا بعد أسبوع، كما أوصت تركيا بشدة المواطنين الأتراك في محافظات دهوك وأربيل والسليمانية الكردية العراقية بالمغادرة في أقرب وقت ممكن ما لم يضطروا للبقاء.
ولم يكن أمام تركيا حتى الآن سوى إعلان أنها لن تعترف بنتيجة الاستفتاء المعروفة سلفًا، فبالتزامن مع توجه 5 ملايين ناخب للتصويت قالت الخارجية التركية إن أنقرة لا تعترف باستفتاء الانفصال الذي نظم يوم الإثنين في الإقليم الكردي شمال العراق، وأضافت الخارجية في بيان: “لا نعترف بهذه المحاولة الفاقدة لأنواع الشرعية كافة والأساس القانوني سواء بالنسبة للقانون الدولي أم الدستور العراقي”.
وأكدت الخارجية أن الاستفتاء في الإقليم الكردي بحكم الملغي من حيث نتائجه، وجددت الخارجية تأكيد تركيا على أنها ستتخذ التدابير كافة في ضوء الصلاحيات التي يمنحها إياها القانون الدولي والبرلمان التركي، حال تعرض أمنها القومي للخطر جراء استغلال الإرهابيين وعناصر متطرفة للوضع الذي سينجم عقب الاستفتاء في الإقليم، أو أي تهديد لأمنها القومي في عموم العراق.
تركيا تدرس الخيارات كافة بما فيها الخيار العسكري تجاه التهديدات الموجودة على حدودها
التعامل مع تداعيات الاستفتاء
وقد حاولت تركيا التلويح بخياراتها المفتوحة، حيث أكد يلدرم قبل بدء التصويت أن الخيارات الأمنية والسياسية والاقتصادية مطروحة لوقف إجراء الاستفتاء، ولكن يبدو أن الاستفتاء أصبح أمرًا واقعًا حيث تترس البرزاني بالدعم الأمريكي وأصبح كل هذا الحديث وكل هذه التصريحات عن إمكانية تأجيل الاستفتاء أمرًا من الماضي، فليس هناك من داع الآن للحديث عن أضرار الاستفتاء بل لا بد من صانع القرار التركي التحضر للتعامل مع تداعياته المرتقبة.
من المعروف أن تركيا لن ترحب بأي كيان جديد على حدودها الجنوبية ولكن لم تفصح تركيا بالتحديد عن طبيعة وتفاصيل وتوقيت الإجراءات التي يمكن أن تتخذها، مع العلم أن الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن كان قد لوح باستخدام العقوبات الاقتصادية في وقت سابق والتي يمكن أن تخنق الإقليم تمامًا، غير أن تركيا من جهة كانت مستفيدة بشكل كبير من العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إقليم كردستان، كما أنها كانت مستفيدة أمنيًا في صراعها مع حزب العمال الكردستاني فيما كان وجود علاقات طيبة بين أردوغان والبرزاني بمثابة ضمانة ولو نسبيًا ضد التمدد الإيراني في كردستان والاستحواذ الكامل على العراق.
تركيا كانت تستفيد على عدة أبعاد من إقليم كردستان العراق وعلاقاتها مع مسعود البرزاني سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو أمنيًا
أما فيما يتعلق بالخيار العسكري وفي ظل تلويح الرئيس أردوغان به حين قال: “تركيا تدرس الخيارات كافة بما فيها الخيار العسكري تجاه التهديدات الموجودة على حدودها”، فإن إقدام تركيا على هذه الخطوة في ظل الواقع المأزوم في سوريا والتوتر الداخلي مع كتلة حزب الشعوب الديمقراطية الكردي سوف يجعلها تدخل في مغامرة صعبة ويفتح الطريق أمام تقارب بين البرزاني وحزب العمال، فضلاً عن أن هذا تناقض مع ما قاله رئيس الوزراء التركي الذي صرح أن على الشعب التركي الاطمئنان، فتركيا لن تدخل في حرب.
مما يتضح لنا أن تركيا كانت تستفيد على عدة أبعاد من إقليم كردستان العراق وعلاقاتها مع مسعود البرزاني سواء سياسيًا أو اقتصاديًا أو أمنيًا ولهذا فإن التطورات الجارية وتفاعلاتها تشي بأن تركيا ربما تخسر الكثير من هذه الفوائد ويحدوها في هذا الخوف من المخاطر الاستراتيجية والتي ربما كانت تركيا معها أقل توترًا فيما لو لم يكن هناك صعود لحزب العمال الكردستاني وامتداداته في سوريا في ظل الدعم الأمريكي الكبير.
لكن من المرجح أن تركيا سوف تنتظر قبل أن تقدم على أي تدخل في العراق وربما تنتظر موقفًا عمليًا من الحكومة المركزية في بادئ الأمر وستحاول النأي عن الانخراط في أي عمل فردي ضد الإقليم خاصة في ظل تركيزها على سوريا وأن حشودها العسكرية تتجمع منذ أكثر من 10 أيام على الحدود مع إدلب، فهل هي مستعدة لنقل جنودها من إدلب ومعبر باب الهوى إلى معبر الخابور أو تحريكهم في ليلة واحدة كما قال أردوغان؟ وإذا كان الأمر كذلك فإننا أمام رقعة شطرنج إقليمية متحركة.