بتعيينه في منصب كبير المستشارين السياسيين للرئيس أردوغان، أحدث البروفسور ياسين أكتاي صدمة لبعض متابعي الشأن التركي الذين ظنوا أنه لن يعود للعمل السياسي بعد اليوم، نتيجة تجريده من مناصبه كافة خلال المؤتمر الاستثنائي لحزب العدالة والتنمية في أيار/مايو الماضي. وقد فسر بعض المتابعين تجريد أكتاي من مناصبه العليا أنه يعبر عن رغبة أنقرة في إجراء تغييرات جذرية في سياساتها الخارجية، غير أن رجوعه إلى منصب أعلى مما كان عليه يوحي بأن هذا الاعتقاد ليس في محله، إذ حاز في 3 من أيلول/سبتمبر الحاليّ على منصب كبير المستشارين السياسيين للرئيس أردوغان أو ما يمكن تسميته المستشار الأساسي للرئيس أردوغان في مجال السياسة الخارجية، محدثًا عدة تساؤلات أهمها: من ياسين أكتاي؟ وما حجم التأثيرات التي يمكن أن يحدثها بصعوده إلى هذا المنصب؟
السيرة الذاتية
ينحدر ياسين أكتاي من مدينة “سيرت” الواقعة في جنوبي شرق تركيا، والتي تحتضن نسبة كبيرة من “عرب تركيا”، أبصر أكتاي نور الحياة عام 1966، وانتقل عام 1986 إلى أنقرة، لدراسة علم الاجتماع في جامعة الشرق الأوسط، أكمل الماجستير والدكتوراة في نفس الجامعة وأنهى مسيرته التعليمية عام 1997.
قبل إنهائه تعليمه بالكامل، عُين أكتاي عام 1992، كمعيد في جامعة سلجوق في مدينة قونيا، وفي عام 2005 نال لقب البروفيسور في فرع التحليل الاجتماعي للمؤسسات.
نشاطه الصحفي والسياسي
تعاون أكتاي في حياته العملية مع عدد واسع من الصحف والمجلات، غير أن نشاطه الصحفي الفاعل بدأ عندما شرع في عمله كمعد ومقدم لبرنامج “صاحب نظرة” على قناة “أن تيفي” الأكثر مشاهدة في تركيا، عام 2011.
أما على الصعيد السياسي، فقد شغل أكتاي، منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2002، الكثير من المناصب الإدارية داخل الحزب، أهمها رئيس دائرة العلاقات الخارجية والناطق الإعلامي باسم الحزب ونائب زعيم الحزب.
ربما لم يُعرف أكتاي على نطاق واسع، نظرًا لعدم توليه منصب رفيع المستوى إلى الآن، لكن مسيرته السياسية توحي باحتمال استكمال مشواره نحو هذا المنصب.
الآثار الأكاديمية
يماثل أكتاي داوود أوغلو من ناحية سياسية وأكاديمية إلى حدٍ كبير، فداوود أوغلو قبل أن يصبح وزيرًا للخارجية كان مستشارًا سياسيًا لرئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان، وربما يتوفق أكتاي في تولي منصب رفيع المستوى في المستقبل، وبينما سطر داوود أوغلو 6 كتب علمية، ألف أكتاي 15 كتابًا علميًا، وترجم بعضًا من الكتب الإنجليزية والعربية إلى التركية.
وتُذكر الكتب التي ألفها أكتاي على النحو التالي:
ـ زمن الكاريزما أو الهيبة.
ـ همة لماذا وخدمة لماذا؟
ـ إضافة نقدية للتاريخ الاجتماعي التركي.
ـ كلنا آخرون! الهويات والصور الموجودة في تركيا.
ـ مصادر العلمانية والإسلام.
ـ الدين والحياة المدنية في تقاطع ما بعد الحداثة.
ـ ما بعد الحداثة والإسلام، العولمة والاستشراق.
ـ القدرات السوسيولوجية للفكر الديني التركي.
ـ الإسلام والأصل اليساري.
ـ اضمحلال التاريخ.
ـ الخوف والسلطة.
ـ سوسيولوجيا الدين.
ـ التيار الإسلامي: فكر سياسي في تركيا الحديثة.
ـ التمدن العولمي.. قونيا مثالاً.
ـ الثقافة والسياسة في الشرق الأوسط الجديد (بالتعاون مع أحمد أويصال وباكينام الشرقاوي).
أما الكتب التي عمل على ترجمتها فهي:
ـ ماكس فيبر والإسلام: مقاربة نقدية، ترجمة عن بايران تورنار.
ـ تحرر المجتمع والعقل، ترجمة عن أحمد تشيدام.
ـ تاريخ المجتمعات الإسلامية، ترجمة عن إيرا لابيدوس.
ـ الخطابات السياسية والفلسفية والتاريخية، ترجمة عن محمد أركون.
التوجه السياسي لأكتاي لا يعني استدارة تركيا بالكامل عن التيارات الأخرى كالتيارات العلمانية أو الاشتراكية
وربما لم يُعرف أكتاي على نطاق واسع، نظرًا لعدم توليه منصب رفيع المستوى إلى الآن، لكن مسيرته السياسية توحي باحتمال استكمال مشواره نحو هذا المنصب.
تأثيره على المسار السياسي الخارجي
بالعودة إلى الجزء الثاني من تساؤلات المقال، والذي يتعلق بمدى تأثير أكتاي على مسار السياسة الخارجية لتركيا، نجد أن أكتاي عمل بفاعلية عالية داخل مؤسسات حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا حتى أيار/مايو المنصرم، حيث تم إخراجه من قائمة الأسماء الفاعلة في اللجان المركزية للحزب، بعد عودة الرئيس أردوغان إلى قيادته.
في البداية، كما سلف ذكره، فُسر الأمر على أنه توجه جذري لدى القيادة التركية نحو تغيير سياساتها حيال الأزمات العالقة في المنطقة، لا سيما أن أكتاي اتسم، منذ اندلاع أزمات المنطقة، بموقعه “كعراب” لسياسات الحزب الخارجية، وبالأخص في منطقة الشرق الأوسط، غير أن إعادته إلى منصب أهم وأكثر تأثيرًا في سياسات تركيا الخارجية، يوحي باحتمال دأب تركيا على ذات سياساتها في المنطقة، والتي ترتكز على التقارب بين الحكومة والتيارات الإسلامية والليبرالية العربية.
وما يدفع أكتاي لينتهج سياسة التقارب من الشعوب والتيارات الفاعلة، أكثر من الحكومات الفاعلة، ربما هي خلفيته في مجال الاجتماع السياسي، حيث يرى أكتاي في هذه التيارات وقودًا لتركيا الرامية إلى تحقيق نفوذ دبلوماسي وإعلامي واجتماعي في المنطقة وفقًا لمنطق المركز الإقليمي “تركيا” + المركز المجتمعي “التيارات الإسلامية والليبرالية” المؤثر القريب من القيم المركزية للمجتمع يساوي إقناع الجمهور، وبالتالي إنشاء نفوذ دبلوماسي ناعم بشكل يسير.
وفي هذا السياق، لا بد من التأكيد أن التوجه السياسي لأكتاي لا يعني استدارة تركيا بالكامل عن التيارات الأخرى كالتيارات العلمانية أو الاشتراكية، فرغم أن أكتاي كان اسمًا فاعلاً في قرارات السياسة الخارجية، فإن تركيا، حكومةً ومؤسسات كمؤسسة الرئاسة ووزارة الخارجية ومراكز الدراسات وتجمعات البيروقراطيين وغيرها، جنحت إلى التنوع في التعاون البراغماتي التوافقي مع جميع الأطراف وفقًا لإملاءات مصالحها القومية، بعيدًا عن التوجه الأحادي. ولعل عودة تركيا لبناء تعاون استراتيجي مع المملكة العربية السعودية، رغم حجم الخلاف الشديد الذي طرأ بينهما إبان ثورات “الربيع العربي”، ومن ثم إعلانها، أي تركيا، استعدادها للتوجه صوب التطبيع مع النظام المصري الحالي، رغم احتضانها بعض قيادات جماعة الإخوان المسلمين المصرية، وتطبيعها الفعلي مع “إسرائيل”،وعلاقاتها الوثيقة مع حركة حماس الإسلامية، يدل على مدى تمتعها بسياسة براغماتية متوازنة لا تحكم بتوجه شخص واحد.
يعتبر أكتاي من الأسماء القليلة التي اختلفت مع تصريحات الرئيس أردوغان بشكل علني، فالمرة الأولى كانت حينما صرح أردوغان بأن “أوغست كونت” رجل يتم تناول اسمه بشكل مكثف في تركيا والدول الغربية
وعلى الأرجح، تتمسك تركيا برغبة من صاحب الدور الأكبر في توجيه سياستها إزاء منطقة الشرق الأوسط، بالتيارات الإسلامية والليبرالية، أملاً في تحقيق نفوذ إعلامي ودبلوماسي في حال تمكن هذه التيارات من اعتلاء سدة الحكم.
وبالاطلاع على كتاباته اليومية وكتبه المنشورة، نجد أن أكتاي أقرب ما يكون لسياسة “صفر مشاكل” التي تؤمن بضرورة رفع مستوى التعاون الدبلوماسي والاقتصادي والاجتماعي مع جميع الدول، بعيدًا عن فتح ملفات الخصومة التاريخية، كما يؤمن بضرورة التسلسل في بناء العلاقات الخارجية، بحيث تبدأ من الجانب الاقتصادي، وتتجه فيما بعد نحو الملفات الأخرى، فالتعاون الاقتصادي المتين يؤدي إلى تعاون سياسي متين بحسب رأيه.
وقد يكون في ذلك دلالة على احتمال توسيع تركيا تعاونها الاقتصادي بشكل أوسع مما عليه، بحيث يشمل أغلب الدول الممكن التعاون معها، وبالأخص الدول المركزية الدولية والإقليمية، كإيران والصين وفيتنام وإندونيسيا وجنوب إفريقيا وأوغندا والبرازيل، لتحقيق نفوذ عالمي يعود بالفائدة الملحوظة على تركيا.
ختامًا، يعتبر أكتاي من الأسماء القليلة التي اختلفت مع تصريحات الرئيس أردوغان بشكل علني، فالمرة الأولى كانت حينما صرح أردوغان بأن “أوغست كونت” رجل يتم تناول اسمه بشكل مكثف في تركيا والدول الغربية، على الرغم من التناقضات الجمة التي تحملها نظرياته، بينما لا يُمنح ابن خلدون ذات الأهمية، عندها خرج أكتاي وفند هذه الرؤية مشيرًا إلى أن الدولة العثمانية هي التي منعت تناول نظريات ابن خلدون، الأمر الذي حال دون انتشارها بشكل مؤثر في تركيا والدول الأوروبية. والمرة الثانية عندما ألمح بأن الدولة العثمانية ارتكبت “إبادة جماعية” عام 1915، رغم أن الحكومة الحالية تنفي هذا الادعاء، وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على وجود احتمالين لمستقبل أكتاي: الأول يتوقف على التزامه الصمت حيال تصريحات أردوغان وعدم معارضته بشكل قاطع، والثاني يتمحور حول تمتعه بالإصرار على رؤيته الأكاديمية ورأيه السياسي، حتى وإن كان مخالفًا لأردوغان، وفي حال سار على ضوء الاحتمال الثاني، على الأرجح، سيكون مصيره مشابهًا إلى حدٍ كبير لمصير أحمد داوود أوغلو.