من لم يقتله القصف فسيقتله الجوع حتمًا، ومن لم تصبه رصاصات الاحتلال فلن يفلت من آلام الأمعاء الفارغة، وهي معركة يومية يخوضها مئات الآلاف من الفلسطينيين في قطاع غزة بين الهرب بحياتهم من قذائف الطائرات والمدافع والتشبث بها عبر لقيمات يقمن بها الصُّلْبُ، ولا خيارات أمامهم سوى انتظار المصير المجهول.
وبينما الحرب تدخل يومها الـ138 يشهد القطاع واحدًا من أقبح مخططات الحصار في التاريخ، لا ماء ولا طعام ولا دواء ولا مأوى ولا كساء، نفذت كل مقومات الحياة، حتى أعلاف الحيوانات التي حاول بعض المحاصرين تكميم بطونهم بها، ليصل الأمر إلى أن يأكل الأطفال أيديهم كما جاء على لسان إحدى الأمهات في القطاع المحاصر.
حرب تجويع تُشن بالصوت والصورة على الهواء مباشرة، فيلم إبادة يعرض على مرأى ومسمع من الجميع، وسط صراخ الأطفال والأمهات والعجزة، وصور الحشود المتزاحمة للحصول على كسرة خبز، فيما تواصل طائرات الاحتلال قصفها لهم في مشاهد لا تختلف كثيرًا عن تلك التي تتناقلها شاشات هوليوود وأفلام الخمسينيات والستينيات التي تناولت المذابح والمآسي التي تعرضت لها حدائق الاستعمار الخلفية في إفريقيا وآسيا.
"أنا كأم صعبانة علي أولادي، بنتي معاقة بتاكل إيديها من الجوع".. أم فلسطينية تشكو معاناتها في ظل استمرار منهجية التجويع الإسرائيلية#غزه_تموت_جوعاً pic.twitter.com/pojfdcWNY6
— نون بوست (@NoonPost) February 21, 2024
في خضم هذه المآسي المتتالية، تمارس الولايات المتحدة هوايتها المفضلة برفض كل شأن إنساني، مستخدمة الفيتو لإجهاض مشروع القرار الجزائري في مجلس الأمن لوقف إطلاق النار فوريًا وإدخال المساعدات للمحاصرين في غزة، وذلك رغم حصوله على تأييد 13 دولة عضو بمجلس الأمن الدولي.
رفض مشروع القرار بمثابة موافقة رسمية على التجويع كوسيلة حرب ضد الفلسطينيين، حسب وصف مندوب الجزائر في مجلس الأمن، أما مندوب الصين فاعتبره “ضوءًا أخضر لاستمرار المجازر”، لتوشك الكارثة الإنسانية بالقطاع أن تصل إلى ذروتها بعد تقديرات برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة التي أشارت إلى أن أكثر من ربع سكان غزة استنفدوا إمداداتهم الغذائية، فيما حذرت المنظمة الأممية للطفولة (يونيسيف) من أن 90% من أطفال قطاع غزة يعانون من سوء التغذية.
التجويع كـ”سلاح حرب”
ما يمارسه الاحتلال بحصاره المطبق على قطاع غزة من كل الجبهات، وترهيب كل الجهات الإغاثية العاملة في الداخل، وعرقلة أي جهود إنسانية لإيصال المواد الغذائية، لا يمكن وصفه إلا بحرب تجويع ممنهجة.
أعلن برنامج الأغذية العالمي على لسان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفان دوجاريك، أنه أوقف مؤقتًا تسليم المساعدات الغذائية لسكان شمالي القطاع، فالظروف الأمنية لا تسمح بذلك، فيما قال في بيان له إنه يدرك جيدًا تبعات هذا القرار وتدهور الوضع أكثر هناك، مشيرًا إلى أن عددًا أكبر من الناس سيواجهون خطر الموت جوعًا.
ليست هذه المرة الأولى التي يوقف فيها البرنامج الغذائي العالمي إرسال المساعدات الغذائية إلى شمال غزة، فسبق أن أوقفها قبل 3 أسابيع بعد ضربة إسرائيلية أصابت شاحنة له، قبل أن يستأنف شحناته التي تعرضت هي الأخرى فيما بعد إلى استهدافات بشكل مباشر وغير مباشر في محاولة لترهيبها وإثنائها عن القيام بهذا الدور.
المعاناة ذاتها تواجهها منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف”، التي كشفت في تصريحات على لسان المتحدثة باسمها، تيس إنغرام، أنها تواجه تحديات أمنية في إدخال المساعدات، ومثلها في توزيعها نظرًا لقلتها، محذرة من أن الأزمة الإنسانية تتفاقم خاصة في شمالي قطاع غزة، ومعظم الأطفال يواجهون الجوع، فنحو 90% منهم يعانون سوء التغذية بشكل قاسٍ.
لا يكتفون بتجويعهم وقطع المساعدات عنهم، بل يقـ،ـتلونهم عندما يحصلون على القليل من الطعام.. لقمة أهل #غزة مغمسة بالتراب والدم.#غزة_تُباد pic.twitter.com/4OJZV83Ek2
— نون بوست (@NoonPost) February 20, 2024
أما الهلال الأحمر الفلسطيني فحذر من تفاقم المجاعة بالقطاع، في ظل شح المساعدات واستمرار العدوان الإسرائيلي المدمر، فيما أكد المتحدث باسمه، رائد النمس، أن الجوع الذي يعانيه سكان غزة أدى إلى سقوط العديد من الوفيات، محذرًا من أن ما يحدث في شمالي القطاع سيمتد إلى مناطق أخرى منه، مشيرًا إلى تراجع في إدخال المساعدات إلى مناطق الشمال.
وترد عن القطاع تقارير رسمية صادمة بشأن المعاناة الإنسانية التي يواجهها السكان في جميع المناطق، حيث لا ماء ولا غذاء ولا دواء، وكان مدير الإعلام الحكومي في غزة إسماعيل الثوابتة قد صرح بأن سكان غزة دخلوا مرحلة متقدمة من المجاعة، وأنه خلال الأيام الـ10 الماضية لم يدخل القطاع سوى 9 شاحنات فقط، ما أجبر فلسطينيون في الشمال على طحن علف الحيوانات للبقاء على قيد الحياة.
جريمة حرب بضوء أخضر أمريكي
يعد التجويع بمعنى حرمان الناس عمدًا من المواد التي لا غنى عنها لبقائهم، بما في ذلك تعمد عرقلة الإمدادات الغوثية، حريمة حرب كاملة حسبما ينص نظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية، وفق المادة 8 (2) (ب) (25)، وهو كذلك في القانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف الرابعة في البروتوكولين الإضافيين لعام 1977 (المادة 54 (1) من البروتوكول الإضافي الأول، والمادة 14 من البروتوكول الإضافي الثاني).
كما أكد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2417 الصادر في العام 2018، على أن “استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال، يمكن أن يشكل جريمة حرب” مشددًا في الوقت ذاته على أن “استخدام تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب القتال في عدد من حالات النزاع، أمر محظور بموجب القانون الدولي الإنساني”.
عرقلت الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الثالثة منذ بدء العدوان على غزة الوقف الفوري لإطلاق النار في القطاع لأسباب إنسانية باستخدامها الفيتو ضد مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي صاغته الجزائر#غزة_تحت_القصف#طوفان_القدس pic.twitter.com/15KiTLyM59
— نون بوست (@NoonPost) February 21, 2024
ويرى الخبير ومستشار النزاعات المسلحة والحروب إياد نصر، أن تجويع المدنيين وعدم توفير المواد الأساسية المطلوبة انتهاك جسيم للقانون الدولي، معتبرًا – وهو الرئيس السابق لمكتب الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية – أن كل من ينخرط في هذا الإطار شريكًا في تلك الجريمة وسيطاله العقاب طال الزمان أو قصر، لافتًا في تصريحاته لـ”الجزيرة” إلى أن جميع الدول التي وقعت على اتفاقيات جنيف ملزمة بالاضطلاع بمسؤولياتها، ولا يسقط أي خرق لهذه القوانين بالتقادم.
وباستخدامها حق الفيتو تُعطي الولايات المتحدة الضوء الأخضر للاحتلال لتنفيذ مخطط التجويع كسلاح حرب، لتتواصل جريمة التطهير العرقي التي يتعرض لها أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، ممن وجدوا أنفسهم بين كماشة الموت، إما بالقصف والقنابل أو بالجوع والعطش.
كي الوعي.. أداة ضغط على المقاومة
يحاول الاحتلال – عبر الغطاء الأمريكي – تحقيق عدة أهداف من وراء سلاح التجويع الذي يستخدمه ضد سكان القطاع أبرزها:
– البحث عن انتصار زائف يعوض به خسائره المتتالية، لا سيما في ظل الفشل في تحقيق أي من أهداف الحرب المعلنة (القضاء على حماس – تحرير المحتجزين – صد أي تهديدات مستقبلية آتية من غزة).
– الضغط على المقاومة لإجبارها على تقديم تنازلات بشأن صفقة التبادل، في ظل تمسكها بشروطها الخاصة بوقف فوري ودائم لإطلاق النار وانسحاب قوات الاحتلال من القطاع، بالإضافة إلى الضغوط التي تتعرض لها حكومة الاحتلال من عائلات الأسرى والرهائن والانتقادات التي تتعرض لها ليل نهار بسبب فشلها في تحقيق هذا الهدف، رغم الوعود المتكررة على مدار أكثر من 137 يومًا.
– كي الوعي الفلسطيني إزاء ما حدث في الـ7 من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، من خلال تعظيم حجم الخسائر وأرقام الضحايا وتعميق الصدمة بما ينسف مشاعر النصر التي خيمت على الشارع الفلسطيني والمزاج الجمعي عقب عملية الطوفان، وهي المشاعر التي أحييت روح المقاومة مجددًا لدى الفلسطينيين، ما أجهض سنوات من العمل الإسرائيلي الدؤوب لتسطيح القضية وتمييعها لدى الأجيال الفلسطينية.
الصمت العالمي.. أمر ليس بالمستغرب
الصمت الدولي على حرب التجويع التي يتعرض لها سكان غزة ليس مفاجئًا، ولا هو بالمستغرب، فالأمريكان وحلفاؤهم في الغرب اعتادوا هذا المشهد، كذلك بعض بلدان المعسكر الشرقي، الجميع يمتلك سجلًا فاضحًا ومشينًا من الإجرام وحروب الإبادة التي شُنت ضد الخصوم، وكان التجويع سلاحهم الأبرز في تلك المعارك.
بالعودة إلى أوائل القرن الـ17 على سبيل المثال، وتحديدًا عام 1618 حين اندلعت الحرب بين الامبراطورية الرومانية والبوهيميين البروتستانت، وشاركت فيها ألمانيا والدنمارك والسويد وفرنسا، حيث فرضت جيوش تلك البلدان حصارًا على فلاحي أوروبا لإجبارهم على العمل في المزارع العمومية لتلك الدول وترك الفلاحين لمزارعهم الخاصة، وأمام رفضهم لتلك الإملاءات تعرضوا لحصار أسفر عن وفاة أكثر من 8 ملايين منهم بسبب الجوع.
سلاح التجويع في حرب غزة.
غزاة من أبشع ما عرف التاريخ.
يستخدمون سلاح التجويع وهم يتبجّحون بكيانهم الأخلاقي!
المصيبة أن يحدث ذلك وسط عالم عربي يترك أشقاء في قطاع صغير نهبا للجوع بدعاوى فارغة.
أنظمة بائسة، وبعضها متواطئ.
لو ملكت الإرادة والنيّة لأنزلت مساعدت من الجو، رغم أنف الغزاة.— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) February 21, 2024
ومن أكثر حروب المجاعة التي عرفها العالم في التاريخ الحديث تلك المجاعة التي تعرضت لها أوكرانيا على أيدي الاتحاد السوفيتي في الفترة 1932 – 1933، وأسفرت عن موت ما بين 7 – 10 ملايين بين الأوكرانيين جوعًا.
وخلال الحرب العالمية الثانية قتلت بريطانيا أكثر من 3 ملايين هندي بسلاح الجوع، كما فرضت ألمانيا حصارها الشهير على بليغراد عام 1941 والذي أودى بحياة مليوني شخص جوعًا بعدما تحولوا إلى هياكل عظمية.
ولذلك، فإن التعويل على الموقف الغربي استنادًا إلى شعاراته الإنسانية التي يتشدق بها ليل نهار في غير محله، فسجلهم حافل بعشرات الجرائم من هذا النوع، التي يكون فيها الجوع سلاحهم الفتاك.. ليبقى السؤال الأكثر حرجًا: ماذا عن العرب؟ ماذا عن الجيران والأشقاء؟ ماذا عن الذين يتشابكون مع سكان غزة بروابط الدين والتاريخ والجغرافيا والقومية والعرق والأخلاق؟ أما يحرك فيهم ما يحدث؟
السؤال التقليدي.. ماذا عن العرب؟
“يا أهل مكة، إنا نأكل الطعام، ونشرب الشراب، ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى، والله لا أقعد حتى تُشَقَّ هذه الصحيفة القاطعة والظالمة..”، رسخ القرشي زهير ابن أمية المخزومي بتلك الكلمات التي قالها قبل أكثر من 1400 عامًا، ردًا على فرض المشركين – وكان منهم – حصار على الرسول وصحبه في شعب أبي طالب بمكة، ما كان عليه العرب قديمًا أيام الجاهلية من مروءة وإنسانية وأنفة وكرامة وعزة.
تلك المروءة التي يعاني العرب اليوم من ندرتها، بعدما جلسوا جميعًا في مقاعد المتفرجين، يتابعون على الهواء مباشرة فيلم التجويع الذي يعرض في سينما غزة على بعد أمتار منهم، دون أن يحرك ما يتعرض له إخوانهم الذين يقتلون بدماء باردة من ساكن، في مشهد أثار غضب واستفزاز الكثيرين.
أليس إدعاء -من يتملك (جيوشا جرارة)- العجز أمام الظلم الجلي والتجويع والإبادة مهانة؟
هل هذا الخذلان من شيم العرب أو تعاليم الدين؟
هناك من مات جوعا يا عرب يا مسلمين في غزة!!
وآخرون من إخوانكم ينهشهم الجوع الآن!!!
يتألمون وينادون على كل ضمير حي في هذه الأمة !!
فهل يصل النداء؟
— رضوان الأخرس (@rdooan) February 19, 2024
عشرات التساؤلات، تُوجه ليل نهار منذ بداية الحرب، للأنظمة العربية المطبعة مع الاحتلال بشأن تخاذلها عن استغلال تلك العلاقات مع الكيان المحتل في إدخال مساعدات عاجلة للمحاصرين في القطاع، أو على الأقل التلويح بتلك العلاقة للضغط عليها، هذا بخلاف التساؤلات الموجهة للدول النفطية الغنية التي تنفق ببذخ على الحفلات والفعاليات الرياضية فيما يأكل إخوانهم في غزة أعلاف الحيوانات، ويتساقط أطفالهم واحدًا تلو الآخر جوعًا وعطشًا.
بلادة فاضحة تعاني منها الأنظمة العربية إزاء جريمة الإبادة التي يتعرض لها أهل غزة، خذلان ما حوته كتب التاريخ التي وثقت أقبح محطات الإنسانية في حقبها الأولى، سقوط مدوي للجميع بلا استثناء، فلا مروءة الجاهلية حصلوا ولا أخلاقيات الإسلام.