في مطلع السيرة الذاتية لكولن ويلسون والمعنونة بـ”حلم بغاية ما” يفضي إلى قرائه بأنه عندما بلغ السادسة عشر من عمره عزم على الانتحار، وقراره لم يكن وليد نزوة عاطفية بل كان قرارًا منطقيًا بالكامل، وفي موضع لاحق من ذات الفصل يوصف صاحب اللامنتمي تجربة الانتحار بأنها نوع من إعادة الولادة لذات خلاقة عجزت عن رؤية إمكاناتها الثمينة قبل هذه التجربة الفريدة.
ولعل ما يميز قراءة السير الذاتية العظيمة كما في سيرة كولن ويلسون أنها تقدم خبرات ودروسًا حياتية لا تقدر بثمن، ولا يمكن إيجادها في كتب التنمية البشرية، بالإضافة إلى أنها تساعد المرء في التعرف على وجهات نظر مختلفة، ورؤية العالم من منظور جديد لم يكتشفه من قبل.
في الجزء التالي من المقال، نستعرض ثلاثة من كتب السير الذاتية لأدباء حازوا على جائزة نوبل للآداب.
توماس ترانسترومر.. ذكريات تراني
“الحقيقة موجودة على الأرض
لكن لا أحد يجرؤ على التقاطها
الحقيقة ممددة في الشارع
لا أحد يلتقطها”
حاز الشاعر السويدي توماس ترانسترومر على جائزة نوبل للآداب عام 2011 ليكون أول سويدي يحصل على الجائزة منذ عام 1974، قدم ترانسترومر طيلة مسيرته 12 كتابًا شعريًا ونثريًا، فيقول روبن فلتون في مقدمة أعماله الكاملة المترجمة للإنجليزية: “على الرغم من قلة حجم إنتاج هذا الشاعر فإن تأثيره يبدو واسعًا وكبيرًا، فلمدة تزيد على نصف قرن كان عمله يجذب انتباهًا متزايدًا في بلده السويدي وسيطر شعره على اهتمام مدى متسع من القراء في أنحاء العالم كافة”.
أما بالنسبة لسيرته الذاتية، فتقول زوجته وشريكة حياته مونيكا ترانسترومر في حوار أجراه الكاتب والمترجم طلال فيصل معهما إنه أفضل مدخل لقراءة أدبه وشعره، لأن فيه المكونات الأولى لإبداعه والمواضيع التي ستشغله طيلة مشواره الإبداعي بعد ذلك، وتضيف في نفس الموضع أنه كان من المفترض أن يكتمل الكتاب لـ16 فصلًا بدلًا من الثمانية الذين صدروا بالفعل، لكن مرضه حال دون ذلك”.
كتب باموق الكتاب بينما كان يمر بمرحلة من الاكتئاب، فيقول: “بسبب العديد من الأمور كانت حياتي عبارة عن دوامة من الأزمات”
وكانت قد صدرت الأعمال الكاملة للشاعر مترجمة للعربية من ترجمة قاسم حمادي، ومراجعة وتقديم الشاعر أدونيس عام 2005 عن دار بدايات، وصدرت سيرته الذاتية مترجمة للعربية عام 2015 من ترجمة طلال فيصل عن الهيئة المصرية العامة للكتاب.
أورهان باموق.. إسطنبول.. الذكريات والمدينة
“إن قدر إسطنبول قدري، وأنا مرتبط بهذه المدينة لأنها جعلتني ما أنا عليه”.
إلى جانب كتاب “ألوان أخرى” للكاتب التركي أورهان باموق والذي قدم خلاله قطع من سيرته الذاتية، فإن كتاب “إسطنبول.. الذكريات والمدينة” والصادر عام 2003 يشكل جزءًا كبيرًا من سيرته، وفي حواره المنشور مع مجلة باريس ريفيو، يقول صاحب نوبل: “نصف هذا الكتاب هو سيرتي الذاتية حتى تلك اللحظة، والنصف الآخر مقال عن إسطنبول، أو بدقة أكبر، رؤية طفل لإسطنبول، إنه يجمع بين التفكير في الصور، والمناظر وكيمياء المدينة، وإدراك طفل لتلك المدينة، والسيرة الذاتية لذلك الطفل، العبارة الأخيرة من الكتاب تقول: لا أريد أن أصبح فنانًا، سوف أكون كاتبًا”.
كتب باموق الكتاب بينما كان يمر بمرحلة من الاكتئاب، فيقول “بسبب العديد من الأمور كانت حياتي عبارة عن دوامة من الأزمات، لا أريد الخوض في التفاصيل، ولكن الوضع كان سيئًا بحق، الطلاق وموت أبي ومشاكل مهنية، وعدة مشاكل هنا وهناك، وفكرت بأنني إذا ما تركت نفسي تضعف فسوف أصاب بالاكتئاب، ولذلك في كل صباح استيقظ، وأحصل على حمام بارد، وأجلس لاستعادة ذكرياتي وأدونها”.
ويعترف صاحب “اسمي أحمر” أن صدور الكتاب تسبب في إغضاب عائلته، وعلى الأخص أخيه الأكبر وخسره بسببه، كما أن انقطعت علاقته بوالدته، وصدرت أكثر من ترجمة عربية للكتاب عن دار المدى والهيئة المصرية العامة للكتاب.
جونتر جراس.. تقشير البصلة
“للبصلة قشور كثيرة، عدد وافر من القشور، عندما تقشر فإنها تجدد نفسها، وعندما تفرم فإنها تسيل الدموع؛ في أثناء التقشير تنطق الحقيقة”.
هكذا فسر صاحب ثلاثية داينتسيغ والحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1999 سر تسميته للكتاب الأول من سلسلة مذكراته، كما لو كان استعارة عن محاولاته لنزع طبقات ذاته، واحدة تلو الأخرى ليصل إلى جوهر نفسه وحقيقتها، ويخصصه لمرحلة نهاية طفولته والتي حددتها اندلاع الحرب العالمية الثانية، وتتوقف عند نشره لروايته ذائعة الصيت “طبل الصفيح”.
وقوبل صدور تقشير البصلة بضجة عارمة وتعرض جراس لهجوم حاد، لاعترافه خلال صفحاتها بانضمامه إلى الشبيبة النازية عندما كان طفلًا، وانضمامه لاحقًا لـ”فرقة الوحدات النازية”، أراد من خلالها أن يحرر ضميره المعذب، ولكن من بوسعه لوم الصبي الذي كانه إذ كان معرض باستمرار لماكينة الإعلام النازية بإدارة جوبلز.
ومن المعروف عن جراس أن لديه مواقفًا وآراءً سياسية جريئة، منها قصيدته المعنونة بـ”ما ينبغي أن يقال” 2012 يفضح فيها سياسة “إسرائيل” وتهديداتها المتواصلة للسلام العالمي، سواء بمهاجمتها وتضييق الخناق على إيران، وممارستهم العنصرية ضد الفلسطينيين.
وقد اتبع أديب نوبل مذكراته بكتاب ثانٍ بعنوان “الصندوق: حكايات من الغرفة المظلمة” عام 2010، والكتاب الثالث والأخير “كلمات جريم: إعلان الحب” عام 2012/ وصدرت الترجمة العربية للجزء الأول عام 2014 عن دار دال للنشر والتوزيع ومن ترجمة عدنان حسن.