في ليلة من ليالي مدينة غازي عنتاب الهادئة و الساكنة، كان القمر ساطعا، و الجو ساحرا…
دعكم من هذا الكلام الروائي الذي قد يصفه البعض بـــ”الضحك على اللحى”، ففي تلك الليلة التي بدأت بها بكتابة المقال، كنت في غرفة الفندق التي أقطنها منذ ما يزيد عن 8 شهور, بها نافذة وحيدة تطل على شارع كئيب. معظم من يمر بهذا الشارع هو ذاهب الى أحد المستشفيات على جانبيه . أغلق الستائر مع غروب الشمس فلا أرى للقمر ضياً. و أما تقلبات الطقس فيحددها لي المكيف المركزي. و لا أنسى ذكر علبة البيتزا الفارغة عن يميني وقارورة الكولا الفارغة عن يساري.
في تلك الليلة، و في صلاة الوتر تحديدا،قفز لي سؤالٌ قد سألته لنفسي مرارا:
ما هي الأهداف الأساسية لإقامة “العرس” أو “حفل الزفاف”؟
هل منكم من سأل نفسه أو غيره هذا السؤال؟
سأذكر بعضا من الأجوبة التي يتفق عليها الجميع بل و يبادرون لذكرها.
العرس هو نوع من الإشهار و الإعلان عن هذا الحدث المميز ، و هو أيضا فرحة العريس و زوجه و أهلهما بهذا الزواج و الإحتفال به و نشر السعادة و البسمة فيه هو هدف قائم بحد ذاته, و أيضا فيه مشاركة للفرحة..فرحة العريس و أهله بالحاضرين..و فرحة الحاضرين بالعريس..و هذه فرحتان..و هذه نقطة مهمة, و في العرس أيضا أداء للواجب الإجتماعي، و يحصل فيه نوع من الربط و التكافل الإجتماعي..الى آخر الأهداف التي قد تذكر.
حسنا, كل ما سبق هو والله كلام جميل لا غبار عليه, “جميل جداً ألف” كما يقال,
لكن هنا أطرح سؤالي الثاني..
أعراسنا اليوم..
بتفاصيلها المعقدة..
و أساليبها المكررة و نمطيتها المعتادة..
بــــ”تكاليفها” الضخمة و “تكلّفها” الظاهري..
أعراسنا اليوم..ماذا حققت من الأهداف المذكورة آنفا؟
ماذا تحقق منها بــــ”صدق”؟
فلنعرّج قليلا على أعراسنا اليوم..لكن بنظرة صادقة..
و ما سيأتي الان…يعمُّ جلّ أعراسنا! ((إلا من رحم ربي))
و سأبدأ يا سادتي بذكر الحضور..
فأغلبهم يأتي رفعا للعتب, و إسقاطا للواجب الإجتماعي ((تماما كما أصبحنا نسقط واجب الصلاة من غير أن نصلي حقيقة)), يباركون لذلك الصف الذي ينتظرهم عند الباب, و عادة لا يعرف نصفهم و يخرج و هو “ما زال لا يعرفهم”..
يجلس ينتظر قطعة الكنافة أو الكيك أو بوفيه العشاء, و هذه لوحدها سببت حكاية!
قد تكوّن لقطعة الكنافة أو الكيك هذه مكانة في العرس..حيث أنه أصبح لها وزنا..و انعكست الآية فأصبح من الواجب أن نأتي بها بمواصفات معينة، و صارت هي أمرا مهما أساسيا في العرس..قد تفوق تفاصيل الحديث عنها تفاصيل الحديث عن كيف نشارك الجميع هذه الفرحة! ((هذا إذا تم الحديث عن الأخيرة من الأساس!))
المهم, أنه يأكلها سريعا..أو على مهل…لا يهم..المهم أنه يأكلها..
يبارك مرة أخرى للعريس عند دخوله، و ينطلق الى بيته راضيا ضميره الإجتماعي و ربما ملماً بكل ما يستحق النقد و ما لا يستحق.
و حتى لا نظلم أحدا, فإننا أحيانا نجد فرحة حقيقية و سعادة صادقة عند بعض الأصدقاء و الحاضرين.
لكن كم نسبتهم من الحضور؟ كم نسبتهم من النمط العام للأعراس؟
أما بالنسبة للعروسين و أهلهما و أحيانا بعض من صحبة العريس و العروس المشاركين في تفاصيل هذا اليوم..
فهو يوم عنوانه “التوتر” و مضمونه “المنغصات” و رعب فيه من “المشاكل” و نهايته “زوال هم!”.
ما بين الصالة و الصالون و السيارة و الحضور و المعازيم و الضيافة و الدفع و و و و و و…الخ.
و بعد كل تلك التفاصيل, تأتي الساعة المنتظرة…حفل الزفاف مساءا.
تأتي تلك الساعة المليئة بإبتسامات المجاملة، و القبلات التي لا تنتهي لمن يعرف ولا يعرف، و تعضيل عضلات الوجه مما سبق, و كل تلك الواجبات و البروتوكلات التي لا يُعلم عنها شيئا سوى أنه يجب القيام بها!
في نهاية الأمر و خلاصته..
أغلب المشاعر و الأفكار المرتبطة بيوم العرس, و كل الفترة التي قبله, هي عبارة عن “هم” و “ثقل” كبيرين مزعجين على الصدر.
و لم أقابل عريسا الى يومي هذا إلا وتكون فرحته “الأكبر” بعد العرس..هي لا بحفل زفافه..بل بأنه “انتهى” من الحفلة و ليلة العرس!!
ألا يكفي هذا لنعيد حساباتنا؟
لنغير نظرتنا؟
لنترتب و نعرف الأولويات و جوهر الأمر؟
دعوكم من كل هذا…
ربما هي فقط هلوسات ناقم على منظومة الزواج، و ليس في كلامه ما يعكس الواقع؟ ولا تستحق أن تسمى إدراكات؟
لربما الجواب لهذه الأسئلة بكل بساطة…”نعم” “نعم” “نعم”!
المهم الان, أني أريد أن أحدثكم عن شيء جميل, شيء بسيط, شيء فيه من البهجة و السعادة الشيء العظيم..
سأحدثكم عن “عرسي الذي أتمناه!”..
سيبدأ هذا العرس باكر، أي ما بين الصباح و ما قبل الظهيرة..
و سينتهي قبل غروب الشمس..
سيقام في مكان مفتوح به هواء طلق…
في مكان خاص..لنقل مزرعة أحد المعارف أو الأقارب..
أو مكان عام..حديقة كبيرة..غابة من الغابات..الأماكن ذاتها التي نقصدها في رحلاتنا.
لا يوجد عدد محدد للحضور، فالكل مرحب به أن يأتي أنى شاء..و يذهب أنى شاء.فساعات الفرح ممتدة في ذلك اليوم؟
الحضور من الأهل و الأصدقاء و الأقارب..و أيضا من كل غريب يمر بنا و أراد مشاركة الفرح!
لهذا اليوم برنامج…قد وزع من فترة على كل المعارف ممن سبق ذكرهم..
فيه نشاطات و فقرات كثيرة, وضعت بجمع و ترتيب أفكار من العرسان و الأهل و الأصدقاء..
أذكار الصباح و قراءة شيء من القرآن..
جلسة ذكريات..يقوم بها أصحاب العريس بسرد بعض من حكاويه و قصصه معهم..((و قد تكون هي نفسها جلسة نشر المستور))..
مسرحية فيها “سكيتشات” تعبر عن أمور معينة من شخصية العريس..أو تعبر عن مواقف معينة حدثت في حياته..
مجلس نصح, يقوم فيه بعض من أصحاب العمر و الخبرة بسرد حكمة أو نصيحة واحدة أو أكثر..لكن يشترط أن تكون مستمدة من تجربته الخاصة في حياته..
هناك أيضا فقرة يُسأل فيها العريس عن عروسه! كيف و لم اختارها و بم أحبها!
سيتم تجهيز سماعات متنقلة, و سيستعرض فيها الشباب و كذا الشيوخ مهاراتهم على الدبكة!
سيُزفّ العريس..و يُقذف في الهواء..و يُغصب على أن يدبك و هو لا يعرف أي الأرجل يحرك أولا..اليمنى أم اليسرى!
و جلسة يحدث الأب..إبنه العريس أمام الجمع الكريم, و الأخ..أخوه, و الصاحب..صاحبه, كلمات و ضحكات من القلب الى القلب..
سيتخلل هذا اليوم أيضا دوري صغير بلعبة الطائرة..((قد تكون كرة قدم لمن أحب..لكني أحب كرة الطائرة))..
و لن يُنسى في هذا الفرح العارم آلام الأمة…سنذكُر القدس و فلسطين و سوريا و مصر و كل مخاضات عالمنا العربي و الإسلامي..
سيكون هناك أيضا وليمة غداء!
ياااه! بم أحدثكم عنها!؟ وليمة سيتشارك في إعدادها و تقديمها و أكلها كل الحاضرين..أو عالأقل من يحب منهم ذلك..
فيها من الأصناف و الألوان ما يكفي لأشباع كل خاطرة..
كبسة, مقلوبة, محاشي, ورق عنب, فخد خروف مشوي بالفرن, مجدرة, كرشات و فوارغ, أوزي, صيادية, دجاج و أرانب و زغاليل محشية, معكرونة بالباشيميل, صينية بيذنجان(مسقعة), صينية كفتة و بطاطا بالطحينية, صينية كفتة و بطاطا بالندورة, مشاوي بأنواعها, فتة لبنانية, فتوش, سلطة خضراء, سلطة الطحينية و سلطة معكرونة…و هذه أمثلة توضيحية فقط. 🙂
سيكون العبء الأساسي لطبخ هذه الوليمة هو على أهل العروسين و أصحابهما المقربين و أقاربهما, و من بعد ذلك من شاء من حاضري العرس…سيتم كل ذلك بترتيب و تنسيق ما..
و لن يسرف من الأكل شيئا!
فالزائد عن الحاجة سيقدر ما قبل بدء الوليمة…و يوضع جانبا من غير أن يمس!
و يعطى جديدا فيما بعد..إما لمن أراد أن يأخذ معه لبيته لليوم التالي مثلا…أو لعائلات محتاجة تُأخذ لهم في نفس اليوم.
أما اللباس في هذا اليوم…فسيكون بما يناسبه..فأنت حر في ذلك..
لا للتقيد..و لا للتقليد!
سترى في هذا اليوم الكثير و الكثير من “الإنسانية”, سترى ضحكات مبهجة, نقاشات حادة, معارف جديدة, علاقات قديمة, صداقات وطيدة, أطفال يتصارعون, و كبار يتسامرون, و شباب يستهزئون…أي والله (زمبؤلك كده!), سترى الكثير!
لن يشترط أن يكون هذا اليوم هو ذاته الذي يأخذ فيها العريس عروسه…بل يعود الأمر لنا ببساطة…قد نتم هذا اليوم و بعده بأيام يكون حفلا للنساء ((أيضا هو الآخر ليس اعتيادي)), و بعد حفل النساء يأخذها لينطلقا لتتمة حياتهم…أو العكس..
فجميل أن نبسط و نيسر الحياة..
لا أريد أن أسألكم عن كم السعادة في هذا اليوم..كم البساطة, الراحة, التشارك, الألفة, الترابط, الخ.
فقط أسألكم ولا أريد منكم جوابا..
كم يحقق عرسي هذا من أهداف “العرس”؟
كم من الصــــدق يقدم؟
في النهاية..أعيد عليكم جملا و معاني أكررها عند الحديث عن مآل منظومة الزواج في مجتمعاتنا اليوم..
تبا لمجتمع جعل من “الفرع” “أصل”…و من “الثانويّ” “أولويّة”!
تبا لمجتمع عقّد الزواج بكل تفاصيله..!
تبا لمجتمع حوّل الزواج من جوهره(سكينته و طمأنينته) الى مظاهره..!
تبا لمجتمع بات يخجل من الحب..!
تبا لمجتمع استمسك بالـــ”تفاصيل” و ترك الـــ”عناوين”..!
تبا لمجتمع قدّم العادات و التقاليد على أريحية و بساطة الزواج..!
تبا من مجتمع يتغنى بالتدين و الدين…((والتدين هنا قبل الدين…مقصودة))
و نسي “لا أرى للمتحابين إلا النكاح”..
و نسي “من ترضون (دينه) و (خلقه)”..
و نسي ((و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا))..
و نسي “لا فرق بين عربي و أعجمي إلا بالتقوى”..
و نسي “أحب الناس إلي (عائشة)”..
و نسي..و نسي..و نسي!
تبا لمجتمع صعّب “الحلال” بكل ما فيه..!!
هي ثورة نبدأها نحن، و ينهيها أبنائنا، و ينعم بها أحفادنا