ترجمة وتحرير نون بوست
عندما عاد ألكسندر فلمنج من عطلته، في اسكتلندا، في صائفة سنة 1928، ليجد مختبره في لندن وقد غزاه نوع من العفن الذي يُدعى “بنسيليوم نوتاتوم”، بدأ حينها عصر جديد من السيادة العلمية على الطبيعة. ومنذ ذلك الحين، أنقذت المضادات الحيوية التي اكتشفها فلمنج، فضلا عن المضادات التي كان هذا العالم بمثابة مصدر إلهام لاكتشافها، الملايين من الأشخاص، كما وضعت حدا للمعاناة التي لا حد لها في جميع أنحاء العالم. لكن، ومنذ لحظة انطلاق العمل بها، أدرك العلماء أن للمضادات الحيوية عمرا مرفوقا بتاريخ انتهاء صلوحيتها، بيد أنهم لم يعلموا متى سيحل ذلك بالتحديد.
في الواقع، تعتبر مقاومة البكتيريا للمضادات الحيوية أمرا طبيعيا ولا مفر منه، على حد سواء، حيث قد تمتلك البعض من هذه البكتيريا جينات تحميها من الأدوية، في ستعمل دون شك على نقل هذه الجينات إلى البكتيريا من حولها. في الوقت الراهن، عمد علماء الوبائيات بالاعتماد على الحاسوب إلى تحصيل البيانات والعمل على نمذجة هذه الظاهرة.
في المقابل، لا أحد من العلماء يعمل على توظيف هذه الآليات للتنبؤ بنهاية عصر المضادات الحيوية، نظرا لأنه قد حلّ بالفعل. عوضا عن ذلك، ركز هؤلاء العلماء جهودهم على تحديد مدى اقتراب البكتيريا المقاومة من السيطرة على العالم، وما الذي يستطيع الأطباء القيام به لإيقافها؟ في سنة 2013، صرح مدير مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، توماس فريدن، للصحفيين أنه “في حال لم نكن حذرين، فسيحل عصر ما بعد المضادات الحيوية قريبا”.
في الوقت الراهن، وبعد مرور أربع سنوات على هذا التصريح، أفادت الوكالة الأمريكية أن هذا العصر قد حلّ بالفعل. وفي هذا الصدد، أفادت جين باتيل، التي تترأس وحدة التنسيق وإستراتيجية المضادات الحيوية التابعة لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، أن “السبب وراء هذه التصريحات يعود إلى كون البكتيريا المقاومة لكافة أنواع المضادات الحيوية أصبحت بالفعل موجودة. ففي الواقع، يلقى الأشخاص حتفهم ببساطة، نظرا لأن المضادات الحيوية لعلاج أمراضهم المعدية ليست متوفرة، علما وأنها أمراض كانت قابلة للعلاج بسهولة في وقت ليس ببعيد”.
ظهرت 13 حالة فقط من البكتيريا العنقودية المقاومة للفانكوميسين، في حين لم يتوفّ أي من المصابين بها
خلال شهر آب/أغسطس الماضي، دخلت سيدة في السبعينات من عمرها مستشفى في مدينة رينو بولاية نيفادا الأمريكية وهي مصابة بعدوى بكتيرية في وركها. وكانت هذه الجرثومة تنتمي إلى فئة من الميكروبات العنيدة بشكل استثنائي والمعروفة باسم “الأمعائيات المقاومة للكاربابينيم” أو “كري”. وبالإضافة إلى الكاربابينيم، أبدت هذه الجرثومة مقاومة لكل من التيتراسايكلن والكولستين، وكافة مضادات الميكروبات الأخرى في السوق، التي يبلغ عددها 26 مضادا حيويا. وبعد عدة أسابيع، تعرضت المريضة إلى صدمة إنتانية، لتفقد حياتها إثرها.
بالنسبة للمسؤولين في قطاع الصحة العمومية من قبيل جين باتيل، مثلت تلك الحالة نهاية حقبة وبداية حقبة أخرى جديدة. ويظل السؤال المطروح حاليا: كم ستبلغ سرعة انتشار ذلك النوع من البكتيريا المقاومة لكافة المضادات الحيوية؟ وفي السياق ذاته، تساءلت باتيل، قائلة: “متى سنصل إلى المرحلة التي سيكون فيها عدم القدرة على معالجة عدوى ما باستخدام المضادات الحيوية أكثر شيوعا مقارنة بتلك التي تتم معالجتها؟ في الحقيقة، سيكون ذلك أمرا يصعب للغاية التنبؤ به”.
في الأثناء، يعزى يقين باتيل بشأن هذه المسألة إلى المحاولات التي أجرتها في هذا الصدد، سابقا. فخلال سنة 2002، ظهرت أول عدوى عنقودية مقاومة للفانكوميسين، أصابت رجلا من ولاية ميشيغان الأمريكية يبلغ من العمر 40 سنة ومصاب بتقرح مزمن في قدمه. وقد بدت الحالة سيئة للغاية، ذلك أن البكتيريا العنقودية تعد واحدة من أكثر العدوى البكتيرية انتشارا بين البشر، فضلا عن أن الفانكوميسين يمثل خصمها الأكثر شيوعا من بين المضادات الحيوية.
علاوة على ذلك، كان الجين المسؤول عن مقاومة المضاد الحيوي يقع في البلازميد، وهو عبارة عن دائرة حرة وعائمة من الحمض النووي التي تجعل من السهل على الجين التنقل. وقد عمل علماء الوبائيات في مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، بالتعاون مع علماء الأحياء الدقيقة من قبيل جين باتيل، على إنشاء نموذج يسمح بالتنبؤ بالمدى الذي قد تبلغه العدوى وسرعة انتشارها. وعلى الرغم من أن باتيل لم تستطع تذكر نتائج هذه الأبحاث بدقة، إلا أنها شددت على أن ما توصلت إليه كان مرعبا، حيث قالت: “كنا قلقين للغاية إزاء هذه المسألة”.
متى ما دخلت بكتيريا “كري” إلى نظام رعاية صحية ما، سيكون من الصعب التخلص منها، “حيث سيكون الأمر شبيها بمحاولة إخراج النمل الأبيض من المنزل”
خلافا لذلك، ولحسن الحظ كانت نماذج العلماء في هذه الحالة مخطئة تماما. فمنذ سنة 2002، ظهرت 13 حالة فقط من البكتيريا العنقودية المقاومة للفانكوميسين، في حين لم يتوفّ أي من المصابين بها. ولكن إدراك فريق العلماء أنهم كانوا على خطأ، قد جعلهم في حيّرة من أمرهم. عموما، قد يكون علم الأحياء على قدر كبير من التعقيد. من جانبها، أوضحت باتيل، قائلة: “لقد عملت على هذه البكتيريا في المختبرات، حيث نمت بشكل جيد، ولكن يبدو أنها لا تنتقل من شخص إلى آخر”.
في الوقت الذي لا يزال فيه العلماء يجهلون السبب الكامن وراء هذا الأمر، تشير فرضية واحدة إلى أن هذه الجينات المقاومة بشكل خاص لم تتولد بصفة منفردة، حيث من المرجح أنها قد جعلت من العنقوديات قادرة على مقاومة أعدائها من المضادات الحيوية. وفي السياق ذاته، ربما تكون الأجزاء ذاتها أيضا من الحمض النووي المسؤولة على الحد من إمكانية بقاء البكتيريا على قيد الحياة خارج جسم الإنسان. من جانب آخر، قد تكون لبروتوكولات المستشفيات، وفصول السنة والجغرافيا تأثير أيضا على معدلات الانتقال. ونتيجة لذلك، يشبه الأمر إلى حد كبير التنبؤ بالأحوال الجوية أكثر من أي شيء آخر.
من جهته، أشار الباحث في مجال الصحة العمومية في جامعة جونز هوبكينز، بروس لي، إلى أنه “لا يمكنك التكهن بذلك على الورق أو بمجرد الجلوس والتفكير. في الواقع، أنت في حاجة إلى نماذج محاكاة للتوصل إلى النتائج”. والجدير بالذكر أن لي يعمل بالتعاون مع شبكات الرعاية الصحية في شيكاغو ومقاطعة أورانج بهدف التنبؤ بالمسارات الأكثر احتمالا التي تستطيع بكتيريا “كري” اتباعها، وهي نوع البكتيريا التي أودت بحياة السيدة في نيفادا، فضلا عن ظهورها على نظام مستشفى ما.
في الماضي، وكما كان الحال بالنسبة لجين باتيل حين حاولت تتبع انتشار البكتيريا العنقودية المقاومة، كانت هذه النماذج تستند حصريا على المعادلات والبيانات، التي كانت معقدة للغاية. في المقابل، لم تأخذ تلك النماذج بعين الاعتبار السلوك البشري والبيولوجية البكتيرية وتفاعلات كل منهما مع البيئات المحيطة.
من هذا المنطلق، أفاد بروس لي أن “مجال عملنا شهد وعيا على نحو متزايد بأن فهم انتشار البكتيريا المقاومة للمضادات الحيوية، بغض النظر عن حجم التفاصيل المتعلقة به، يحتم عليك امتلاك نماذج محاكاة لهذه القائمة تجسد البيانات، حيث باستطاعتك النظر إلى الملايين من السيناريوهات المحتملة، تماما مثل عالم الأرصاد الجوية”.
الانتقال الوحيد للبكتيريا المقاومة بشكل كامل من شخص إلى آخر موجودة فقط داخل حاسوب لي. في الأثناء، لم تسجل بعد أية حالات موثقة في العالم الحقيقي
في دراسة نشرها خلال السنة الماضية، نظر لي في احتمال انتشار بكتيريا “كري” في 28 مستشفى للرعاية الوجيزة فضلا عن 74 دارا للتمريض في مقاطعة أورانج الأمريكية. وضمن النموذج الذي أنشأه، كان كل مرفق افتراضي يتضمن عددا من الأسرة استنادا على عدد الأسرة الفعلي، فضلا عن المعلومات بشأن ارتباط المرافق.
علاوة على ذلك، أظهر النموذج كل مريض على اعتباره وكيلا حاسوبيا، يحمل أو لا يحمل بكتيريا “كري” في أي يوم من الأيام. كما كان هؤلاء الوكلاء يتحركون جميعهم حول النظام البيئي للرعاية الصحية، ويتفاعلون مع الأطباء والممرضين والأسرة والكراسي والأبواب لمئات الملايين من المرات، وكل ذلك في ظل تغيير المعايير قليلا عند كل محاكاة.
نتيجة لذلك، توصل الباحث إلى أنه في غياب التدابير المتزايدة ، من قبيل اختبار المرضى بانتظام على مستوى مقاومة الجائحة، ووضع أي حامل للبكتيريا في الحجر الصحي، قد تكون بكتيريا “كري” مرضا متوطنا، أي يعيش للأبد، في كل مرفق للرعاية الصحية في مقاطعة أورانج، تقريبا، في غضون عقد من الزمن.
عموما، متى ما دخلت بكتيريا “كري” إلى نظام رعاية صحية ما، سيكون من الصعب التخلص منها، “حيث سيكون الأمر شبيها بمحاولة إخراج النمل الأبيض من المنزل”، وفقا لما أفاد به لي. وأضاف الباحث أنه “متى ما أصبحت في الداخل، حيث يكون كل شيء مترابطا، تصبح البكتيريا جزءا مستعصيا من النظام البيئي”. ومن هذا المنطلق، وفي حال امتلك الأطباء والممرضون وسيلة لاكتشاف من المسؤول عن انتقال بكتيريا “كري” في أقرب وقت ممكن، سيكون بإمكانهم آنذاك احتواء التهديد على الأقل، حتى وإن لم يكن بوسعهم فعل الكثير من أجل المريض.
يأمل باحثون على غرار جين باتيل وبروس لي أن يساعد عملهم على الحد من التهديدات الموجودة بالفعل، واكتشاف الجديدة منها عند ظهورها
في الوقت الراهن، تتمثل الأخبار السارة في أن الانتقال الوحيد للبكتيريا المقاومة بشكل كامل من شخص إلى آخر موجودة فقط داخل حاسوب لي. في الأثناء، لم تسجل بعد أية حالات موثقة في العالم الحقيقي، وهو ما تعمل جين باتيل ومراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، على دراسته. مما سينقل الأمور إلى المستوى التالي، وفقا لما أكدته باتيل.
في سبيل مراقبة أفضل لمجرى الأمور، أنفقت الوكالة الأمريكية 14.4 مليون دولار لإنشاء شبكة متكونة من سبعة مختبرات إقليمية مع زيادة القدرة على إجراء الاختبارات الجينية على العينات البكتيرية المأخوذة من المستشفيات. علاوة على ذلك، تقوم هذه المختبرات حاليا بقيادة برنامج من شأنه أن يربط، يوما ما، جميع المستشفيات في الولايات المتحدة مباشرة بنظام المراقبة التابع لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها. ويتمثل الهدف من ذلك في وضع علامة تلقائيا على كل حدث يتعلق بمقاومة خطرة في جميع أنحاء البلاد في وقت أقرب ما يكون منه إلى الفوري.
من جانبها، تركز جين باتيل، فضلا عن بقية العالم، على مراقبة مسار المضادات الحيوية، بيد أن الأمور لا تبشر بخير في هذا الصدد أيضا. ففي الأسبوع الماضي، أصدرت منظمة الصحة العالمية تقريرا أوردت من خلاله تحليلا لكافة العناصر المضادة للبكتيريا التي لا زالت في مرحلة التطوير السريري حاليا. ولم تخل استنتاجات التقرير من القتامة، فنظرا لعدم توفر الأدوية بشكل كافي، يظل الابتكار محدودا. وتجدر الإشارة إلى أن هناك بالفعل قدرا من المقاومة الموجودة مسبقا في مواجهة تقريبا كل واحدة من العلاجات المستقبلية التي يبلغ عددها 51.
في الأثناء، يأمل باحثون على غرار جين باتيل وبروس لي أن يساعد عملهم على الحد من التهديدات الموجودة بالفعل، واكتشاف الجديدة منها عند ظهورها، وكسب بعض الوقت لصالح شركات الأدوية حتى تعمل على تطوير أدوية جديدة. وعلى الرغم من أن عصر المضادات الحيوية قد ولّى، إلا أنه لا يزال هناك الكثير للتباحث حوله فيما يتعلق بالمرحلة الموالية.
المصدر: وايرد