خطوة جديدة يؤكد نظام بشار الأسد عبرها مُضيّه في مخطط الاستيلاء على أملاك معارضيه، إذ تعكف حكومته على إصدار مخطط تنظيمي لكل المناطق المدمَّرة في مدينة دمشق، تحت عنوان “إعادة الإعمار”.
وفي التفاصيل، نقل موقع “أثر برس” الموالي للنظام، عن مصدر من محافظة دمشق، أن البداية ستكون من المناطق الأكثر تضررًا مثل القابون وجوبر، مبيّنًا أن مخططًا تنظيميًّا سيصدر، يتم من خلاله التعاقد مع شركة حكومية متخصصة بالدراسات الهندسية.
وعن الأهالي وعودتهم إلى منازلهم، أكّد المصدر أن النظام سمح فقط للذين يمتلكون رخصًا سكنية نظامية (طابو أخضر) بالعودة، وليست مخالفات مهدمة، وبشرط أن يكون المنزل صالحًا للسكن لا يحتاج إلى إعادة تأهيل كاملة.
ويفصح حديث المصدر عن جانب من مخطط الاستيلاء على الممتلكات بحجّة “المخالفات”، حيث صعّب النظام شروط العودة للأهالي، علمًا أن قلّة من الأهالي تمتلك سندات طابو في المناطق المستهدف بالمخطط.
تدمير يمهّد للاستيلاء
ويقول الصحفي محمد كساح من دمشق، إنه منذ ثمانينيات القرن الماضي توسّع البناء العشوائي في معظم بلدات ومدن الريف الدمشقي، الذي بات وجهة للوافدين من مناطق أخرى، نظرًا إلى رخص أسعار العقارات وتزايد الأهمية الإدارية للمدن الكبرى بريف دمشق.
ويشير في حديثه لـ”نون بوست” إلى مطالب سكان هذه المناطق، بتوسيع المخططات التنظيمية لتشمل العشوائيات، إلا أن النظام لم يحل مشكلة العشوائيات والملكية على الشيوع فيها، مؤكدًا أن “النظام تعمّد تدمير معظم هذه المناطق بشكل جزئي أو شامل، مثل أحياء ومناطق القابون وتشرين ودوما وداريا”.
وينطوي إصدار مخططات تنظيمية لكل المناطق التي تعرضت للدمار خلال الحرب، والحديث عن إعادة إعمارها، على مخاطر كبيرة تهدد ملكيات العشوائيات والأبنية المقامة على الشيوع، خاصة مع عدم سماح النظام بعودة معظم الأهالي إلى هذه المناطق، واشتراطه امتلاك رخص سكنية نظامية للعائدين.
وتعدّ المخططات التنظيمية الجديدة أولى خطوات التطبيق العملي للقانون رقم 10 للعام 2018، القاضي بإحداث منطقة تنظيمية أو أكثر ضمن المخطط العام للوحدات الإدارية، إضافة إلى عشرات القوانين والمراسيم التشريعية التي وضعها النظام السوري في السنوات الفائتة بدعوى التطوير العقاري، والتي تمهّد لبسط سلطة النظام وأمراء الحرب على أملاك المنتفضين في وجهه.
وخلاصة كل ذلك، من وجهة نظر كساح، أن المخطط التنظيمي يستهدف نزع مئات الملكيات وتغيير ديموغرافية المنطقة، من خلال زرع مستوطنات طائفية فيها، كما حدث سابقًا في ثمانينيات القرن الماضي في دُمَّر والمعضمية.
وبهذا المعنى، يحرم المخطط التنظيمي الجديد الأهالي، خاصة المهجّرين منهم، من أملاكهم، خصوصًا أن النظام قد أجرى الكثير من عمليات التجريف في المناطق المدمَّرة، بهدف إزالة المعالم بعد تهجير السكان.
استيلاء غير مشروع
ويمكن اعتبار المخطط التنظيمي في إطار سياسة العقاب الجماعي التي انتهجها النظام السوري ضد سكان المناطق التي ثارت ضدّه، وتؤكد أن مجمل القوانين التي يصدرها النظام بخصوص الملكية إنما الغرض منها مصادرة ممتلكات الأهالي، بعد تهجيرهم من المناطق التي دمّرتها آلة النظام العسكرية، وحرمانهم من العودة إليها، دون اتّباع أية إجراءات قانونية.
ويستغل النظام تهجير الأهالي في هذه المناطق، وكذلك ضياع وثائق الملكية، للاستيلاء على الممتلكات، وهو ما يتعارض مع كل القوانين والأعراف التي تضمن حق الملكية.
وفي هذا الجانب، يجزم عضو “هيئة القانونيين السوريين”، عبد الناصر حوشان، بأن الهدف من المخطط التنظيمي هو الاستيلاء بطرق غير مشروعة على ممتلكات المعارضين، من خلال تحويلها إلى ملكية الدولة الخاصة، ويلفت إلى أن التنظيم العقاري لا يمنح أصحاب العقارات في العشوائيات أي حق بالتعويض أو السكن البديل.
وعن الأرضية القانونية التي استند عليها النظام، يؤكد حوشان لـ”نون بوست” أن النظام يعتمد على القانون رقم 5 لعام 1982 الخاص بالتخطيط العمراني، الذي يمنح “الوحدة الإدارية” تنظيم المخططات التنظيمية للمناطق العقارية التابعة لها، ما يؤدي إلى حرمان مالكي العقارات المرخّصة التي تضررت، حتى لو كان بنسبة بسيطة قابلة للترميم دون الحاجة إلى إزالة البناء أو هدمه، وكذلك حرمان مالكي العقارات من استخدام حقهم بالتسوية على مخالفات البناء التي تنظمها المواد 6 إلى 9 من القانون 40 لعام 2012.
وبالتالي، هو يمنع مالكي العقارات الواقعة ضمن المخطط التنظيمي القديم من التصرف بعقاراتهم الذي كفله لهم المرسوم التشريعي 26 لعام 2013، الخاص بتحديد حالات السماح وعدم السماح بالتصرف لمالكي الأراضي الكائنة ضمن حدود المخطط التنظيمي.
وطبقًا لحوشان، يتطلب ذلك، في مرحلة لاحقة، صدور مرسوم من رئيس النظام بشار الأسد، يقضي باستملاك المنطقة وفق أحكام قانون الاستملاك رقم 20 لعام 1983، لتنفيذ المخطط التنظيمي لهذه المنطقة بما لا يتعارض مع أحكام المادة 15 من الدستور.
هل يمتلك النظام الأموال لإعادة الإعمار؟
لم يذكر موقع “أثر برس” اسم الشركة، مكتفيًا على لسان المصدر بالإشارة إلى أنها “حكومية”، علمًا أن خزينة النظام غير قادرة على تمويل عمليات إعمار كل تلك المناطق المدمَّرة، الأمر الذي يفتح باب التساؤلات واسعًا، عن الجهات التي ستمول المشاريع العمرانية هذه.
وقبل الإجابة عن ذلك، لا بدَّ من وجهة نظر الباحث والخبير الاقتصادي يونس الكريم، الإشارة إلى أن المخطط التنظيمي يأتي خدمةً لإحياء مشروع “دمشق الكبرى”، الهادف إلى تحويل دمشق إلى مركز مالي لغسيل الأموال، وتقديم خدمات مالية للشبكات التي تعمل بطرق غير مشروعة، وحتى يحقق النظام ذلك يجب تطوير البنى التحتية لدمشق.
ويضيف لـ”نون بوست” أن النظام اختار توقيت البدء بالمشروع بالتزامن مع التوجُّه العربي للتطبيع معه، معتقدًا أن “الفترة القادمة ستشهد توافدًا للاستثمارات الخارجية”، وكذلك يحاول الاستفادة من التغيرات التي تسجّلها الاستثمارات في بعض الدول الإقليمية مثل تركيا ومصر، إذ يخطط النظام لجذب استثمارات المقيمين هناك.
وبالعودة إلى سؤال من أين سيأتي النظام بالأموال للإعمار، يردّ الكريم: “يخطط النظام لامتصاص السيولة النقدية في السوق، والإعمار يساعد في ذلك، ويأمل في جذب الأموال من المغتربين واللاجئين”.
والأهم من كل ذلك، هو أن مشاريع الإعمار تساعد على تبييض الأموال التي استطاع أمراء الحرب جمعها خلال العقد الماضي من النهب والتجارة غير المشروعة مثل الكبتاغون، بجانب الأموال من التجار السوريين المقيمين خارج سوريا من الموالين له، وصولًا إلى الأموال التي ستأتي من مستثمرين عرب من الدول المطبّعة مع النظام، وفق الكريم.
وعلاوة على ذلك، قد يستغل النظام الدعم المخصص لـ”التعافي المبكر” لتمويل مشروع إعمار المناطق المدمرة، ويساعده على ذلك أن بعض المنظمات التي تتلقى تمويلًا أمميًّا، وضعت مشاريع تطوير البنى التحتية ضمن عملها في سوريا، بهدف الاستقرار المجتمعي.
في موازاة ذلك، يريد النظام تثبيت رواية “انتهاء الحرب” في سوريا، ويبدو بذلك مضطرًا إلى إزالة مظاهر الدمار والأنقاض التي تنسف روايته، لكن ذلك يتطلب ميزانية ضخمة، الأمر الذي دفعه إلى التحضُّر لإطلاق مشاريع الإعمار على تحمل تكلفة ترحيل الأنقاض.