“قد رسمنا في الجغرافيا كل أعجوبة في موضعها، وكل نهر في موضعه، وكل جبل في مكانه وكل بحر، وما رسمنا في كتابنا إلا ما صح وثبت، لينظر الناس إلى الجغرافيا فيعلموا شرقها وغربها وجنوبها وشمالها”، هذا ما قاله الجغرافي المسلم محمد بن أبي بكر الزهري في كتابه “كتاب الجغرافية”.
لقد صرفت جهود كبيرة من قبل المسلمين في المجال الجغرافي خاصة، والتي جعلت رحلاتهم وكشوفاتهم مصدرًا مهمًا من مصادر المعرفة الجغرافية في الزمن القديم، كما اشتهر على إثرها عدد كبير من الجغرافيين العرب والمسلمين، وما يميز إنتاجاتهم العلمية أن اكتشافاتهم الجغرافية تنوعت وكانت موزعة على أماكن مختلفة من العالم في المناطق العربية وبلاد فارس وبلاد ما وراء النهرين والقوقاز وغيرها.
كما كان لمعظم الرحالة الجغرافيين عدد من الكتابات والمدونات الشخصية التي يسجلون فيها ملاحظاتهم الشخصية ونتاجاتهم الفكرية، كما ضمت مؤلفاتهم الجغرافية مئات الخرائط والأشكال والمصورات الجغرافية، والتي أضافت جهات جديدة على خريطة العالم مما زاد من اتساع العالم وحدوده.
وقد لا يكون العالم الإسلامي المعاصر مشاركًا قويًا في المشاريع العلمية الحديثة في وقتنا الحالي، ولكن لا يمكن الإنكار أن العلوم الحديثة وريثة العصر الذهبي الذي قدم فيه المسلمون مساهمات فكرية وعلمية وتاريخية، والذي امتد عطائهم من القرن الـ8 إلى القرن الـ13.
الجغرافيون المسلمون
كانت الفتوحات الإسلامية السبب الرئيسي لنشاط هذه الرحلات والكشوفات الجغرافية، التي شجعت العلماء الجغرافيين على سلك مسالك لم تكن معروفة من قبل، وفي حال إن كانت مكتشفة مسبقًا فقد كانوا يقدمون وصفًا مفصلًا لهذه الأماكن والطرق المؤدية إليها.
وأوضح الأمثلة على ذلك رحلات الحج التي سلكت طرقًا صحراوية فحُددت منازلها وطرقها ومراكزها ومواردها، وهذا ما سجله ابن جبير خلال رحلته وفقًا لما ذكره كتاب “جهود الجغرافيين المسلمين” للمؤلف عبد العال عبد المنعم الشامي.
تميز ابن حوقل والإدريسي والمقدسي والخوارزمي في رسم الخرائط والأشكال الجغرافية، فكانت خرائطهم أكثر دقة ووضوحًا من الخرائط الأوروبية.
كما يذكر الكتاب أن جهود العلماء الجغرافيين تفاوتت، ودراساتهم اختلفت باختلاف الرحلات والأماكن التي رحلوا إليها، فمثلًا تميز ابن حوقل والإدريسي والمقدسي والخوارزمي في رسم الخرائط والأشكال الجغرافية، فكانت خرائطهم أكثر دقة ووضوحًا من الخرائط الأوروبية.
خرائط الخوارزمي
اعتمد الخوارزمي نهجًا مستقلًا وطريقة خاصة في إنتاجاته الجغرافية، وأهم ما في خرائطه أنها تمثل أقدم ما توصلت إليه الحضارة الإسلامية، وتعتبر خريطة نهر النيل من أكثر الخرائط شهرة وجودة، ويمكن ملاحظة ذلك عبر إضافته إلى الأقاليم الجغرافية المحيطة بالنهر والمنابع المختلفة له وقياس المسافات والأطوال بينها.
الإدريسي: “كبير الجغرافيين”
يعتبر الإدريسي أعظم جغرافي مسلم بسبب براعته في الخرائط ومورثاته المتنوعة والمميزة في هذا المجال، والتي تعتبر أفضل ما توصل إليه المسلمون في رسم الخرائط.
فكان يسجل أدق التفاصيل التي يراها في أثناء زيارته إلى أي بلد، ويكتب عن مداخلها وريفها وبحارها ومجاريها وأنهارها والمسافات والأميال التي تفصل بين كل موقع ومكان، كما قام بعمل كرة أرضية مجسمة وعليها تفاصيل جغرافية وأرضية واضحة ودقيقة.
كان همزة الوصل بين الشرق والغرب والسبب في انتقال هذه العلوم من المسلمين إلى الأوروبيين حتى القرن الـ16.
اشتهر أيضًا الإدريسي بمعرفته الواسعة في علم الخرائط، فكان يصحح أخطاء السابقين ويضيف مواضع كثيرة على خريطة العالم، وكانت تعتبر إنتاجاته الجغرافية أول أطلس متكامل في العالم.
إذ يقول الكاتب الشامي إن خرائط الإدريسي كانت نقطة تحول في علم الخرائط ونوعيتها، وكان همزة الوصل بين الشرق والغرب والسبب في انتقال هذه العلوم من المسلمين إلى الأوروبيين حتى القرن الـ16.
ابن حوقل
من أشهر الرحالة المسلمين الذين برعوا في وصف البلاد شرقًا وغربًا، فلقد نجح في وصف هذه الأماكن من خلال تدوينه لكل ما شاهده أثناء رحلته. اهتم في البحث عن بلاد جديدة والتعرف على عادات هذه البلاد وأحوالها وطبائعها وأقاليمها.
عرف الكثير عن إيران والعراق والهند، ففي ثلاثين عام زار وسافر بلدان عديدة من الشرق إلى الغرب، واشتهر بوصفه الدقيق للبلدان الأوروبية التي سيطر عليها المسلمين آنذاك
بدأ تجواله من العراق إلى شمالي أفريقيا والأندلس وزار نابولي وباليرمو في إيطاليا. عرف الكثير عن إيران والعراق والهند، ففي ثلاثين عام زار وسافر بلدان عديدة من الشرق إلى الغرب، واشتهر بوصفه الدقيق للبلدان الأوروبية التي سيطر عليها المسلمين آنذاك، وسجل معلومات عن حياتهم الاجتماعية ولغاتهم، إذ دون أن عدد اللغات في القوقاز 360 وأن اللغتين الأذرية والفارسية هما لغتا التواصل في تلك البلاد.
كيف زاد الجغرافيون المسلمون من اتساع العالم؟
في القارة الإفريقية، اكتفى الإغريق والرومان بمعرفة المناطق الساحلية الشاملية من هذه القارة، وبعد وصول التجار أو الرحالة المسلمين إليها توغلوا في مراكز القارة ووصلوا إلى زنجبار والموزمبيق وجزائر الكومور ونشروا الإسلام في السودان والسنغال والنيجر.
أما في آسيا فأقصى ما كان يعرفه العالم هي مناطق شرق آسيا، وعند مجيء المسلمين عبروا حدود جبال تيان شاه حتى وصلوا إلى كل مدن وسط آسيا كالبخاري وسمرقند وفرغانة وكاشغر والتي وقعت تحت سيطرتهم لسنوات طويلة، ولم تقف الكشوفات عند هذا الحد، فاكتُشفت بحيرة آرال في شمالي شرق قزوين ونهر أنجارا شرقي سيبيريا.
وفي أوروبا وصل المسلمون إلى الدول الإسكندنافية ووصفوا البحار المحيطة بها، كما فتحوا جزر البحر الأبيض المتوسط وسواحل فرنسا وإيطاليا، فأصبح البحر الأبيض المتوسط عربيًا بعد أن كان رومانيًا، واهتموا في رحلاتهم بمعرفة الكثير من التفاصيل عن كثب سواء في الأجزاء المكتشفة أو المجهولة بعد. لذلك تعتبر النظريات والآراء الجغرافية الحديثة امتدادًا لأفكار العرب والمسلمين الذين يعتبرون الأوائل في هذا المجال لإيجادهم المقومات الأساسية لهذا العلم.