أدانت خبيرات أمميات قوات جيش الاحتلال الإسرائيلي بشأن أعمال عنف تجاه نساء فلسطينيات اُعتقلن في غزة والضفة الغربية، شملت الضرب والإغماء والتعرية والتحرش وحتى الاغتصاب، ما دفعهن إلى المطالبة بتحقيق دولي حيال تلك الانتهاكات.
جرت العادة في الحروب أن تتعرض النساء لانتهاكات جنسية، كجزء من السياسات العسكرية التي تحاول استخدام أجساد النساء للدلالة على الانتصار السياسي أو العسكري ضد الطرف الآخر، أو كأداة للانتقام والترهيب وما يصاحبها من أهداف أخرى تندرج تحت إطار الإذلال وكسر روح المقاومة والصمود والمجابهة.
شواهد تاريخية
لطالما كان الاغتصاب سلاحًا بين يدي الأطراف المتنازعة في الحروب والصراعات العسكرية، بهدف إعلان الانتصار ضد الطرف الآخر، نفسيًّا أولًا، وفي سياقات أخرى بشكل سياسي.
من هذه السياقات، الحرب العالمية الثانية عام 1945، عندما دخل آلاف الجنود السوفيت المدن الألمانية التي اختفى منها الرجال، سواء أكانوا مقتولين أو معتقلين أو حتى مجنّدين هاربين، وبدأوا عمليات اغتصاب جماعية لآلاف النساء الألمانيات.
كذلك بين عامَي 1992 و1995، أي وقت حرب البوسنة والهرسك، حين ااغتصب جنود الصرب والكروات آلاف النساء البوسنيات، وكانت عمليات الاغتصاب تدور يوميًّا في البيوت المقتحَمة، والشوارع المسيطَر عليها، ومعسكرات الاعتقال وغير ذلك.
ليست الحرب فحسب ما تتم فيها أفعال الانتهاكات الجنسية بأشكالها المختلفة، وليست النساء وحدهن، ولو أنهن العنصر الأساسي الذي ينظر ويمارس عليه المعتدي أفعاله أولًا، لكن حتى الرجال في أنظمة الاستبداد يتعرضون للانتهاك الجنسي، حيث توجد حوادث شهيرة لاغتصاب الرجال داخل أقسام الشرطة في مصر أيام نظام المخلوع حسني مبارك، وفي السجون المصرية في عهد السيسي.
كذلك في سوريا، إذ استخدم نظام الأسد الأب والابن شتى أنواع طرق التعذيب، بداية بالتعذيب الانتقامي ونهاية بالتعذيب الإبادي، كما يسمّيه ويعدده الكاتب السوري ياسين الحاج صالح في كتابه “الفظيع وتمثيله”.
إذ كان فعل الانتهاك الجنسي أساسيًّا من بين هذه الطرق، كاغتصاب النساء بشكل يومي في سجون الأسد من قبل عناصر نظامه وشبيحته، كما تعذيب الرجال بطرق تتفنّن في إيلام عضوهم الذكري، سواء بالضرب عليه أو ربطه أو حرقه، ما يتسبّب بشكل مباشر في خصي المعذّب.
هذه الشواهد التاريخية وغيرها لا تختلف عمّا يفعله جيش الاحتلال الإسرائيلي من انتهاكات جنسية في حربه على الشعب الفلسطيني، رجالًا ونساءً، لكنها كذلك، كغيرها ممّا سبق، لها دلالة رمزية ونفسية وسياسية، يعرفها الفاعل تمامًا ويدرسها، بل يهندس ممارساتها، بهدف تحقيق هذا الانتصار وكسر إرادة وإخضاع الطرف الآخر.
الاغتصاب كفعل سياسي وعسكري
هناك عدة أهداف للانتهاكات الجنسية التي تمارَس من طرف ضد آخر، أولها الإخضاع المباشر لهذا الآخر، إذ تهدف الانتهاكات الجنسية إلى كسر الإرادة وإخضاع الطرف الآخر، وزعزعة استقلاليته وكينونته.
إذ هنا الجسد، وخلال عملية الاغتصاب، يستسلم تمامًا، طواعية أو كراهية، لفعل اقتحام جسد آخر داخل جسده، وفيما بعد، ومع استمرار الاستباحة، يفقد المغتصب معنى وجوده، كذاتٍ إنسانية لها الحق في كرامتها وحريتها وجسدها.
وهناك أسباب أخرى تخرج من كينونة الشخص المغتصب إلى الآخر، الآخر المتمثل في الدوائر المحيطة من الأسرة والمجتمع وقيمهم المتعارف عليها، إذ يستخدم المغتصب فعل الانتهاك الجنسي كطريقة لوصم هذه الدوائر الاجتماعية بالعار، وهذا الخزي يستمر في ملاحقة المجتمع لأنه لم يستطع إنقاذ المنتهَك من فعل الانتهاك، كما لم يستطع معاقبة الفاعل على فعله.
ومن هنا ربما يخضع المجتمع بدوره إلى هذا الطرف، على الأقل بشكل نفسي وجماعي، وهذا ما تفعله “إسرائيل” في الوقت الحالي، إذ تمارس من خلال أفعال الاستباحة والتعرية والتحرش والاغتصاب، عملية إخضاع نفسي جماعي للفلسطينيين عامة والغزيين خاصة، حيث تتحول عمليات الاغتصاب الفردية إلى انتهاك جماعي يطال المجتمع بأكمله.
خاصة أن أطراف الصراع، كذلك السلطات المحتلة والمستبدة، تعرف ماهية الرمزية الجنسية لأجساد النساء والرجال، وبالتالي تلعب من خلال ممارساتها على تفعيله بما يفيدها في فعل الانتصار والهيمنة، فتكون سلطة الاحتلال والاستبداد السياسي كذلك سلطة خزي نفسي، تحاول قدر إمكانها بثّه في وجدان طرف الصراع الآخر، للانتصار عليه نفسيًّا وإخضاع إرادته، وتكبيل فعل مقاومته، هذا بجانب الانتصار العسكري والسياسي الذي تحاول تحقيقه.
ضمن شهادات نقلتها قناة “العربي”، لرجال ونساء أُسروا من قبل جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأُفرج عنهم فيما بعد، يقول إبراهيم شاهين إنهم أدخلوا امرأتين على مجموعة من الأسرى الرجال، وكانتا عاريتَين إلا من الملابس الداخلية، وحين بادر بنفسه لإعطاء البنطال الذي يلبسه لإحداهما، عوقب من قوات الاحتلال لـ 3 أيام متواصلة.
فعل الاحتلال القائم على استباحة أجساد النساء أو الرجال، وفي الفضاءات العامة أو العكس، يتضمن فلسفة وصول الخزي إلى كليهما، كما ينشر الاحتلال صورًا عارية لهؤلاء النساء على وسائل التواصل الاجتماعي، ليتحوّل فعل الاستباحة من حالته الفردانية إلى حالة تخصّ المجتمع كله.
هنا الممارسات الإذلالية تتحول، حسب وصف أستاذة التاريخ الألمانية أوتا فريفرت، إلى سياسة تعمل وفقًا لمنهجية مدروسة ومنضبطة، على المستوى النفسي السياسي الجماعي، تحاول هذه المنهجية الوصول إلى هدفها في إخضاع الآخر، وهذا ما تفعله “إسرائيل” مع الغزيين في حربها الحالية.
إذ تجمعهم عرايا في عزّ برد الشتاء، مكبّلي الأيدي والأعين، وتخضعهم لإيماءات جسدية تدل على الخضوع، كالقرفصة وإنزال الرأس إلى أسفل دائمًا، بالإضافة إلى إجبارهم ترديد عبارات تسب حركة حماس، أي تسب المقاومة، كفعل ضمني وواقعي، وتمجّد بجيش الاحتلال، أي طرف النزاع الآخر.
هذا فيما يخص الرجال، أما النساء، كانت التعرية والتحرش والاغتصاب إضافات إلى ممارسات أخرى كالسب والضرب والتكبيل، وكل هذه الممارسات، لا سيما الممارسات التي لها واقع جنسي، ما هي إلا استمرار لمنهجيات الإخضاع عبر التاريخ، والتي تحاول السلطات فرضها على طرف الحرب/ المقاومة الآخر.