عقب إعادة الروس احتلال الشيشان في أوائل الألفية، أبادوا بشكل متعمّد غالبية المؤسسات التراثية والثقافية التي شيّدها الشيشانيون منذ التسعينيات، ولا شكّ أن هذه كانت من أعظم الإهانات التي تعرّضت لها الشيشان.
ولكي يضمن الروس سحق ذاكرة الأجيال الجديدة، وقطع الطريق بين الشبح والجسد المسجّى، احتكروا سردية التاريخ وقدموا رؤية مغايرة للأحداث التي وقعت، وأنشأوا “تراثًا جديدًا مصطنعًا” يعرض الرواية الروسية، مع محو سريع وكامل لكل ذكريات الحربَين المدمّرتَين اللتين خاضتهما ضد الأمة الشيشانية.
تعايش صعب: شيشانيون من دون شيشان
تركز السلطات الروسية على ترسيخ أسطورة “الشيشان جزء لا يتجزأ من روسيا”، مع التأكيد المستمر على عظمة القوة الروسية، فموسكو لا تحاول فقط دمج الشيشانيين داخل الهوية الروسية، إنما تؤكد على ضرورة استخدام العنف في المواجهة والاستمرارية بين الماضي والحاضر، وتظهر هذه السردية واضحةً في كل المؤسسات الثقافية والنصب التذكارية الموجودة في أنحاء الشيشان.
حتى أبسط الأشياء التي غيرها الشيشانيون عقب استقلالهم لتناسب هويتهم وتاريخهم، قام الروس بتغييرها مجددًا، على سبيل المثال اسم العاصمة غروزني، والتي أعاد الشيشانيون تسميتها في التسعينيات إلى دزوكار غالا (Dzhokar-Gala)، قامت موسكو عقب الحرب الثانية باستعادة الاسم الروسي مجددًا، وإعادة كل الأسماء الروسية للشوارع والمدن، وإعادة الأبجدية الروسية للغة الشيشانية، ومحو أية إشارة لذكر الرئيس الشيشاني الأول جوهر دوداييف، وتجاهل أي حقائق تاريخية عاشتها الشيشان في فترة استقلالها.
وبدلًا من الآثار والمتاحف والمؤسسات الشيشانية التي دمّرها الروس متعمدين في الحربَين الأخيرتَين، قاموا ببناء متاحف ومؤسسات ثقافية جديدة، هدفها في المقام الأول التأكيد على استعادة الاحتلال وإضفاء شرعية عليه، وتقديم صورة مفادها أن كل شيء تحت السيطرة المطلقة.
استمر هذا المسلسل من أوائل الألفية حتى الآن، ومؤخرًا تمّت إزالة النصب التذكاري لذكرى التهجير الموجود في غروزني مع شواهد القبور الموجودة حوله، ومنع الناس من إحياء ذكرى التهجير، في غياب تامّ لمنافذ الحزن الجماعي الرسمية.
لكن في المقابل، يتم إحياء الأعياد السوفيتية والروسية، وتفرض أنواعًا معيّنة من الذكريات، فحين قام رمضان قديروف بإلغاء ذكرى يوم التهجير، استبدله بذكرى موت والده، وبالتالي حُرِم الشعب الشيشاني من الاتصال بذاكرته الحقيقية، وعوض عن ذلك انصهر في بوتقة المحتل.
ورغم وجود نصب تذكارية في الشيشان لانتصارات الروس في الحرب العالمية الثانية، إلا أنه ليس لدى الشيشان ذكرى واحدة للحربَين الأخيرتَين أو متحف لذكرى التهجير، فلا يوجد حتى على الأقل نصب تذكاري واحد عن التهجير، رغم أن الشيشانيين تعرضوا لأكبر عمليات التهجير القسري التي نفّذها الروس، وعانوا أقسى الويلات على أيديهم.
وفي الواقع، لا تقوم موسكو بإنشاء تراث وثقافة روسيَّين على الأراضي الشيشانية فحسب، بل تكرّم أيضًا الشيشانيين الذين وقفوا بجانبها من خلال نصب تماثيل ومقابر فخمة ومتاحف لتمجيدهم، وهذا الأمر ما زال مستمرًّا حتى اليوم، لكن من اللافت أنه حتى أبسط الأشياء الرمزية، كأسماء الشوارع الصغيرة، تهتم روسيا بها بشكل كبير.
الشوارع والمدن والمطارات الشيشانية أصبحت تحمل أسماء جديدة، وهناك العديد من الشوارع غُيّرت أسماؤها خصّيصًا كي يتم إعادة تسميتها على اسم الرئيس الروسي بوتين، بجانب إنشاء مجمع المتاحف الجديد، وهذه المتاحف الجديدة تقوم بالأساس على فكرة “الرابطة الوثيقة” بين الروس والشيشانيين، وفي الوقت نفسه تذكير الشعب الشيشاني بالعظمة الروسية.
أحد هذه المتاحف الدرامية الضخمة متحف أحمد قاديروف، المشار إليه رسميًّا باسم “الحاج أحمد”، فبسبب تحالفه مع الروس في الحرب الثانية، تمّ تمجيده بمبالغة ورُوّج له باعتباره البطل الشهيد والأب المؤسّس للشيشان في العصر الحديث، كما تمّ تصوير حياته كلها كخادم مطيع للسيد الروسي، حتى متعلقاته الشخصية الكثيرة التي تمّ عرضها في المتحف، لا يوجد فيها أي شيء عن الحرب أو معاناة شعبه.
وفي إشارة واضحة إلى القوة والهيمنة الروسيتَين، تحيط بحديقة المتحف من الخارج مسلة ذهبية بطول 36 مترًا، للاحتفال بذكرى النصر السوفيتي في الحرب العالمية الثانية، وكأنها رسالة المتحف الرئيسية.
وفي الحقيقة لا تخلو المتاحف والنصب التذكارية في الشيشان من التأكيد على مجد القيادة الروسية، واستعراض أبطالها بشكل لافت، فضلًا عن الملصقات والشعارات والآثار والمناسبات والأعلام الروسية الموجودة في كل مكان، لتذكير الناس بأنهم ينتمون إلى الاتحاد الروسي، وأن هذا أفضل الخيارات لديهم.
لكن مع ذلك تعدّ حالة بوتين-قاديروف الأب نموذجًا استثنائيًّا لتعزيز عبادة ثنائية الشخصية، فهذان العلمان المعقّدان (روسي وشيشاني) حظيا بتمجيد مبالغ فيه، ولا تخلو شوارع الشيشان بالصور والملصقات والتماثيل والتكريم لهما معًا، في كل مبنى حكومي وفي المباني الكبيرة وداخل القاعات، يقف الزعيم المحلي جنبًا إلى جنب مع الرجل الذي شنَّ الحرب الثانية على بلاده، واللافت أنه تمّت إعادة تسمية أكثر من 300 شارع في الشيشان على اسم أحمد قديروف، بجانب قناة تلفزيونية إسلامية سُمّيت أيضًا على اسمه.
وتجدر الإشارة إلى أنه لا يُسمح بأي نقاش حول الحروب الروسية ضد الشيشان، رغم أن جميع العائلات الشيشانية لديها تجارب عن فقد الأهل والأصدقاء، بجانب المعاناة النفسية والجسدية.
وفي أفضل الحالات، يتبنّى الروس خطاب التركيز على الحاضر ونسيان آلام الماضي، لكن هل نسيَ الروس الماضي؟ إن أفعالهم في الحقيقة توضّح أن الماضي لا يموت أبدًا، إذ ما زالت روسيا تعيش مرحلة حنين عارم للماضي السوفيتي، وتحتفل بالانتصارات السوفيتية على الأراضي الشيشانية.
وحتى منافذ التعبير القليلة جدًّا في الشيشان يتم قمعها، وتتدخل وزارة الثقافة الروسية لحظر الأفلام الشيشانية الوثائقية التي تتحدث عن الحرب أو التهجير، وبالفعل منعت العديد من الأفلام بحجّة أنها تحضّ على الكراهية العرقية ولا فائدة من “إثارة الماضي”.
على سبيل المثال، أنتج شيشانيون متخصصون في التاريخ فيلمًا وثائقيًّا اسمه “أمر بالنسيان (Ordered to Forget)”، يتحدث عن فصل صغير مأساوي من قصة تهجير الشعب الشيشاني عام 1944، وتحديدًا قصة إبادة قرية خيباخ الشيشانية.
حظرت وزارة الثقافة الروسية عرض الفيلم، ورفضت منحه ترخيصًا للتوزيع، ووصفته بأنه “تلفيق تاريخي”، كما أنكرت مذابح الإبادة التي ارتكبها الجنود الروس رغم ثبوتها، ورغم أن عشرات الشهود من سكان القرى المجاورة لا يزالون على قيد الحياة.
الإدماج وخيانة الأبطال
من المهم ملاحظة أن النظام الشيشاني الموالي لموسكو أعاد إحياء الخيال الروسي عن العلاقة الوثيقة بين الشيشان والروس على مرّ القرون، كما يحاول إبراز الشيشان كعنصر من مكونات أمة روسية، وليست أمة مستقلة قادرة على تقديم حججها ورؤيتها الخاصة للتاريخ، والتي هي بكل تأكيد مختلفة عن رؤية العدو.
وبينما لا يزال الكثيرون من الشيشانيين يعتبرون يوم 23 فبراير/ شباط يومًا لإحياء الذكرى والتعبئة ضد روسيا، فإن الشيشانيين الموالين لموسكو، والذين يحكمون الآن الجمهورية، يتخذون موقفًا أكثر غموضًا، رغم اعترافهم بالأثر الكبير الذي أحدثه التهجير القسري على الأمة الشيشانية.
فبدلًا من محاولة النظام الشيشاني التغلب على صدمات الحرب، وإبراز تاريخهم الحقيقي حتى لا يكرروا الأخطاء نفس، يتبنّى النظام الحالي الرواية الروسية نفسها تقريبًا، ويميل بعضهم إلى وضع ذكريات التهجير في الخلفية.
من المؤكد أن تفسيرات الشعبَين للصراع ليست واحدة، الذاكرة الشيشانية للحرب والتهجير تتعارض تمامًا مع ذاكرة وتفسيرات الروس، وبالتالي عملية الإدماج وخيانة الأبطال أمر تعوقه الذاكرة التاريخية والعادات والتقاليد، بل حتى الحربَين الأخيرتَين، إذ ما زالت الذاكرة العامة الشيشانية تعاني من القمع.
وفي الواقع، لا تحاول القيادة الروسية حتى إخفاء موقفها الهمجي تجاه الأمة الشيشانية، فمرارًا وتكرارًا قام الروس بتكريم العديد من أفراد جيشهم على أراضي الشيشان، عبر تسمية الشوارع والمدن والمؤسسات الشيشانية بأسمائهم.
أحد أهم المفارقات المحزنة ما حدث في 23 فبراير/ شباط 2008، حيث تمّت إعادة تسمية أحد الشوارع الشيشانية في منطقة ستاروبروميسلوفسكي باسم 84 مظليًّا من بسكوف، تخليدًا لذكرى 84 جنديًّا روسيًّا قُتلوا أثناء الحرب في مضيق أرجون، وهذا الشارع نفسه الذي قام فيه الروس بمذبحة شهيرة بحقّ النساء والرجال المسنين.
لكن ليس هذا فقط ما يلفت الانتباه، الأسوأ أن تاريخ 23 فبراير/ شباط الذي تمّت فيه إعادة تسمية الشارع، هو نفس تاريخ “يوم المدافعين عن الوطن”، أي الذكرى السنوية للتهجير القسري عام 1944، لكن مقابل ذلك نجد أن سكان مدينة سان بطرسبرغ رفضوا مجرد تسمية جسر في مدينتهم على اسم قديروف الأب.
ومن اللافت أيضًا أن الشيشان هي المنطقة الوحيدة في الاتحاد الروسي التي يتم الاحتفال فيها بعيد ميلاد بوتين، الذي احتل اسمه أكبر شوارع العاصمة الرئيسية، وصور وجهه ملصقة على لافتات كبيرة في كل مكان في الشيشان، حتى على مداخل الجامعات والمدارس، وعلى حوائط مكاتب أفراد النظام الشيشاني.
ورغم ادّعاءات الروس بأن الشيشان تمثل رمزًا لانتصار السلام على الحرب، بسبب وجود العديد من ناطحات السحاب والمباني الشاهقة المشيَّدة حديثًا، والعديد من المطاعم والمقاهي العصرية الموجودة في غروزني، إلا أن قلب الشيشان اليوم أصبح فعليًّا يحمل لقب “مدينة المجد العسكري الروسي”.