ارتياح كبير بعد يوم متعب خارج عن المألوف والمعتاد. أعود إلى البيت، أسخن الشاي الأخضر وأتناول بعض قطع من الموز الأخضر المميز، الذي اشتريته مع مراد حينما خرجنا بالقرب من الشاطئ، ما زالت أشعر بمتعة مشاركة الحكايات والتجارب، نحملها ونعبئها ونعتز بها، إلى أن نقابل من نحب فنضع تلك الزكيبة من الحكايات والمواقف، والنكات والضحكات، ولحظات الفرح مع لحظات الوجع، نبث الحياة في كلماتنا؛ لأنها تستمد من تجاربنا نحن لا تجارب الآخرين.
لنبدأ من نهاية اليوم، ولتذهب معي إلى أعلى قمة جبل، وذلك اللون الأخضر الذي بعث طمأنينة محببة في النفس، شعرت بالخوف من تعرج طرقه، ومن الحيوانات التي ظهرت على حافة الطريق. الجمال والأبقار وبعض الخراف التائهة تشبه خراف بني إسرائيل، كأن التاريخ تجمد في لحظة ما في تلك المنطقة المذكورة في التوراة. سرنا إلى أن وصلنا ضريح النبي أيوب، ودخلنا مطعمًا بجانب هذا الضريح، يطل على البلدة بكاملها. صلالة تتلألأ كأنوار صفراء تحتنا، في نهاية الأفق خيط ظلام نعلم أنه البحر، ونطل من الجبل على المدينة بكاملها، وكملوك متوجين، نحتسي الشاي المخلوط بالهيل والزعفران، ونتكلم كأننا أبناء لحظة الكلام الأولى.
ينثر عبد الرحمن حكايته مع العمانيين، يستوقفني حديثه عن كرمهم، وعن أخلاق الضيافة العالية التي استقبلوا بها أهله، وكيف خرجوا سويًّا وقضوا العيد معهم وبين حكايات الثورة في ظفار إلى حال عمان الآن.
وأنثر له عن ذلك الكرم السوداني، وأحكي عن يوم عرفة والعيد الذي قضيته بلون أسمر بالغ العذوبة، وسط تلك اللهجة المحببة إلى نفسي، والتي تتكرر فيها كلمة “يا زول”، تحيات العيد التي تبدأ بالأحضان وتستكمل بالطعام اللذيذ والعصائر المميزة المصنوعة في البيت، فقد استقبلني صديقي السوداني في بيته، وأصر على أن أنضم إليهم في إفطار عرفة في بيتهم، بعد أن خرجت أنا ومراد إلى “عين رزات” و”العيون” حول صلالة، لم تكن “العيون” مبهرة؛ لأننا أتينا في غير الموسم، نجحت في التقاط لقطات للمكان، مع أمل بأن أزوره في موسم الخريف المرة القادمة. عدنا إلى المنزل قبل موعد الإفطار بدقائق وانضممت للشباب، كان البيت بسيطًا، ليس فيه أثر للفخامة، لكن تملأ البيت روح جميلة، فقد تجمع هؤلاء الشباب وكان عددهم يفوق الستة أشخاص في غرفة واحدة، اكتسب البيت جلبة مميزة، وبنت صديقنا صالح “تبيان”، أضافت للمكان الصغير وللغرفة الضيقة جوًّا حميميًّا من الدفء العائلي.
يجتمع الشباب ومعظمهم أعزب، أو عقد وينتظر قدوم زوجته إلى صلالة. ينتظرون “الفيزا”، الكلمة المفتاح للنكات التي يتداولها الشباب، يجلسون في بيت صديقهم يقدم لهم طعام الإفطار السوداني، شربت معهم المشروبات محلية الصنع مثل “شربوت” و”حلو مر”. تأمل جمال اسم العصير حلو مر، إن في اسم العصير كناية عن فلسفة الحياة، التي تتنوع بين الحلو والمر، وبين الرخاء والشدة.
ينتهي اليوم بالسهر مع الشباب على قمة الجبل، وكم كان الأمر مميزًا، حينما وجدت مكانًا لعالم الكتب، فبعد أن تعرفت على الشباب في المقهى، وتشعب بيننا الحديث عدنا للحديث عن الكتب: الطيب صالح والفيتوري وغيرهم من سلالة النور.
نستكمل الإفطار السوداني، وأستعيد وأنا على قمة الجبل الحكاية، وأتخيل نفسي في لحظتين: لحظة الحدث، ولحظة الحكاية. ويمكن إضافة لحظة ثالثة، هي لحظة تحول الحدث إلى ذكرى جميلة ووعيك، أن هذا الحدث سيشكل جزءًا جميلاً من وجدانك، وسيشكل لحظة مفارقة عما عداها.
لحظة اليوم هو الشعور الروحي بالخلطة بين تلك الأرواح البسيطة، كأن حلمي أن تكون في مكان آخر زاد عليه حلم آخر، أن تتجول في لحم ودم بين أسرة وأهل لا تعرف عنهم شيئًا، فيستقبلونك استقبال الضيف العزيز الغائب عنهم ويكرمونك.
أجلس بين الرجال في الإفطار السوداني صباح عيد الأضحى، بعد أن اختار الشباب بيت أحد كبار السودانيين ليفطروا عنده. كان الاستقبال مميزًا، لم أشعر بالرهبة، واندمجت بسهولة، وشعرت بسعادة بالغة. إنني لست محرومًا بأن أقضي صباح العيد بين أهل تعلو بينهم دعوة بأن يحقق الله الأماني.
أكمل الحكي لعبد الرحمن عن رائحة البخور العبق التي تملأ المكان، فتفيض على الذكريات رائحة مميزة، وتتعالى ضحكات الرجال، وتسمع في الخلفية صوت جلسات النساء، صوت جلبة وضرب بالموسيقى، وتتخيل النساء وهم يرقصون، وتشعر أن الرقص قد نقل ذبذبات تلك الحركات الأنثوية بالغة الرهافة، فنقلها في الجو مع رائحة البخور، فشمها الرجال دون وعي منهم، فتكونت ذاكرة مختلطة لا يمكن فصلها، بين الفرح بجمعة الرجال ورائحة البخور والطعام اللذيذ، وأثر النساء على ذبذبات الجو، وأثر أرواح الأطفال على قلوب الرجال.
أستعيد تلك اللحظات، وأندمج معها، وأنا أحكي لصديقي عبد الرحمن، ثم أنتقل به إلى الغروب، نسير في طريق مظلل بالنخيل والمزارع، تشم رائحة نديه. الطريق ضيق، والطريق ينقلك إلى خيال قرية ريفية وسط الصعيد، أو قرية من قرى الدلتا، وتختلط الرائحة بين البحر الهائج ورائحة المزارع. ننتقل وأنا في جوع إلى ذلك الشاطئ، لنكف عن التفكير في الماضي والمستقبل، هذه لحظات عزيزة على الإنسان، أن يتحول بفكره إلى امتصاص جمال اللحظات، ويبتعد عن ذلك القلق المزعج الذي يشل حياته. أكمل عبد الرحمن حكيه اللطيف عن مقاصد الأسفار، ويحكي عن كلامه الثوري وهو طالب لأصدقائه من أبها، وخروجهم من عالم أبها الصغير، إلى عالم الرياض والعاصمة، وما تفتحه تلك السياحات في الأرض من نضج مبكر في الخيارات الحياتية، وتفتح على الثقافات، وما ينتج عن هذا الخروج من تسامح مع المختلف، يتحول الحديث إلى امتداح السفر، والتعرف على الجنسيات والقبائل والشعوب، وكأننا في لحظة نلمس الخريطة ونتجول بين العالم، متلهفين إلى معرفته، وكأننا بعد كل سفر نعود إلى جلودنا، ونتعجب من حياتنا، لأنك لست البشري الوحيد! وفي الوقت الذي تجلس لتقرأ فيه وتعتقد أن القراءة والكتابة من أنبل المهن، يجلس راعٍ على قمة جبل، وعابد في محاربه، وعامل في مصنعه، وسائق في سيارته، ويتحقق معنى “وجعلنا سعيكم شتًّا”، وتشعر بأخوة عجيبة بينك وبين الإنسانية المجهولة، فأنت تراهم بعين الغائب كادحين على أعمالهم مكافحين، وكأنك ترى الدنيا كفاحًا من غير حجاب!
كان هذا الحكي بين أبخرة الشاي، ومنازل صلالة مزدانة باللون الأصفر أسفل منا، وسرت في الجو نسمة هواء باردة لم يدفئها إلا حميمية الحوار، وسعادتي بمقابلة صديقي المقرب في هذه الرحلة.
حديث الصباح والمساء
عنوان رواية نجيب محفوظ يصلح لتلك الجلسات الطويلة من الحكي، إذا لم تخرج من بيتك وتبحث عن أقرب شاطئ من مدينتك، وأقرب منطقة ريفية تتوسطها الأشجار، ولم تبحث عن الهواء العليل، فأنت قعيد، قعيد مهنتك، وأسير تلك الحياة المقيدة، بدد أموالك في حياتك الجوانية، فحياتك البرانية غير مضمونة على الإطلاق.
لا يمكن أن أغفل ذلك الخوف والصراخ، وأنا في السيارة على قمة جبل، أشعر بخوف من هذا الارتفاع المخيف، والتجول فوق سطح البحر. كانت لحظات تسلية لعبد الرحمن ابن أبها الذي تعود الصعود على المرتفعات والسير بالسيارة بثقة شاب، وأنا رجل لا أعرف التفريق بين أنواع السيارات.
يتبع..