كان العالم ينظر إلى إفريقيا بوصفها قارة الفوضى والحروبات والتخلف والفقر، إلا إن هذه النظرة آخذة في التغير بشكل تدريجي لا يخلو من إبهار وإحراج لدول المنطقة وهي ترزح تحت وطأة الأنظمة الديكتاتورية التي ترفض التعايش مع الديمقراطية وسماع الرأي الآخر.
مطلع أغسطس/آب الماضي، شهدت جمهورية إثيوبيا حادثة فريدة من نوعها، إذ أعلنت الحكومة في بيانٍ رسمي رفع الحصانة عن وزير المالية أليمايهو غوجو واعتقاله مع 50 قياديًا في إطار حملة تشنها الدولة على الفساد منذ العام الماضي.
لم يمضِ أقل من شهر على الحادثة الإثيوبية إلا وخرجت جارتها الجنوبية كينيا بما هو أعظم وأشد دلالة على الديمقراطية وسيادة حكم القانون، فقد أعلنت المحكمة العليا في العاصمة نيروبي مطلع سبتمبر/أيلول الحالي عن بطلان فوز الرئيس أوهورو كينياتا في الانتخابات التي أجريت قبل نحو شهر، وعزت المحكمة قرارها بإلغاء النتيجة إلى ما اعتبرتها “تجاوزات ومخالفات” ارتكبتها لجنة الانتخابات الكينية.
لم يحدث من قبل في أي دولة إفريقية أن تلغي جهة قضائية الانتخابات الرئاسية، لذلك حُق لكينيا أن تفتخر بأنها أول بلد إفريقي يبطل فيه القضاء نتيجة الانتخابات بعد إعلانها.
ليس هذا فحسب، بل إن الرئيس الفائز كينياتا تقبَّل الأمر بصدر رحب ولم يقل إنه “مستهدف” أو إن ما حدث “مؤامرة” من أعدائه، فقد دعا أنصاره إلى الهدوء والتحلي بالحكمة، وانتظار ما ستفسر عنه الأمور، أما منافسه الشرس رايلا أودينغا زعيم ائتلاف التحالف الوطني العظيم (ناسا) فقد رحّب بالحكم القضائي ووصفه بالتاريخي، وقال: “إنه يوم تاريخي للشعب الكيني وأيضًا لشعوب القارة الإفريقية”.
انتخابات عام 2007 بالتحديد سيناريو أليم يخشى الكينيون تكراره في جولة الإعادة التي حددتها لجنة الانتخابات بتاريخ 26 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل
إذا أردنا التحدث بشيء من التفصيل عن المرشحَين الأساسيين، فإن الرئيس المنتهية ولايته أوهورو كينياتا ينحدر من أسرةٍ لها تاريخ مشرف في النضال إذ إنه الابن الثالث لجومو كينياتا، الناشط الذي درس في بريطانيا وأصبح أول رئيس للبلاد عام 1964م، وكان الجد شخصية رئيسة في الحملة المناهضة للاستعمار البريطاني، وتمت إدانته بسبب دوره رئيسي في الانتفاضة المسلحة ضد المستعمر البريطاني.
أما منافسه رايلا أودينغا فهو من أسرة لا تقل نضالاً في دعم التحرر وطرد الاستعمار، إذ يكفيه إنه نجل أوجينيجا أودينغا الذي الذي كان عضوًا بارزًا في حركة الاستقلال، وعيّنه جومو كنياتا نائبًا له عقب انتخابات مارس/آذار 2013، لكن سرعان ما اختلف مسار الرجلين، فاتجه جومو كينياتا إلى الغرب، بينما تبنى أودينغا أفكارًا اشتراكية، متجهًا صوب الاتحاد السوفييتي والصين، وأسس حزبًا يساريًا عام 1996، حظره بعد ثلاث سنوات الرئيس جومو كينياتا، ووضع أودينغا في مركز احتجاز حكومي.
عندما نلقي نظرة على تاريخ كينيا في التحول الديمقراطي، نجد أن مسيرتها ابتدأت منذ ربع قرن حيث أجريت أول عملية انتخابات حقيقية عام 1992م فاز بها حزب الاتحاد الوطني الإفريقي الكيني “الحاكم”، ثم توالت بعد ذلك التجارب الانتخابية في البلد المتنوع إثنيًا وجغرافيًا، لكن أشهرها كانت انتخابات 2007 وانتخابات عام 2013، فصاحبت الأولى أعمال عنفٍ أدت إلى مقتل نحو 1500 شخص، فضلاً عن ملايين النازحين والمتأثرين، وانتهت النتيجة في 2007 بفوز الرئيس السابق مواي كيباكي، لكن أودينغا لم يقبل النتائج ووصف العملية الانتخابية بالمزورة، فاستمرت أحداث العنف حوالي شهرين قبل أن يتدخل الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي أنان الذي نجح في إقناع رايلا أودينغا بتولي منصب رئيس الوزراء.
الحكومة المقبلة في كينيا بعد 26 من أكتوبر/تشرين الأول مواجهة بجملة من التحديات أبرزها معالجة التوترات العرقية
ما ذكرناه عن انتخابات عام 2007 بالتحديد سيناريو أليم يخشى الكينيون تكراره في جولة الإعادة التي حددتها لجنة الانتخابات بتاريخ 26 من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، لا سيّما أن الجولة الأولى شهدت أعمال عنف ليست بالسهلة ولا البسيطة وإن احتوتها السلطات في وقت مناسب، يدعم تلك المخاوف الولاءات العرقية والصراع القائم على الإثنيات والقوميات فقد وقعت حكومة نيروبي في فخ إسناد الوظائف الحكومية الكبرى بناءً على الموازنات العرقية وليس على أساس الكفاءة والعدالة والشفافية.
الحكومة المقبلة في كينيا بعد 26 من أكتوبر/تشرين الأول مواجهة بجملة من التحديات أبرزها معالجة التوترات العرقية المشار إليها أعلاه، بالإضافة إلى تعزيز محاربة الفساد والرشاوى، فضلاً عن كيفية توزيع مشروعات التنمية والخدمات بعدالة تامة، ويبقى الملف الأمني في صدارة الهواجس التي تسيطر على المشهد الكيني خصوصًا أن حركة الشباب المجاهدين الصومالية أعلنت الأسبوع الماضي سيطرتها على مدينة حاوو التي تقع على الحدود الكينية الصومالية.
على الرغم من العنف والأحداث المؤسفة التي تصاحب العملية الانتخابية في كينيا في الآونة الأخيرة، فإن تجربتها تظل مشرقة بالنظر والمقارنة مع الديكتاتوريات الإفريقية، فيكفي كينيا أنها البلد الإفريقي الأول الذي يفتخر بأنه ألزم الحكومة بإعادة الانتخابات مرة أخرى، وأن رئيس الجمهورية خضع لحكم القانون ولم يُرجع الأمر إلى مؤامرات واستهداف خارجي.