يواصل الطيران الروسي حرق إدلب وحماة بغارات جوية تجاوزت 600 غارة منذ ثمانية أيام على التوالي، الأمر الذي تسبب بمقتل عشرات المدنيين وسقوط مئات الجرحى ونزوح أعداد كبيرة من المدنيين عن مناطق القصف.
هذا التصعيد الروسي دفع تركيا إلى تحذير روسيا من الاستمرار في استهداف المدنيين، حيث قال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، أول أمس الإثنين: “أسفر قصف روسي في الآونة الأخيرة في إدلب السورية عن مقتل مدنيين ومقاتلي معارضة معتدلين”، معتبرًا أن الأمر انتهاك لاتفاق أستانة.
اتفاق أستانة الموقع بين الضامنين (روسيا وتركيا وإيران) في 15 من الشهر الحاليً، بمناطق خفض التصعيد في سوريا، خرقته روسيا غير آبهة بأحد ولا بالاتفاقات المعلنة، وهو ما أثار تساؤلات عن دور روسيا الجدي في دفع المسار السياسي وإيجاد حل في سوريا، بل ومساعدة النظام في استرجاع المناطق الخارجة عن سيطرته.
انتهاز الفرصة
أوقفت هيئة تحرير الشام المعركة المفاجئة التي أطلقتها يوم الأربعاء 19 من الشهر الحالي في ريف حماة الشمالي بعد أيام من سيطرتها على أربع قرى، إذ انسحبت من تلك القرى، لتبقي الباب مفتوحًا بشأن أسباب هذه المعركة وأهدافها، التي فتحت بابًا لروسيا والنظام للتقدم نحو إدلب وإحراقها.
وكما توقع مراقبون فقد أخذت كل من روسيا وإيران إلى جانب النظام السوري تلك المعركة ذريعة للتقدم إلى مناطق سيطرة المعارضة، وشن حملة عسكرية على ريف حماة وإدلب، وهي ترجمة عملية لتوجهات النظام السوري المبيتة في مسعى واضح للنظام بأنه ينوي إعادة السيطرة على المناطق الخارجة عن سيطرته وتقويض تدخل تركيا في إدلب، حيث سبق قول النظام السوري إنه يرفض أي تدخل عسكري في إدلب جملة وتفصيلاً.
مسعى محادثات أستانة السورية بالنسبة لوفد الفصائل المشاركة في المحادثات كان الحفاظ على حياة الناس في حين أن التصعيد العسكري الحالي لروسيا وللنظام يهدد مسار أستانة وربما ينهيه
لم يختلف تعامل الجيش الروسي في هذه المعركة مع أي معركة أخرى منذ تدخله في سوريا إلى جانب النظام السوري، فالقصف الروسي بالصواريخ الفراغية والعنقودية على إدلب ممنهجًا للغاية، إذ يستهدف المرافق الحيوية للسكان خصوصًا المشافي والمراكز الصحية، ومن بين المشافي والمراكز الصحية التي استهدفتها الطائرات الروسية في محافظة إدلب فدمرت البعض وأخرجت أخرى عن الخدمة، مشفى الرحمة وأورينت والتوليد وتلمنس ومقر منظومة إسعاف في معرزيتا ومشفى منظمة شام في بلدة كفرنبل جنوب مدينة إدلب.
إضافة إلى ما تسبب به القصف من دمار كبير للمنازل والبنية التحتية ومقتل أكثر من 50 مدنيًا وما يزيد على 100 جريح بحسب بيان صادر عن مجلس محافظة حماة الحرة أمس الثلاثاء، واستهداف الطائرات الروسية لبلدة جسر الشغور في إدلب حيث استهدفت سوقًا شعبية مما أدى لمقتل ما لا يقل عن 15 شخصًا.
وقد نفذت قوات الأسد أمس الثلاثاء، مجزرة بحق عشرات المدنيين في ريف حماة في أثناء محاولتهم الوصول إلى مناطق سيطرة المعارضة في الشمال السوري، حيث وصل عدد الضحايا إلى 100 والرقم مرشح للارتفاع نتيجة العدد الكبير من الجرحى.
إلى ذلك نقلت وكالة الإعلام الروسية عن وزارة الدفاع قولها أمس الثلاثاء، إن قاذفات استراتيجية روسية من طراز توبوليف – 95 أطلقت صواريخ موجهة إلى أهداف لتنظيم الدولة الإسلامية في محافظتي دير الزور وإدلب في سوريا، وأضافت الوزارة أن الضربات نفذت على مسافة آمنة من القوات الخاصة الأمريكية وفصيل تدعمه الولايات المتحدة.
بالنسبة للنظام السوري فهو يعتبر أن إيقاف القتال في مناطق خفض التصعيد وقف مؤقت للقتال في مناطق سيطرة المعارضة بحيث يتم قضمها فيما بعد عبر استراتيجيات وتكتيكات عسكرية لاحقة.
إلا أن الدلائل على الأرض تبين غير ذلك، فالأهداف التي تقول عنها روسيا إنها تابعة للدولة الإسلامية والنصرة، كانت أهدافًا مدنية بحتة من مباني ومرافق ومراكز طبية وبنية تحتية، ومعاقل فصائل الجيش الحر، في حين أن أهداف الدولة الإسلامية والنصرة لم تصب بأذى في إدلب وشمال حماة، حيث قتلت الغارات الروسية يوم السبت الماضي أكثر من 40 مقاتلًا من فصيل “فيلق الشام”، وسبقها استهداف لمقرات جيش إدلب الحر وحركة أحرار الشام.
وفي هذا السياق لا يزال الجيش الروسي ينفي أي اتهامات كعادته بشن غارات على مدنيين في محافظة إدلب، حيث قال إيجور كوناشينكوف المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، أمس الثلاثاء: “المقاتلات الروسية والسورية لم تهاجم أي تجمعات سكانية”، وأوضح أن المقاتلات الروسية قصفت، بناء على معلومات استطلاعية، عشرة أهداف لإرهابيين في إدلب.
وبررت الدفاع الروسية قصفها للمنطقة باستهداف مواقع جبهة النصرة في ريفي حماة وإدلب، إلا أن مصادر متطابقة أشارت إلى أن الغارات الجوية لم تستهدف مواقع تحرير الشام وتركزت على مقرات الجيش الحر والمناطق الحيوية.
دلالات الحملة الروسية على إدلب
بحسب مصادر موالية للنظام السوري فمن المتوقع أن قوات النظام ستتحرك نحو إدلب، وتحدثت تلك المصادر عن إيكال مهمة جديدة للعميد سهيل الحسن الملقب بـ”النمر” للتوجه إلى ريفي حماة وإدلب بعد القضاء على “داعش” في دير الزور.
تتزامن هذه التلميحات مع حديث عن بدء عملية عسكرية تركية – روسية، ضد تحرير الشام في إدلب، بعد تفويض البرلمان التركي تحرك الجيش خارج حدود البلاد، بدءًا من أكتوبر/تشرين الأول المقبل، إضافة إلى تعزيز قواته قرب معبر باب الهوى على تخوم إدلب، كما أكد الرئيس التركي أردوغان، في أكثر من مناسبة، أن تركيا ستنشر قوات في منطقة إدلب في إطار تخفيف التوتر.
لا يُعتقد أن تركيا سعيدة من التصرفات الروسية في إدلب، ولكنها مكبلة غير قادرة على التحرك بمفردها فهي لا تمتلك قرارًا سياديًا في سوريا كما تمتلكه كل من روسيا وإيران، وتحتاج أنقرة للتنسيق مع الروس والإيرانيين في أي حركة في الشمال السوري، وهو ما تستغله روسيا في الموقف التركي الضعيف في سوريا، إضافة أن هناك توافق روسي أمريكي على عدم إطلاق يد تركيا في الشمال السوري.
بررت الدفاع الروسية قصفها للمنطقة باستهداف مواقع جبهة النصرة في ريفي حماة وإدلب، إلا أن مصادر متطابقة أشارت إلى أن الغارات الجوية لم تستهدف مواقع تحرير الشام وتركزت على مقرات الجيش الحر والمناطق الحيوية.
ومع كل الاتفاقات التي أبداها الطرف التركي مع روسيا في سوريا من ضمان لوقف إطلاق النار، وشراء منظومة إس 400 والتفاهمات العدة التي يبديها كلا الطرفين في قضايا المنطقة، إلا أن التحالف الروسي مع النظام السوري راسخ بشكل كبير يتجاوز التفاهم مع تركيا والمصالح معها، في حين اكتفت تركيا بالتصريح عبر خارجيتها أن استمرار القصف على إدلب بمثابة خرق معلن لاتفاق خفض التصعيد، وحذّرت من انهيار الاتفاق في حال واصلت روسيا استهداف المدنيين في إدلب، وأشار البعض إلى أن روسيا استغلت انشغال تركيا بقضية مهمة وهي انفصال كردستان العراق لتنفيذ مآربها في الشمال السوري.
وأشار محللون في الشأن السوري أن الروس والإيرانيين والنظام السوري بالمحصلة كانوا يبحثون عن ذريعة للدخول إلى ريفي حماة وإدلب والتنصل من تعهدات أستانة، وقد أعطت معركة تحرير الشام على ريف حماة الشمالي تلك الذريعة لتوسيع نفوذهم إلى إدلب، على الرغم من أن البعض يعتقد أن التصعيد العسكري الروسي قد يؤدي إلى انهيار المفاوضات، فالروس والإيرانيين لا يأخذون هذا بكثير من الاهتمام، والإيرانيون غير راضين عن مخرجات أستانة لأنهم يعلمون أن أي تهدئة سيتبعها حل سياسي لن يكون على مزاجهم ولا يخدم كامل مصالحهم في سوريا.
أما بالنسبة للنظام السوري فيعتبر إيقاف القتال في مناطق خفض التصعيد وقف مؤقت للقتال في أماكن سيطرة المعارضة، بحيث يتم قضمها فيما بعد عبر استراتيجيات وتكتيكات عسكرية لاحقة.
وقد أثارت الحملة الروسية على إدلب موجة سخط عارمة من قبل الناشطين السوريين والثائرين على وفد أستانة المعارض، الذي وقع على منطقة خفض التصعيد في المنطقة الرابعة، فما هي إلا أيام قليلة على توقيع ضم إدلب وشمال حماة لمناطق خفض التصعيد حتى بدأت الحملة الروسية على المدنيين، التي وصفها البعض بأنها من أكثر الحملات همجية وعنفًا.
الروس والإيرانيون والنظام السوري بالمحصلة كانوا يبحثون عن ذريعة للدخول إلى ريفي حماة وإدلب والتنصل من تعهدات أستانة
بحسب تصريحات ليحيى العريضي المستشار الإعلامي لوفد الفصائل العسكرية في أستانة، أشار فيها أن مسعى محادثات أستانة بالنسبة للوفد كان الحفاظ على حياة الناس في حين أن التصعيد العسكري الحالي لروسيا وللنظام يهدد مسار أستانة وربما ينهيه، وقد أصدر بيانًا عن وفد الفصائل العسكرية الذي شارك في اجتماعات أستانة 6 أول أمس الإثنين اعتبر فيه روسيا، دولة محتلة لسوريا ومنحازة لنظام الإجرام فاقد الشرعية بحسب ما جاء في البيان، كما حمّلت الفصائل، موسكو، مسؤولية قتل المدنيين السوريين في إدلب وحماة وحمص.
عمومًا، لا يزال مصير إدلب التي تحتضن نحو مليوني شخص من المحافظات السورية كافة، مظلمًا فيما إذا كانت تركيا وفصائل المعارضة قادرة بالفعل على تجنيب إدلب أي مصير قاس.
بالنسبة لروسيا وإيران حليفا النظام السوري الضامنين في اتفاق محادثات أستانة السورية إلى جانب تركيا، لم يغيرا من سياساتيهما على الأرض على الرغم من تشكيل مناطق خفض التصعيد الأربعة، التي اعتبرتها مناطق مؤقتة يتم عبرها تجميد قدرة المعارضة على القتال، والتوسع في الوقت الذي تنشغل في استعادة مناطق أخرى، أما تركيا فقد حددت ماهية تدخلها في سوريا عبر حماية أمنها القومي من خلال حماية حدودها من أي تنظيمات إرهابية وعدم تشكل أي كيان كردي في الشمال السوري.