بعد نحو ستة أشهر من نهايته، بدأت أعمال الدورة الأخيرة من مهرجان برلين تصل إلى دور العرض في أوروبا وباقي العالم، وجاءنا البرليناله Berlinale هذه المرة بمفاجأة رائعة ـ بمعنيَيْها المتناقضين ـ من بلجيكا، تحت مسمى غريب وثري، فاز فيلم “إينسريايتد” InSyriated للمخرج البلجيكي فيليب فان لييوف Philippe Van Leeuw بجائزة الجمهور لمسابقة البانوراما، بعد أن شحن قاعة العرض بالكثير من الإثارة والأسى والغضب والتوتر وربما الشعور بالذنب أيضًا.
لو أن لي ترجمة عنوان الفيلم، فالأدنى إلى ذهني عبارة “مسوريون”، إذ تُحيل إلى تلك المعاني المتراكمة المولدة لـInsyriated، وهي لفظة لا تلخص أحداث الفيلم فحسب، وإنما أيضًا فكرة لييوف الأساسية، المسوريون هم المدنيون السوريون الذين وجدوا أنفسهم مسورين بجدران ديارهم، ومحاصرين داخل بلد خربته الحرب وجعلت من العيش فيه مخاطرة لا يعرفها نزلاء السجون.
“المسوريون” ليس فيلمًا عن الحرب، وإنما فيلم عن فن الاختباء من الحرب، وهول تحملها، فيلم عن المسنين والنساء والأطفال وأولئك الذين لا يملكون أن يدرأوا الخطر عن أنفسهم.
المسوريون هو يومٌ من أيام عائلة “أم يزن” المحاصرة في شقة دمشقية في مبنى يبدو أنه قد خلا ـ أو أُخلي ـ من السكان، لا شيء هنا استثنائي لأن الاستثناء قد أصبح سمة المكان، تحاول أم يزن حمل أفراد عائلتها على ممارسة الحياة بشكل طبيعي رغم خلو الطقوس اليومية من كل ما هو طبيعي، لكن لا أحد يمكن أن يتجاهل حضور الحرب، لا الجد قادر أن يستسيغ صوت الآذان الممزوج بصفير الصواريخ البعيدة، ولا الخادمة البوذية دلهاني قادرة على التحمس لجلب الماء كل صباح من خارج الشقة، ولا البنتان يارا وعلياء قادرتان على تحمل رائحة الحمام مع شح المياه، ولا كريم صديق يارا قادر أن يعود إلى منزله أو يعلم عائلته بمكانه، ولا حليمة وزوجها سمير الجاران اللاجئان بعد أن دُكت شقتهما، بقادريْن أن يضمنا كل احتياجات طفلهما الرضيع. في ظروف كهذه، يذكرهم فعل الحياة نفسه أن البقاء ليس حقًا مكتسبًا وإنما صراع مستمر طيلة النهار، ويذكرهم دوي الرصاص المرعب أنهم لا يملكون في هذا الصراع أي دور فعلي، عدا ربما دور الضحية.
ما كان مشهد الذروة لينجح لولا الأداء المتميز للممثلة اللبنانية ديامان بو عبود، تقول ديامان إن تجربتها القاسية مع الحرب الأهلية اللبنانية كانت عاملاً مساعدًا لتقمص دور حليمة
لا شيء هنا استثنائي، ولكن إلى حين، ذلك أن لعبة الاحتمالات في الحرب ترتبك وتلفظ كل قواعدها الرياضية، الموتُ حدثٌ استثنائي والحياةُ كذلك، هل كانت ضربة القناص صائبة أم خائبة؟ لا أحد يعرف، حتى دلهاني التي رأت الحادثة من شرفة الشقة لا تستطيع أن تجزم، تجبرها أم يزن أن تغلق فمها، ولا تبوح بالأمر لأحد، فقد كان عليها أن تواجه لعبة احتمالات مخيفة أخرى: رجال أمن الدولة الذين كانوا أمام الباب يحاولون إقناعها بالدخول ثلاثة، فأين اختفى ثالث الباقيين؟ الاحتمال المخيف هنا ليس أن يدخل من إحدى الشرفات التي لا يمكن غلقها، وإنما ماذا يمكن أن يفعل إن دخل؟ تضم حليمة الجارة الشابة الجميلة ابنها إليها في خوف، بينما يردد الأطفال أغنيةً لفيروز تعيد إلى القلوب طمأنينة هشة.
وسط احتمالات الموت المتعددة، تصبح الحياة أيضًا أكثر حدةً وإصرارًا على التجلي، ليس غياب الماء مبررًا كافيًا عند أم يزن لتعم القذارة أو يفقد بيتها الدمشقي هيبته، تتحرك في كل اتجاه لتلبي الرغبات وتقمع التجاوزات. ربما تطمع أيضًا في أن يعمل التلفاز أو الإنترنت، وأن تتصل أخيرًا بزوجها الغائب، وربما تذكر أنه من غير اللائق أن يظل كريم في البيت مع ابنتها، لكن كريم لا يحفل كثيرًا بما يليق وما لايليق، لقد وجد في وسط حفلة الموت سببًا للحياة، وموعدًا ليتجاوز طفولته ويثور جسدُه بنوازع الفتوة والشباب، ألذلك ارتبكت عواطفه تجاه حليمة؟ لعله رأى فيها ما يراه المشاهد: امرأة جميلة مذعورة خائفة على طفلها، حافلة بشتى فنون الخصوبة والحياة، كذلك أيضًا تراها الحرب وزبانيتها، لذلك كانت أشد قسوة معها، وبدا أن مشهد الفيلم الرئيسي ـ إذ كان متعلقًا بها ـ قد حطم ما بقي من أعصاب المتفرجين.
لا أستطيع أن أفصل عناصر المشهد، فلا أريد حرق أحداث الفيلم، ولكنه كان ذروة الاختناق المتسرب للنفوس منذ بداية القصة، ولا شك عندي أن إينسريايتد لا يُنصح به لذوي رهاب الأماكن المغلقة، فالبيت وإن وسع حياوات اللاجئين به على اختلافها، كان أصغر من أحلامهم البسيطة، تشعر بذلك كلما اشرأب أحدهم بعنقه إلى الشرفة، وكلما تناهت إلى المسامع أصوات من اقتحموا الطابق العلوي، وكلما علا دوي القنابل وأرغم العائلة على الاختباء في المطبخ.
عبرت حليمة في مشهد سابق عن إعجابها بقوة أم يزن، وأجابتها ربة البيت أنهن جميعًا قويات، لكن لا هي ولا المشاهد أخذا الأمر بجدية متفرسة
وما كان مشهد الذروة لينجح لولا الأداء المتميز للممثلة اللبنانية ديامان بو عبود، تقول ديامان إن تجربتها القاسية مع الحرب الأهلية اللبنانية كانت عاملاً مساعدا لتقمص دور حليمة، وهو قول لامستُ وجاهته وأنا أسترجع بعض نصوص “كوابيس بيروت” التي خطتها غادة السمان حين كانت محاصرة في منزلها أيام الحرب، فقد كانت الصورة نفسها تقريبًا. التميز في أداء ديامان، لا يعود إلى الشخصية المعقدة، وإنما إلى الموقف المعقد، وبين أن تمارس حقها في الذعر والإذعان لذلة الضحية، وأن تتجاوز شخصها وتخلق إرادة الحياة اللازمة لإنقاذ طفلها، كانت ردة فعلها المعقلنة أكثر رعبًا من الفعل الأصلي نفسه، لم تكن “حليمة” هي الداهية، وإنما كانت إرادةُ الأمومة كذلك، ولقد تمادت ديامان في التعبير عن تنصلها من قوتها حتى بعد المشهد، حين بدت مصدومة مما قدرت على فعله.
عبرت حليمة في مشهد سابق عن إعجابها بقوة أم يزن، وأجابتها ربةُ البيت أنهن جميعا قويات، لكن لا هي ولا المشاهد أخذا الأمر بجدية متفرسة، فإرادة الحياة تتجلى حين يكون الموت أقرب من حبل الوريد، ويبدو أن أم يزن قد خبرت ذلك من قبل أن يبدأ الفيلم سرديته، لكننا لا نعرف. نكتفي برائحة التجارب المطلة من عينيها الصارمتين، ولا شك أن ملامح الفنانة الفلسطينية هيام عباس الحادة والقوية قد ساعدتها على أداء دور أم يزن، ولا شك أن لهجتها الفلسطينية قد خففت من تماهيها مع الشخصية، والحقيقة أن غياب اللهجة الشامية عن الفيلم كان مؤثرًا بعض الشيء على واقعيته، ولكن لنقل إن إيجاد ممثلين سوريين لفيلم بلجيكي عن الحرب ليس مهمة بسيطة هذه الأيام، ثم إن الخيار نفسه يبث قراءات جديدة لا بأس بها، وكما أحالت ديامان على الحرب الأهلية في لبنان، تحيل هيام عباس أيضًا إلى المأساة الفلسطينية، ذلك أن العرب جميعهم جناة في هذا الحصار ومجني عليهم.
إنسيريايتد فيلم أعاد للألم حقه وللغضب حقه وربما للدموع حقها، في انتظار أن يتخلص السينمائيون العرب من اصطفافاتهم الإديولوجية
لقد كان من المدهش أن يصف لييوف بيسر ودقة حياة المدنيين السوريين اليومية، دون أن يدخل في أي سجال سياسي، فالحرب نفسها لم تكن هدفه، وهو لا يبحث أن يجادل فيها ولا أن يدين وجودها أصلاً بقدر ما كان يريد أن يعرض علينا بعضًا من تبعاتها، على أنه رغم ذلك لا يلتزم بالحياد، ولا يغفل إلى الإشارة إلى بعض أدوات الموت المحيطة، وهي أدوات لا تسر مناصري النظام: القناص، أمن الدولة، إلخ، كما أن العائلة ليست بمعزل عن بعض حركات المقاومة السرية.
وفي الوقت الذي ألم المخرج بمختلف تعقيدات الموقف الذي تعيشه العائلة، بدا وكأنه متساهل كثيرًا مع ثغرات السيناريو، وهي ثغرات يحتاج المرء إلى أن يتخلص من ثقل المشاهد وسطوتها النفسية حتى يشعر بوجودها، فعملية الاقتحام مثلاً كانت سهلة جدًا، وتحطم كل إيهام بالحذر عشناه مع الشخصيات، كما كانت عملية انتشال ضحية القناص سخيفة جدًا ومستفزة، ولم يكن هناك أي تفسير لامتناع القناص عن اصطياد المنقذين. أما أم يزن، فرغم كل ما أوحت به من صرامة، لم تكن قادرة على السيطرة على الأبناء، فتجلى ذلك في خروج يارا المستهتر دون أن تبدي احتجاجًا أو قلقًا.
“إنسيريايتد” فيلم أعاد للألم حقه وللغضب حقه وربما للدموع حقها، في انتظار أن يتخلص السينمائيون العرب من اصطفافاتهم الأديولوجية، ويروا الإنسان السوري أولاً، مثلما فعل فيليب فان لييوف.