صادقت الحكومة الصومالية بشكل رسمي على اتفاقية التعاون الدفاعي والاقتصادي مع تركيا، الأربعاء 21 فبراير/شباط 2024، والتي كان قد تم توقيعها خلال زيارة وزير الدفاع الصومالي عبد القادر محمد نور إلى أنقرة في الثامن من الشهر الحاليّ، في خطوة من شأنها تعميق العلاقات بين البلدين التي تربطهما الكثير من المصالح المشتركة.
واعتبر وزير الإعلام الصومالي، داود أويس جامع، الاتفاقية، خطوة تاريخية مهمة جدًا، لتعزيز جهود حكومة بلاده لحماية سيادتها لعشر سنوات قادمة، واصفًا تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) بالحليف الوثيق للصومال.
وتأتي الخطوة توثيقًا للعلاقات المتنامية بين أنقرة ومقديشيو، وهي العلاقات التي توطدت بشكل ملحوظ منذ زيارة رئيس الوزراء التركي – آنذاك – رجب طيب أردوغان إلى الصومال عام 2011، والتي ألقت بظلالها على عودة البلد الإفريقي لتوازنه الاقتصادي والسياسي بعد زلزال الجفاف الذي ضربها وتسبب في مغادرة البعثات الدبلوماسية والاستثمارات الأجنبية من البلاد.
وعلى مدار عقدين كاملين تحاول السياسة التركية تعزيز حضورها في القارة السمراء من خلال إستراتيجية التوسع الدبلوماسي والاقتصادي، وهي الإستراتيجية التي ترتكز على ثنائية الشراكة والاحترام المتبادل، ثم تنويع المصالح والمكاسب المشتركة بما يعمق العلاقات بين أنقرة وبلدان القارة خاصة منطقة القرن الإفريقي الإستراتيجية.
لا تستهدف أي طرف ثالث
الاتفاقية لاقت تأييدًا كبيرًا لدى البرلمان الصومالي، فحصلت على صوت 213 عضوًا في مجلس الشعب (الغرفة الثانية التي صادقت على الاتفاقية)، بينما رفض 3 أعضاء فقط من أصل 331 عضوًا يشكلون غرفتي البرلمان الفيدرالي حسبما قال رئيس البرلمان الشيخ آدم مدوبي.
وردًا على ما أثير بشأن استهداف تركيا والصومال بهذا الاتفاق إثيوبيا التي توترت العلاقات بينها وبين مقديشيو على خلفية مذكرة التفاهم التي أبرمتها مع أرض الصومال في الأول من يناير/كانون الأول الماضي، والتي تنص على استئجار إثيوبيا ساحل أرض الصومال الممتد على 20 كيلومترًا على خليج عدن لمدة 50 عامًا، قال الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود: “الاتفاقية لا تستهدف أي طرف ثالث”.
وأضاف خلال مؤتمر صحفي عقده في القصر الرئاسي بالعاصمة مقديشيو أن الاتفاقية “تهدف إلى بناء البحرية الصومالية واستغلال الموارد الطبيعية في المياه الصومالية وحمايتها من النشاطات غير القانونية من القراصنة وتهريب المخدرات والأسلحة والإرهاب”، لافتًا إلى أنه من المقرر أن يترتب عليها برتوكولات واتفاقيات لتطبيقها وتمتد لعشر سنوات.
وعن استهداف أنقرة تحديدًا لإبرام مثل هذا الاتفاق اللوجستي والموسع، أشار الرئيس الصومالي إلى أن تركيا هي “الدولة الوحيدة التي أبدت استعدادها لمساعدة الصومال في حماية مياهه الإقليمية واستغلال موارده وإعادة تأهيل البحرية الصومالية”، مشيدًا بالعلاقات القوية التي تجمع البلدين.
من جانبه أكد رئيس الحكومة الصومالية، حمزة عبدي بري، في كلمة له أمام الوزراء، أن الاتفاقية “تنهي مخاوف الصومال من الإرهاب، والقراصنة، وإلقاء النفايات في المياه الصومالية ومنع التهديدات والانتهاكات الخارجية في السواحل الصومالية”، مثمنًا العلاقات بين البلدين، واصفًا تركيا بأنها “صديق عزيز وموثوق” حسبما نقلت وكالة “الأناضول”.
وعلى الجانب التركي فإن إبرام مثل هذا الاتفاق ليس من شأنه أن يستهدف أديس أبابا أو أن يعكر صفو العلاقات بين البلدين والتي شهدت تناميًا كبيرًا خلال العامين الماضيين، وتبادلًا واضحًا للزيارات، كان آخرها زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لأنقرة في أغسطس/آب 2021 بمناسبة مرور 125 عامًا على تطبيع العلاقات بينهما، حيث وقع البلدان 4 اتفاقيات للتعاون المائي والعسكري.
وكانت أنقرة أحد أبرز الداعمين لإثيوبيا في مواجهة حركة التمرد التي قادتها جبهة التيغراي، قبل عامين، حيث زودتها بالأسلحة المتطورة التي عززت القدرات العسكرية للجيش الإثيوبي وساعدته في حسم هذا الحراك، على رأسها طائرات دون طيار (البيرقدار)، هذا بخلاف الدعم الاقتصادي، إذ تستحوذ إثيوبيا وحدها على نصف الاستثمارات التركية في قارة إفريقيا.
ومن ثم سيكون على أنقرة تبني سياسة أكثر اتزانًا وتوازنًا للحفاظ على علاقاتها الجيدة مع الجارين الخصمين: إثيوبيا والصومال، وقد يكون ذلك هو التحدي الأبرز أمام الدبلوماسية التركية مع دخول الاتفاق المبرم حيز التنفيذ.
ما يمكن أن يترتب على هذا الاتفاق
يحقق البلدان بهذا الاتفاق وفق صيغته المنشورة عدة أهداف:
أولًا: الأهداف العسكرية.. من المتوقع أن يسفر الاتفاق عن توسيع التعاون العسكري بين البلدين، فالصومال واحد من أبرز وأهم شركاء أنقرة العسكريين في القارة الإفريقية، إذ يتضمن الاتفاق التعاون في مكافحة الإرهاب وتدريب الجيش الصومالي ودعمه بالقوة، بما يؤهله لحماية حدوده والدفاع عن سيادته، وهي الأزمة التي عانت منها مقديشيو لسنوات وأدت إلى جرأة أرض الصومال عليها وتشكيلها تهديدًا لها بين الحين والآخر.
ثانيًا: الأهداف اللوجستية.. الموقع الحيوي الذي يتمتع به الصومال على القرن الإفريقي والبحر الأحمر وتمدده إلى المحيط الهندي وخليج عدن وتحكمه في مدخل مضيق باب المندب الذي يمر من خلاله جزء كبيرة من التجارة الدولية لا سيما النفط والغاز، يعزز من أهميته الإستراتيجية لتركيا الباحثة عن تعزيز نفوذها في تلك المنطقة الحيوية من العالم.
وعليه حين يجتمع الموقع اللوجستي للصومال مع الإمكانيات التركية المتنوعة، فإن آفاق التعاون بين البلدين قد تذهب نحو مستويات أخرى من التقدم، وتوظيف تلك الثنائية الفريدة في تعزيز قدرة الدولتين اقتصاديًا وسياسيًا وعسكريًا، بما يعزز مصالحهما ويزيد من منسوب المكاسب المشتركة المتوقع تحقيقها.
ثالثًا: الأهداف الاقتصادية.. يتمتع الصومال بقدرات اقتصادية هائلة، فبجانب أنه سوق كبير من الممكن أن يستوعب المنتجات التركية، فإنه كذلك موطنًا للثروات النفطية والتعدينية المتنوعة، وكانت أنقرة قد وقعت معه في 2020 اتفاقية للتنقيب عن الغاز والبترول في المياه الصومالية، في ظل ما تحتاجه تركيا لسد الفجوة التي لديها في موارد الطاقة.
وتمهد تلك الاتفاقية نحو تعميق التعاون الاقتصادي بين البلدين، والذي شهد طفرة كبيرة خلال السنوات العشرة الأخيرة، حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بينهما من 100 مليون دولار حتى عام 2071 إلى أكثر من 300 مليون دولار عام 2023، وسط توقعات بزيادة الاستثمارات التركية في السوق الصومالي، خاصة في مجالي الطاقة والزراعة.
ومن ثم فإن الاتفاق المبرم سيكون خطوة مهمة في تعزيز تركيا كلاعب محوري وفعّال في منطقة القرن الإفريقي، ويقطع شوطًا كبيرًا في مسار سياسة “الحزام الآمن” التي كشف عنها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منتصف 2023 وتتضمن مد النفوذ التركي إلى كل المناطق والأقاليم الحيوية التي تحيط بها، وهو ما يفسر التغير الواضح في السياسة الخارجية التركية خلال الأشهر الأخيرة.
العلاقات التركية الصومالية.. تاريخ من التعاون
مرت العلاقات التركية الصومالية بالعديد من المحطات المحورية التي شكلت في النهاية علاقة راسخة ذات مواصفات استثنائية بين الدولتين.
– تعود العلاقات إلى القرن الثالث عشر الميلادي حيث التعاون التجاري والعسكري بين العثمانيين وإمبراطورية “أجوران” الصومالية (من القرن 13 إلى أواخر القرن 17)، ثم تطورت مع بدايات القرن السادس عشر حين استعمر الأوروبيون سواحل القرن الإفريقي، فكان العثمانيون من أكثر الداعمين لحركات وثورات التحرر الصومالية للتخلص من الاستعمار الغربي لبلادهم.
– في عام 1979 تنامت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بصورة كبيرة، ففتحت كل دولة سفارة لها في الدولة الأخرى، واستمرت تلك العلاقات حتى أوائل عشرينيات القرن الماضي حين اندلعت الحرب الأهلية في الصومال، ما اضطر الكثير من دول العالم إلى غلق سفاراتها في مقديشيو.
– مع وصول حزب العدالة والتنمية التركي للسلطة عام 1998 دخلت العلاقات التركية الصومالية منعطفًا جديدًا من التناغم والتنسيق والتعاون المشترك، لا سيما بعد إعلان الحزب الانفتاح على القارة السمراء من خلال “خطة إفريقيا” عام 2005.
– يعد عام 2011 نقطة مفصلية في تاريخ العلاقات بين البلدين، وذلك حين زار أردوغان الصومال الذي كان يعاني من الموت جراء المجاعة والفقر الغذائي الذي حل به نتيجة الجفاف الذي ضربه ودمر كل الأراضي الزراعية.
– وفي يونيو/حزيران 2016 افتتح الرئيسان التركي أردوغان والصومالي حسن شيخ أكبر سفارة تركية في العالم، وهي الخطوة التي ثمنها الرئيس الصومالي وعلق عليه حينها بأن أبواب بلاده “مفتوحة أمام تركيا”، مضيفًا في تصريحات له أن الدعم التركي لبلاده يلمس قلب وعقل كل الشعب الصومالي.
كانت المساعدات الإنسانية بوابة تركيا الأوسع لتعزيز شعبيتها في الصومال، إذ تحتل المركز الثالث بين الدول المانحة للصومال فقدمت له قرابة 400 مليون دولار بين عامي 2011 – 2016 ، هذا بخلاف 38 مليون دولار قدمها مكتب الهلال الأحمر التركي في الصومال عام 2017 للحد من المجاعة التي ضربت البلاد، فيما قدرت المشاريع التي نفذتها الوكالة التركية للتعاون والتنسيق “تيكا” في الصومال ما بين 2011 و 2018 نحو 500 مليون دولار تقريبًا.
وعلى المستوى الاقتصادي كان التعاون المبني على أساس الشراكة كلمة السر في تعزيز التعاون بين البلدين، حيث وقعا عام 2016 اتفاقيات تجارية واقتصادية شملت قطاعات عدة بكلفة قدرها 100 مليون دولار، كما سددت تركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 ديون الصومال المتأخرة لصندوق النقد الدولي والمقدرة 2.4 مليون دولار لتخفض أعباء الديون المفروضة على الصومال من 5.2 مليارات إلى 3.7 مليارات دولار حاليًا، بجانب منحة مالية أخرى لدعم ميزانيته قدرها 2.5 مليون دولار شهريًا من أجل تعزيز المؤسسات الصومالية.
هذا بخلاف الدعم التركي للصومال في مجالي التعليم والصحة، حيث بنت تركيا عددًا من أكبر المستشفيات في البلد الإفريقي المنهك، أبرزها مستشفى الرئيس أردوغان (ويعد واحدًا من أكبر المستشفيات في القرن الإفريقي) الذي بني عام 2013 ويستقبل شهريًا 11 ألف مريض ويستوعب سنويًا 132 ألف مريض، بجانب مستشفى “ياردم إلي التركي للأمومة والطفولة” الذي افتتح عام 2016 ويستقبل يوميًا 80 مريضًا بواقع 1,400 مريض في الشهر.
أما على المستوى التعليمي فخصصت تركيا سنويًا للصومال نحو 200 منحة دراسية من أصل ألف تقدمها أنقرة للقارة الإفريقية، إلى جانب ترميم 13 مدرسة ثانية داخل البلاد، فيما أكمل نحو 200 طالب وطالبة من الصومال دراستهم الجامعية في تركيا، في الوقت الذي ما زال يدرس فيه 2000 طالب وطالبة آخرين في المراحل التعليمة المختلفة بتركيا.
وعلى الجانب الأمني والعسكري، فاحتضن الصومال أكبر قاعدة تدريب عسكري تركية خارج أراضيها، والتي تم افتتاحها عام 2017، على مساحة 4 كيلومترات وبكلفة 50 مليون دولار، كما قدمت أنقرة للصومال منذ عام 2018 عشرات المركبات العسكرية القتالية المقاومة للألغام والمضادة للكمائن من طراز”BMC Kirpi” إلى جانب آلاف البنادق من طراز “MPT-76” الهجومية، هذا بخلاف تدريب ضباط وجنود الجيش الصومالي على فنون القتال المختلفة، حيث تخرج أكثر من 5 آلاف ضابط صومالي من المركز العسكري التركي، على أيدي خبراء عسكريين أتراك.
تركيا وإفريقيا.. شراكة لا تنافس
يأتي تعميق تركيا للعلاقات مع الصومال ضمن سياستها الأوسع نحو تعزيز حضورها الإفريقي عبر إستراتيجية الشراكة والتعايش المشترك والمصالح المتبادلة، وهي الإستراتيجية التي تبنتها أنقرة خلال العقد الأخير ونجحت في تحقيق إنجازات كبيرة بشأنها، وتسعى لتعزيزها مستقبلًا في ظل ما تملكه القارة السمراء من ثروات طبيعية ونفطية هائلة من جانب، والتحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجهها تركيا من جانب آخر، وتدفعها نحو توسعة مواردها الاقتصادية ونفوذها اللوجستي الإستراتيجي خارج الديار.
على المستوى الدبلوماسي.. تحتل تركيا المركز الرابع بين الدول الأكثر تمثيلًا في إفريقيا، إذ قفز عدد سفاراتها في دول القارة من 12 سفارة عام 2002 إلى 44 سفارة وقنصلية في سنة 2022، فيما ارتفعت السفارات والتمثيليات الدبلوماسية الإفريقية المعتمدة في تركيا من 10 سفارات عام 2008، إلى 37 سفارة في 2021، فضلًا عن كونها عضوًا مراقبًا في الاتحاد الإفريقي منذ عام 2005.
على المستوى الاقتصادي.. أسفرت الدبلوماسية التركية في إفريقيا والتي تعززت بـ30 جولة إفريقية قام بها أردوغان خلال الفترة من 2008 – 2023 عن تعاظم التبادل الاستثماري والتجاري بين الطرفين، حيث قفز حجم التبادل التجاري بين تركيا وإفريقيا من 3 مليارات دولار سنة 2003 إلى 26 مليار دولار عام 2021.
كما ارتفع حجم المشاريع التي قامت بها شركات المقاولات التركية في عموم إفريقيا إلى 71.1 مليار دولار سنة 2021، فيما تركز أنقرة على مشاريع النفط والطاقة، في محاولة لسد العجز لديها، إذ تستورد سنويًا قرابة 90% من احتياجاتها من النفط والغاز، بقيمة 42 مليار دولار، وتسعى للحصول على النفط الذي تمتلكه إفريقيا التي تمتلك 10% من الاحتياطي العالمي للنفط، بأسعار أفضل من تلك التي تستورد بها من آسيا.
على المستوى العسكري.. تمتلك أنقرة 37 مكتبًا عسكريًا في دول إفريقيا، فيما زادت صادراتها العسكرية للقارة عام 2021 من 41 مليون دولار إلى 328 مليون دولار، هذا بخلاف عشرات الاتفاقيات الأمنية التي أبرمتها مع العديد من دول القارة أبرزهم كينيا وإثيوبيا وتنزانيا والصومال، في محاولة لمد نفوذها العسكري داخل القارة التي تموج بالتحديات الأمنية المعقدة التي تعرقل المصالح التركية في تلك البلدان.
ومع موجة الانقلابات العسكرية التي شهدتها بعض دول القارة خلال العامين الماضيين وقفت أنقرة إلى جانب تلك الدول في مواجهة العقوبات التي حاولت فرنسا فرضها عليها، وأبرزها مالي والنيجر وبوركينا فاسو، حيث قدمت الدعم السياسي والعسكري لتلك البلدان، ما زاد من متانة العلاقات معها.
وفي الأخير تواجه الإستراتيجية التركية نحو توسيع دائرة الحضور داخل إفريقيا حزمة من التحديات الأمنية التي قد تمثل تهديدًا لها، في ظل انتشار النزاعات العرقية والدينية، وتفشي الجماعات المسلحة ذات الخلفيات الطائفية، هذا بخلاف اللاعبين الدوليين الآخرين وعلى رأسهم أمريكا وروسيا والصين، الأمر الذي قد يشعل معركة النفوذ الإفريقي مستقبلًا.