لا يمكننا أن نحدد ما إن كان الجدل الذي انتشر بشكل واسع على مواقع التواصل الاجتماعي جدلًا اجتماعيًا أو ثقافيًا أو أخلاقيًا، عقب الحفلة التي أقامتها فرقة “مشروع ليلى” في القاهرة الأسبوع الماضي، بعد أن تم فيها رفع العلم الذي يُمثل ما يُطلق عليه “المثلية الجنسية”، أو في رواية أخرى علم “الرينبو”، الأمر الذي لم ينته بالشجب على المستوى المجتمعي فحسب، بل انتهى بالعقاب أيضًا من “الدولة الأبوية”، لينال أحد رافعي العلم عقوبة السجن لمدة 6 سنوات.
ولأن النقاش في تحديد هوية الجدل ما إن كان ثقافيًا أو أخلاقيًا أو مجتمعيًا يبدو نقاشًا منطقيًا جدًا في دول العالم التي تؤمن بالحريات والعدل والكرامة الإنسانية، والتي قد يشكل قوام مجتمعها مجموعة من القيم، حينها قد لا يكون من العدل إجبار هذا المجتمع على قيم لا يؤمن بها، إلا أن رفاهية تحديد هوية النقاش ليس لها مكان في الدولة الأبوية المصرية.
في أحد البرامج الحوارية المشهورة في الإعلام المصري، برنامج “العاشرة مساءً” الذي يُقدمه الإعلامي المصري وائل الإبراشي خلال حديثه عن الجدل وحالة السخط التي أصابت المجتمع المصري إثر رفع علم المثلية الجنسية في حفلة مشروع ليلى، أشار الإبراشي أن مصر دولة تؤمن بـ”الحريات الشخصية” ولا تتعدى عليها، إلا أن المجتمع المصري مجتمع قوامه كله القيم، وإن أصاب تلك القيم أي شيء من الخلل أو الاهتزاز فهذا سيتسبب في هدم المجتمع المصري، وهذا ما يبرر غضب المجتمع الجم بأن تعلن فيه هوية جنسية مختلفة بهذا الشكل العلني في مصر بلد الأزهر.
استدعى الشعب المصري بشرائحه المختلفة، الإسلاميين منهم والثوريين، المؤيدين منهم وغير السياسيين، الجهات الأمنية المصرية لحماية “الثقافة”، أي لتتدخل الجهات الأمنية لحماية المحتوى الفني والثقافي، لتقوم بدور فريد من نوعه بدلًا من دور الرقابة الفنية، قد يُسميها المصريون فيما بعد “الرقابة الفنية الأمنية”
اعتبر الإبراشي ومعه سليل من الإعلاميين المصريين المعروفين، بل وكثير من نواب البرلمان، وشرائح مختلفة من المجتمع المصري مؤيدة للنظام الحاكم ومجموعة من السلفيين والإسلاميين، رفع هذا العلم في حفل بالقاهرة بمثابة “فضيحة” بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بل ولام البعض منهم نقابة الموسيقيين وجهات الرقابة الفنية، فمن الخطأ أن تسمح بإقامة حفلات كتلك، تدعو للفجر والمجون والشذوذ على حد قولهم.
ربما يبدو الأمر منطقيًا حتى الآن، خصوصًا أن المجتمع المصري مجتمع شديد المحافظة، يصعب هدم منظومة “القيم” التي بُني عليها كما قال الإبراشي، والتغيير فيها ينذر بهدم البنية المجتمعية ككل، وعلى الرغم من أن الإبراشي خلط بشكل عشوائي بين المنظومة المجتمعية والمنظومة الأخلاقية والمنظومة الثقافية، وجعلها كلها بنيانًا مرصوصًا واحدًا رغم الاختلافات البيّنة بينهم، فإن ذلك لم يكن جديدًا، فهكذا كانت حرفية الإعلام المصري، ولكن ما كان مفاجئًا هنا، وفجًا وغير منطقي على الإطلاق، لوم طرف آخر في المعادلة على إقامة حفلات كتلك في مصر، كان ذلك الطرف هو الأجهزة الأمنية المصرية، أو في سياق آخر، دولة الأمن الأبوية.
رفع العلم في حفلة مشروع ليلى بالقاهرة
استدعى الشعب المصري بشرائحه المختلفة، الإسلاميين منهم والثوريين، المؤيدين منهم وغير السياسيين، الجهات الأمنية المصرية لحماية “الثقافة”، أي لتتدخل الجهات الأمنية لحماية المحتوى الفني والثقافي، وتقوم بدور فريد من نوعه بدلًا من دور الرقابة الفنية، قد يُسميها المصريون فيما بعد “الرقابة الفنية الأمنية”، ولم لا، فالدولة الأبوية معروفة بطبعها الانفعالي غير العقلاني، وكل طابع انفعالي يحمل بين طياته أفعالاً فجائية شديدة التطرف.
الأمر لم يتوقف عند اتهام الفرقة بتحريضات لم تقترفها، بل تعدى إلى تدخل الجهات الأمنية المصرية، لتستطيع من خلال كاميرات المراقبة في الحفل أن تلتقط “العناصر” المروجة للفحش والفجور
اتُهمت فرقة مشروع ليلى بـ “نشر الفسق والفجور والشذوذ”، الفرقة اللبنانية التي أشار المغني الرئيسي بها “حامد سنو” إلى مثليته الجنسية في أحد البرامج الحوارية التليفزيونية قبل بضعة سنوات من الآن، الأمر الذي لم يمنع الفرقة من أداء حفلات بعد ذلك في القاهرة وغيرها من المدن العربية المختلفة، إلا أن الدولة الأبوية المصرية قررت العكس هذه المرة.
لم يتوقف الأمر عند اتهام الفرقة بالترويج لأفكار غير أخلاقية تخدش “الآداب العامة” في مصر، بل تعدى إلى تدخل الجهات الأمنية المصرية، لتستطيع من خلال كاميرات المراقبة في الحفل أن تلتقط “العناصر” المروجة لهذا الأمر، أو كما وصفتهم الشرطة المصرية في تقاريرها، بعد أن ألقت القبض على 7 من حضور الحفل تبيّن رفعهم علم المثلية الجنسية في الحفل، وكما قيل في الصحافة المصرية فقد تم اتخاذ الإجراءات القانونية كافة ضدهم، وإحالتهم إلى النيابة العامة التي تباشر حاليًا التحقيقات معهم في الاتهامات الموجهة إليهم.
إلغاء حفل فرقة مشروع ليلى المرتقب في الأردن بعد الجدل المثار في حفل القاهرة
استدعاء الدولة الأمنية لحماية الثقافة قبل أن ينتهي المجتمع “في ستين داهية” على حد قول الإعلاميين ومعهم شرائح المجتمع المصري، بالإضافة إلى اتهام مشروع ليلى بالمخطط الصهيوني الذي يعمل على زعزعة منظومة الثقافة الإسلامية المصرية، كلها كانت تناقضات بعيدة المدى، لا يمكن شرحها بشكل منطقي للعديد من الأسباب.
أولها أن المجتمع المصري لا يشعر بأدنى غضاضة أخلاقية كانت أو مجتمعية بشأن العديد من القضايا المجتمعية التي بالفعل يمكنها وبكل بساطة هدم “منظومة القيم” التي استدعى المصريون الجهات الأمنية لحمايتها، منها قضية زواج المتعة للقاصرات في القرى المصرية الفقيرة مقابل مبلغ من المال لقضاء بضعة أيام مع سائح عربي خليجي، أو قضية ختان الإناث التي تُمارس بشكل وحشي وعشوائي ضد الفتيات دون محاسبة جنائية أو “رقابة أمنية”.
لقد ذُعر المصريون من علم يحمل ألوان قوس قزح ولم يهدأوا حتى طلبوا تدخل السلطات الأمنية في ذلك، ولم يجدوا أي غرابة في أن تتدخل الدولة الأبوية في رقابة المحتويات الفنية من التليفزيون إلى شاشات السينما إلى الأغاني والراديو
لم يشعر المصريون بالغضب الجم حيال العنف الأسري، ولا يعيرون نسب الطلاق والعنوسة المتزايدة بشكل جنوني سنويًا أي اهتمام، ولا يجد المصريون حرجًا من الفجوة الواسعة بين الطبقة الغنية والطبقة الفقيرة والتي نتج عنها أعداد لا نهائية من العشوائيات السكنية تقطنها الطبقة الفقيرة دون أي مظاهر تُذكر للبنية التحتية، وعلى الجانب الآخر هناك الطبقة الرأسمالية العابرة للحدود، أو في سياق آخر شريحة اجتماعية تتحكم في مصادر وأدوات عابرة للحدود مثل الشركات العابرة للقارات والمنظمات السياسية العالمية ومنظمات التجارة الدولية إلى آخر هذا النمط من المؤسسات، وهي الطبقة الغنية التي تقطن المجمعات السكنية خلف أسوار عالية تفصلها عن العشوائيات السكنية.
كان ذلك على المستوى المجتمعي، أما على الصعيد السياسي، لا يجد المصريون أي “فضيحة” أو حرجًا من زيادة نسبة الاختفاءات القسرية للمعارضين السياسيين، ولا يجدون حرجًا من القمع السلطوي حيال معتقلي الرأي وايداعهم السجون دون محاكمات واضحة أو عادلة، لم يجد المصريون حرجًا من قتل الآلاف من المصريين منذ ثورة الخامس والعشرين من يناير وحتى هذه اللحظة مرورًا بكل التحولات السياسية الجذرية التي مرّت بها البلاد، ولا يعتبر المصريون أن كل ما سبق إنذارات تهدد منظومة “القيم” التي بُني عليها المجتمع المصري.
الدولة الأبوية تقرر للشعب ماذا سيسمع وماذا سيقرأ وماذا سيشاهد، ولن يكون غريبًا إن اعتبرت الدولة الأبوية علم المثلية رمزًا ثقافيًا مقبولًا بعد بضعة سنوات من الآن
لقد ذُعر المصريون من علم يحمل ألوان قوس قزح ولم يهدأوا حتى طلبوا تدخل السلطات الأمنية في ذلك، ولم يجدوا أي غرابة في أن تتدخل الدولة الأبوية في رقابة المحتويات الفنية من التليفزيون إلى شاشات السينما إلى الأغاني والراديو، كما لم يغضبوا غضبًا جمًا حيال مصادرة المكتبات الثقافية وإغلاقها بعد اعتبارها خطر يهدد الأمن المصري، أو على حد قول الرئيس عبد الفتاح السيسي في أحد المؤتمرات، “ينفع التعليم في إيه مع وطن ضائع؟ لا.. ده إحنا عندنا تحديات كبيرة جدًا”.
الدولة الأبوية تقرر للشعب ماذا سيسمع وماذا سيقرأ وماذا سيشاهد، ولن يكون غريبًا إن اعتبرت الدولة الأبوية علم المثلية رمزًا ثقافيًا مقبولًا بعد بضعة سنوات من الآن، ولن تُواجهه بالاعتقال والسجن، حينها لن يجرؤ الشعب على اعتبار ذلك إنذارًا بهدم المجتمع المصري طالما سمحت به الدولة الأبوية، فإن كان القتل والعنف والظلم والرعب واللامنطقية والجهل والمرض والفقر أسبابًا لا تكفي لتكون إنذارًا بهدم مجتمع، لن يكون علمًا بألوان قوس قزح أعلى مكانة من هؤلاء.
الأمر سواء، فمصادرة كتاب ما أو غلق مكتبة ثقافية أو منع فيلم من العرض أو حجب محتويات ما أو منع فرقة معينة من الغناء، لن يختلف عن قتل معارض سياسي أو اختفاء كاتب رأي أو سحب الجنسية من صحفي معارض أو اعتقال الآلاف من الشباب بتهم تحريضية، لن يختلف الأمر كثيرًا في الدولة الأبوية، والقمع السياسي السلطوي لن يتوقف عند معارضي الرأي، بل سيمتد لمعارضي أفكار الدولة الأبوية الأخلاقية والثقافية والدينية وحتى الشخصية!