عاد الحديث خلال الشهرَين الماضيَين عن إخراج القوات الأمريكية من العراق، وإنهاء تواجد التحالف الدولي، إلى واجهة الساحة السياسية مجددًا في العراق، بعد سلسلة التطورات الأمنية التي شهدتها البلاد، جراء استهداف الفصائل المسلحة المدعومة من إيران القواعد الأمريكية في العراق وسوريا أكثر من 165 مرة، إثر حرب “إسرائيل” على قطاع غزة.
تزامنًا مع هذه التطورات، شنّت الولايات المتحدة سلسلة غارات في 2 فبراير/ شباط، استهدفت مواقع داخل الحدود العراقية والسورية بـ 125 صاروخًا دقيق التوجيه، ليتبع ذلك استهداف طائرات مسيّرة أمريكية قائدًا بارزًا في كتائب “حزب الله” العراقي هو أبو باقر الساعدي، في قلب العاصمة العراقية بغداد بداية الشهر ذاته، ما أدّى إلى تشديد الحكومة العراقية برئاسة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني مطالباتها ووعيدها بإنهاء التواجد الأمريكي في البلاد.
التواجد الأمريكي
عادت القوات الأمريكية إلى العراق إثر مطالبة الحكومة العراقية عام 2014 واشنطن بالتدخل والعمل مع الحكومة العراقية، لمواجهة مقاتلي تنظيم “داعش” الذين اكتسحوا مساحات شاسعة من البلاد في يونيو/ حزيران 2014، واحتلوا ما يقرب من ثلث مساحة البلاد بدءًا من محافظة نينوى شمالًا، وصولًا إلى تخوم العاصمة بغداد.
وبعد نهاية الحرب على تنظيم “داعش” وتحرير العراق جميع أراضيه نهاية عام 2017، استمرَّ وجود القوات الأمريكية تحت مظلة التحالف الدولي في 3 مناطق بالبلاد، إذ تتمتع واشنطن بتواجد عسكري في قاعدة حرير في محافظة أربيل، إضافة إلى تواجد قواتها في قاعدة عين الأسد غربي محافظة الأنبار، إضافة إلى قوة أمريكية في قاعدة فيكتوريا ضمن حدود مطار بغداد الدولي.
ورغم تأكيد واشنطن وبغداد أن تواجد القوات الأمريكية لا يخرج عن كونه وجودًا لأجل تقديم المشورة والتدريب، بيد أن كتلًا سياسية شيعية تطالب بإخراج هذه القوات من البلاد لانتفاء الحاجة إليها، وكان أول ردّ فعل سياسي تجاه تواجد هذه القوات قرار البرلمان العراقي في 4 يناير/ كانون الثاني 2020، الذي طالب بخروج القوات الأمريكية بعد أن أقدمت الولايات المتحدة على اغتيال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي أبو مهدي المهندس، بضربة جوية بطائرة مسيّرة خلال خروجهما من مطار بغداد الدولي.
تؤكد الحكومة العراقية أن عدد القوات الأمريكية في البلاد لا يزيد عن 2500 جندي أمريكي، تتمحور مهامهم في تقديم الدعم والتدريب للقوات العراقية، وهو ما تؤكده واشنطن، بيد أن التطورات الأخيرة أدّت بالحكومة العراقية إلى إعادة المطالبة بإنهاء مهام التحالف الدولي، وتحويل العلاقة العسكرية مع واشنطن إلى تعاون ثنائي، ما أدّى بالمحصلة إلى تشكيل لجنة مشتركة لدراسة هذا الملف.
وقال المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة العراقية، يحيى رسول، في تصريح صحفي: “إن القوات الأمريكية تكرر بشكل غير مسؤول ارتكاب كل ما يقوّض التفاهمات والحوار الثنائي بين البلدَين، القوات الأمريكية لا تكترث لحياة المدنيين ولا للقوانين الدولية، وهي بذلك تهدّد السلم الأهلي، وتخرق السيادة العراقية، وتستخفّ وتجازف بحياة الناس”.
تضارُب بالتصريحات
يبدو أن ملف إخراج القوات الأمريكية لا يسير وفق ما تعلن عنه الحكومة العراقية، فالحكومة العراقية تهدف إلى إنهاء دور التحالف الدولي وانسحاب القوات الأمريكية من البلاد، في الوقت الذي لم يتطرق فيه المسؤولون الأمريكيون في مجمل تعليقاتهم إلى انسحاب أمريكي وشيك من العراق.
علّق بات رايدر، المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون”، على الاجتماع الأخير بين العراقيين والأمريكيين، بتأكيده على أن القوات الأمريكية متواجدة في العراق بناءً على دعوة من الحكومة العراقية، وأنه ليس على علم بأي طلب رسمي محدد لمغادرة القوات الأمريكية.
ودعا البرلمان العراقي إلى عقد جلسة برلمانية لمناقشة وتشريع قانون لإخراج القوات الأمريكية من البلاد، بيد أن الجلسة التي عُقدت في 10 فبراير/ شباط الجاري شهدت مفاجأة سياسية، بعد أن حضر نحو 100 نائب فقط الجلسة النيابية من مجموع 329 نائبًا يشكّلون البرلمان العراقي.
تأتي هذه المفاجأة لتكشف علانية أن القوى السياسية الشيعية تبدو أنها ليست متفقة على إخراج القوات الأمريكية من البلاد، لا سيما أن عدد النواب الشيعة في البرلمان يربو على 180 نائبًا، وهو ما يثير العديد من علامات الاستفهام، في حين أكّد عصام الفيلي، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة المستنصرية ببغداد، أن الأكراد والسنّة لا يشعرون بالأمان من خلال التعاون مع من وصفها بـ”القوة المتشددة” من الإطار التنسيقي.
وتابع الفيلي أن الإطار التنسيقي الجامع للقوى السياسية الشيعية، يجمع في الوقع ذاته قوى سياسية متناقضة في طموحاتها السياسية، مبيّنًا أن النواب الشيعة الذين حضروا جلسة البرلمان التداولية لإخراج القوات الأمريكية من العراق، لا يتجاوز تعدادهم ثلث الحاضرين في الجلسة، وبالتالي لا يمكن لهذه النسبة أن تتهم 80% من مجمل عدد نواب البرلمان بالخيانة.
في غضون ذلك، تستمر التصريحات الحكومية المؤكدة على عملها لإخراج القوات الأمريكية من البلاد، إذ قال رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في 15 فبراير/ شباط الجاري، إن الحكومة طلبت من التحالف الدولي لمحاربة تنظيم “داعش” إنهاء مهمته في العراق، في ظل جاهزية وكفاءة الأجهزة الأمنية العراقية، وناقش السوداني مع نائبة الرئيس الأمريكي، كامالا هاريس، مسألة التواجد الأمريكي في العراق، وذلك على هامش مؤتمر ميونخ للأمن الذي عُقد الجمعة في 16 فبراير/ شباط الجاري.
محددات الانسحاب
يبدو أن هناك العديد من المحددات التي قد تجعل الانسحاب الأمريكي من العراق لا يسير وفق ما تطالب به الحكومة العراقية، إذ إن الخلافات السياسية لا تزال حاضرة، في ظلّ إشارات متزايدة عن عدم رغبة الأكراد والسنّة بانسحاب أمريكي وشيك، في وقت لا تزال فيه قوى الإطار التنسيقي الشيعي غير متوافقة على الانسحاب الأمريكي الفوري.
على الجانب الآخر، تظهر العديد من المحددات الاقتصادية التي قد تجعل الانسحاب الأمريكي بالغ الخطورة على العراق، إذ يشير المحلل الاقتصادي أنمار العبيدي، إلى أن العراق يعتمد اقتصاديًّا بصورة كلية على ما يرده من دولار من البنك الفيدرالي الأمريكي، لا سيما أن الولايات المتحدة وعبر البنك الفيدرالي تتحكم بجميع الإيرادات المالية للعراق المتأتّية من بيعه للنفط.
في حديثه لـ”نون بوست”، أشار العبيدي إلى أن أي خلافات كبيرة وتصعيد في المواقف تجاه واشنطن، قد يؤدي بالأخيرة إلى التضييق على الاقتصاد العراقي، لا سيما في ظل استمرار تأكيد واشنطن على حكومة بغداد بشأن الحدّ من عمليات تهريب الدولار إلى إيران وغيرها، عبر العديد من المصارف العراقية الأهلية التي فرضت واشنطن عقوبات على العديد منها.
أما فيما يتعلق بالجانب العسكري، يشير الخبير العسكري رياض العلي أن أي انسحاب أمريكي سريع وغير منظَّم ومتسرّع، قد يؤدي بإيران إلى زيادة تواجدها في العراق عبر أذرعها العسكرية، ما يجعل البلاد عرضة لحرب مفتوحة مع الولايات المتحدة، خاصة إذا ما استمرت عمليات استهداف القواعد الأمريكية في سوريا، حيث ستكون واشنطن مطمئنة لعدم وجود قوات لها في العراق، وهو ما لا ترغب به الحكومة العراقية.
وفي حديثه لـ”نون بوست”، أوضح العلي أن الواقع الأمني في العراق يشير إلى انتهاء مخاطر تنظيم “داعش” وتهديده لأمن البلاد، إلا أن الاستقرار الأمني في البلاد عادةً ما يرتبط بالاستقرار السياسي والاقتصادي، وهو ما تعلمه الحكومة العراقية جيدًا في أن التواجد الأمريكي في العراق وتعزيز العلاقات مع واشنطن، يعطيان انطباعًا للشركات الدولية بأن الوضع العام في العراق مستتبّ على المدى الطويل، بما ينعكس على الوضع الاقتصادي والاستثمارات.
في خضمّ كل ذلك، لا يبدو أن القوات الأمريكية ستنسحب من العراق في المدى المنظور، فالأوضاع السياسية والاقتصادية في العراق ليست مهيَّأة بعد لأي انسحاب سريع للقوات الأمريكية من العراق، في ظل اعتماد الحكومة العراقية في اقتصادها بشكل مطلق على الدولار الأمريكي، الذي يتحكم الفيدرالي الأمريكي بتدفّقه إلى البلاد.