بين ثنايا القبور المطلية باللون الأبيض في مقبرة بلدة سيدي مخلوف في مدنين بالجنوب التونسي، تستوقفك لوحة رخامية تحمل علم تونس في جهتها اليمنى وعلم فلسطين في جهتها اليسرى، كتب عليها “الشهيد ميلود بن ناجح نومة من مواليد 1955 في محمدية سيدي مخلوف بمدنين، استشهد في عملية الطائرات الشراعية ضد العدو الصهيوني شمال فلسطين في 25/11/1987”.
يوارى في هذا القبر جثمان أحد أبطال تونس البررة الذين قدموا حياتهم فداء للقضية الفلسطينية العادلة، بطل انضم للمقاومة الفلسطينية مبكرًا وشارك في العديد من العمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي ومنها عملية الطائرات الشراعية يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 التي أدت إلى مقتل عدد كبير من الجنود الصهاينة.
ميلود بن ناجح ..الفدائي التونسي
يعد الجنوب التونسي منبع الأبطال، فقد أنجب الأزهر الشرايطي الذي شارك في تكوين أول خلية مسلحة في تونس لمواجهة الاستعمار الفرنسي إلى جانب مصباح الجربوع، والزعيم صالح بن يوسف الذي قاد حركة التحرير الوطني، فضلًا عن بطل عملية الطائرات الشراعية ضد الصهاينة ميلود بن ناجح نومة، وغيرهم الكثير.
لا نعلم بالتحديد التاريخ الحقيقي لولادة ميلود بن ناجح نومة، لكن الثابت أنه ولد سنة 1955 بقرية سيدي مخلوف – أي قبل سنة واحدة من استقلال تونس – وهناك تربى على قيم النخوة والشهامة والمروءة أسوة ببقية أقرانه، فأهل الجنوب عُرفوا من قديم الزمان بهذه الخصال الحميدة.
لم يشهد بن ناجح نومة نكبة 1948 لكنه سمع عنها الكثير، وعلم عن المأساة الإنسانية التي تعرّض لها إخوانه الفلسطينيين وتهجيرهم من أرضهم وهدم بيوتهم ومعظم معالم حياتهم السياسية والاقتصادية والحضارية، تحت مرأى ومسمع العالم “المتحضر”.
في سن الـ12، عايش ميلود النكسة العربية وشهد الاحتلال الإسرائيلي وهو يسلب ما يعادل 3 أضعاف ونصف المساحة التي استولى عليه عام 1948 من أراضي فلسطين، ما مكنه من تحسين وضعه الإستراتيجي وقدرته على المناورة العسكرية.
حز في نفس ميلود أن يرى معاناة الفلسطينيين ويبقى مكتوف اليدين، فقرر التحول إلى الجبهة ومشاركة إخوانه كفاحهم المسلح ضد السرطان الخبيث الذي ضرب الأمة العربية والإسلامية، خاصة أن القادة العرب رفعوا أيديهم عن هذه القضية العادلة.
سنة 1978، غادر بن ناجح نومة بلدته الصغيرة بالجنوب التونسي، تاركًا خلفه أهله وأصحابه، فقد آثر فلسطين على باقي متاع الدنيا وملذاتها، وشهدت تلك الفترة انضمام عدد كبير من الشباب العربي إلى صفوف المقاومة الفلسطينية.
انخرط الثوري التونسي في صفوف “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة”، وهو تنظيم فلسطيني أسسه أحمد جبريل سنة 1958 بشكل سري وأعلن عنه سنة 1965 في عملية عسكرية استهدفت تفجير نفق عيلبون تحت اسم جبهة التحرير الفلسطينية، وجاء اختيار ميلود لهذا التنظيم كونه الأقرب له فكريًا، فقد كان قوميًا، فضلًا عن سماعه بالعمليات النوعية التي قام بها التنظيم، انطلاقًا من سوريا ولبنان ضد العدو الصهيوني.
إثر انخراطه في صفوف المقاومة، أطلق على لميلود اسم حركي هو “أبو علي التونسي”، وتم اختياره للتدريب على استعمال السلاح ومختلف ضروب القتال في سوريا عوضًا عن لبنان، وهناك زاد تشبعه بحب فلسطين وتنامت رغبته في نصرة القضية مهما كلفه الأمر.
عملية الطائرات الشراعية
كان ميلود يُمني النفس بالقيام بعملية فدائية لصالح المقاومة الفلسطينية في ظلّ تواتر العمليات الفدائية التي تقوم بها الفصائل الفلسطينية ضد الإسرائيليين وحلفائهم، منها اغتيال موشيه حنان يشي (بروخ كوهين) وتصفية شبكة الموساد في مدريد، والهجوم ضد السفير الإسرائيلي في قبرص (رحميم تيمور)، وطائرة تابعة لخطوط الطيران الإسرائيلية (العال)، واقتحام مستعمرة كريات شمونة شمالي فلسطين.
بقي ميلود يتدرب على استعمال السلاح حتى 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، ذلك اليوم الذي لم يكن عاديًا في حياة المقاوم التونسي، ففيه ستتحقق أمنيته التي طال انتظارها، إذ تم اختياره لتنفيذ عملية فدائية نوعية ضد الإسرائيليين إلى جانب بعض المقاومين الفلسطينيين والعرب بواسطة طائرات شراعية حملت اسم “قبية”، ثأرًا للقرية الفلسطينية التي نفّذ فيها مجرم الحرب أرئيل شارون مجزرة يومي 14 و15 أكتوبر/تشرين الأول 1953.
صباح ذلك اليوم، وقف بن ناجح نومة إلى جوار طائرته الشراعية المزودة بمحركات خفيفة فوق أحد تلال وادي البقاع اللبناني وإلى جانبه فلسطينيان (لم يُعرف اسمهما) ومقاوم سوري رابع يحمل اسم “خالد محمد أكر”. كان الجميع يعرفون أنهم مقدمون على رحلة بلا عودة، مع ذلك كان إيمانهم بالقضية الفلسطينية أقوى.
وفق الشهادات والتقارير التي تحدثت عن العملية، اقتحم التونسي ميلود بن ناجح معسكر قيادة المنطقة الشمالية لجيش الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين المحتلة (معسكر غيبور الذي كان يضم صفوة من القوات الإسرائيلية الخاصة) بطائرته الشراعية، وفي أثناء القيام بالعملية أصيبت الطائرة فسقطت فوق مرتفعات حلتا في الجنوب اللبناني.
عند سقوط الطائرة، أصيب المقاوم التونسي لكنه لم ينسحب وقرّر الاشتباك مع قوات الاحتلال الإسرائيلي المتمركزة هناك، فقتل وجرح عددًا منهم، إلى أن نفذت منه الذخيرة ونال الشهادة التي كان يتمناها منذ وقت طويل في سبيل نصرة القضية الفلسطينية التي آمن بها منذ صغره.
ردّ الاعتبار للقضية الفلسطينية
كتب الشهيد التونسي في وصيته، التالي: “أنا ميلود نومة من الجنوب التونسي.. قررت ورفاق لي القيام بهذه العملية لأعيد الاعتبار إلى القضية الفلسطينية التي هي القضية الأم”، ففي 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، عُقد مؤتمر القمة العربية في الأردن، وغاب ملف فلسطين عن المؤتمر، وشهدت القمة العربية آنذاك انشغال الزعماء بالقضية العراقية الإيرانية وحرب الخليج الأولى.
لذا رأى ميلود أن الموقف العربي لم يعد يختلف عن الموقف الدولي الذي شهد جمودًا تجاه القضية الفلسطينية، لذلك ارتأى التضحية بحياته حتى يعيد الاهتمام بالقضية المركزية للشعوب العربية والإنسانية جمعاء، وحتى لا تزداد غطرسة الاحتلال الإسرائيلي.
جثمان الشهيد يواري الثرى
ما إن سمع أهل بلدته خبر استشهاده عبر محطات الراديو، حتى عم الفرح في كل بيت وملأت الزغاريد الشوارع الضيقة للقرية، لشعورهم بالفخر، فأحد أبناء القرية الصغيرة بالجنوب التونسي التي لا يسمع عنها أحد، شارك في المقاومة الفلسطينية وغسل دمه أرض الأحرار والأنبياء.
بعد عملية الطائرات الشراعية بأسبوعين فقط انطلقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فأصبح الشهيد التونسي يكنى في بلدته بـ”أبو الانتفاضة”، وبدأت انتفاضة أطفال الحجارة في 8 ديسمبر/كانون الأول 1987، واستمرت حتى سنة 1992 حين بدأت المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية والكيان الإسرائيلي، وانتهت بتوقيع اتفاق أوسلو في العام التالي.
لم يسلم كيان العدو جثمان الشهيد ميلود إلى أهله وبقي أسيرًا عنده 21 سنة، وأفرج عنه عام 2008، خلال عملية تبادل الأسرى مع حزب الله اللبناني، وكان من بين 8 جثامين له ولرفاقه من التونسيين، الذين نقلوا إلى تونس، وكل دفن في منطقته.
بعد 36 سنة، أعيد استعمال الطائرات الشراعية – التي استخدمها بن ناجح نومة – في الحرب ضدّ الإسرائيليين، وقد منحت هذه الطائرات حركات المقاومة الفلسطينية القدرة على مباغتة الاحتلال الإسرائيلي يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 خلال عملية طوفان الأقصى.
لم يكن ميلود بن ناجح نومة التونسي الوحيد الذي سار في نهج المقاومة واتخذ من القضية الفلسطينية قضيته المركزية ووجه لها بوصلة الحياة والوجود، إذ شاركه الكثير في هذا التوجه منهم من نعلم أسماءهم على غرار الشهداء محمد الزواري وخالد بن صالح الجلاصي وفيصل الحشايشي وكمال السعودي البدري وبليغ أنور اللجمي.