فجر يوم السبت الموافق 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، اجتاز مقاتلون من كتائب القسام (الجناح العسكري لحركة حماس) سماء المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة بواسطة طائرات شراعية بسيطة في هجوم حمل اسم “طوفان الأقصى”.
ذكرنا مشهد هذه الطائرات البشرية المزوّدة بعجلات ومراوح تقليدية بمشهد سابق حدث قبل 36 سنة، إذ تمكن حينها عربيّان من المنتسبين إلى “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة” من التحليق بطائراتيهما الشراعية قرب الحدود اللبنانية الإسرائيلية، ونجح أحدهما في التسلل إلى معسكر إسرائيلي وقتل جنود إسرائيليين وإصابة آخرين.
قاد هذه العملية الفدائية، التي جاءت ردًا على مذبحة قبية سنة 1953، البطل السوري خالد محمد أكر الذي قدم من مدينة حلب، والتحق بصفوف المقاومة الفلسطينية في لبنان بعمر 14 عامًا، واستشهد وهو محلّق نحو فلسطين بطائرة شراعية تقليدية.
خالد أكر
آمن السوري خالد محمد أكر الذي ولد سنة 1967 بأن العمل المسلح السبيل الوحيد لتحرير فلسطين، ما جعله ينضمّ باكرًا إلى المقاومة الفلسطينية سنة 1983 علّه يستطيع تقديم المساعدة لإخوانه الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي اغتصب الأرض وانتهك العرض أمام مرأى ومسمع القادة العرب.
كانت وجهة أكر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة – وهي فصيل فلسطيني قومي يساري، انشق عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين يوم 24 أبريل/نيسان 1968، واتخذ من العاصمة السورية دمشق مقرًا لقيادته.
يرجع سبب انضمام أكر (حمل فيما بعد اسم أبو رامي) لهذا التنظيم لكونه يضم إلى صفوفه عناصر من أقطار عربية مختلفة وصل بعضهم إلى مراكز قيادية في الجبهة، إذ كانت الأخيرة تؤكد أن نضالها جزء من النضال العالمي ضد كل أشكال الاستعمار والعنصرية والإرهاب ضد الشعوب.
تدرب محمد أكر في منطقة الناعمة جنوب لبنان، وهناك تعلم حمل السلاح واستعماله على أمل أن يتم اختياره للقيام بعملية فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي سواء داخل الأراضي المحتلة أم في أوروبا، ففي ذلك الوقت شنت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة – العديد من العمليات المسلحة ضد مصالح الإسرائيليين في الداخل والخارج.
عملية نوعية
بعد أشهر من التدريب وأمام رغبته الملحة في الاستشهاد نصرة لفلسطين تم اختيار الأكر لقيادة مجموعة فدائية مكونة من 4 أشخاص، محمد أكر والتونسي ميلود بن ناجح نومة وفلسطينيين، تقوم بعملية مسلحة نوعية ضد جنود الاحتلال الإسرائيلي، وكان يبلغ من العمر حينها 20 عامًا.
تتمثل العملية الفدائية المخطط لها في اجتياز الحدود الجنوبية للبنان والتوغل في الأراضي المحتلة من السماء وليس البر كما جرت العادة في العمليات الفدائية السابقة، وذلك لضمان نجاحها، فالسياج على طول الحدود جعل من الصعب العبور إلى الداخل.
في وقت متأخر من يوم 25 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، جهزت المجموعة طائراتها الشراعية، لكن طائرتي الفدائيين الفلسطينيين سرعان ما نزلتا داخل الأراضي اللبنانية لأسباب تقنية، فيما واصلت طائرتا السوري والتونسي التحليق، وكانت الآمال المعلقة بهما كبيرة داخل قيادة الجبهة.
أقلعت الطائرات الورقية العملاقة باللونين الأحمر والأبيض عبر الحدود الشمالية للأراضي الفلسطينية المحتلة من لبنان، وباستخدام محركات بحجم جزازة العشب ومروحة صغيرة، حاملة أبطال عرب وهبوا حياتهم نصرة للقضية الفلسطينية.
سمع الجنود الإسرائيليون صوت المحركات فوقهم، وصدرت تحذيرات لجميع قواعد الجيش الإسرائيلي والمراكز المدنية في الشمال، لكن المروحيات الحربية – المزودة بكشافات ضوئية – التي أرسلوها للتحقيق لم تجد أي شيء، فالطائرات الشراعية المعلقة كان تطير بمستوى الأشجار التي كانت تملأ المنطقة.
نجح محمد أكر في عبور الشريط العازل الذي يتراوح عرضه بين 5 و12 ميلًا في الجنوب وهبط في حقل من الأعشاب والأشواك يصل ارتفاعها إلى الركبة قرب مستوطنة كريات شمونة في شمال الأراضي الفلسطينية المحتلة، ثم ركض نحو 200 متر إلى معسكر غيبور الذي كان يضم صفوة من القوات الخاصة الصهيونية، مسلحًا ببندقية كلاشنيكوف سوفيتية الصنع ومسدس مزود بكاتم للصوت وقنابل يدوية مربوطة إلى جسده.
لمح أكرا شاحنة عسكرية إسرائيلية مارة أمامه فأطلق النار عليها ما أسفر عن مقتل سائق الشاحنة وإصابة جندية كانت معه، ثم تسلل إلى القاعدة بأريحية كبيرة، متجاوزًا حارس عند البوابة هرب خوفًا عند سماع صوت إطلاق النار.
بدأ البطل السوري بإطلاق النار من بندقيته الهجومية السوفياتية وإلقاء القنابل اليدوية على الخيام المليئة بالجنود الإسرائيليين وقتل 5 إسرائيليين آخرين وجرح 6، وقد فوجئ الضباط والجنود وأفزعتهم المفاجأة.
استمرت الاشتباكات لأكثر من ساعة واستنجد جنود الاحتلال الإسرائيلي بقوات من خارج المعسكر، وغطت سماء المعركة طائرات مروحية وقذائف الإنارة والإضاءة إلى أن استشهد الحلبي البطل خالد محمد أكرا بنيران الأسلحة الآلية الإسرائيلية.
صدمة إسرائيلية
حلّ الدمار بأكثر من مكان، حيث دمرت 3 مهاجع وحرقت 5 خيام ودمرت كذلك أكثر من 6 آليات مختلفة وملأ القتلى والجرحى أرض المعسكر وأمام بواباته، وكان هذا الهجوم الفلسطيني الأكثر قوة ضد هدف صهيوني داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ مارس/آذار 1978، عندما قتل 11 مسلحًا فلسطينيًا 37 إسرائيليًا وأصابوا 82 آخرين بعد اختطاف حافلة.
عقب هذا الهجوم واجه الجيش الإسرائيلي انتقادات كثيرة، إذ لم يأخذ “الاحتياطات” اللازمة، وفق الإعلام الإسرائيلي، على الرغم من حالة التأهب العسكري العام، كما أن الحارس عند بوابة المعسكر كان من المفروض أن يقاتل المقاومين عندما بدأ إطلاق النار، لكنه فرّ من مكان الحراسة خوفًا على حياته.
ليس هذا فحسب، إذ كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية حينها، أن العديد من الجنود القتلى والجرحى كانوا يلعبون الطاولة ولعبة الداما في الخيام عندما دخل المقاتلون العرب المنطقة العسكرية، ما اعتبر فشل عسكري كبير.
وكشفت هذه العملية زيف الادعاءات الإسرائيلية بقوة جيشها، خاصة أن العملية الفدائية الفلسطينية استهدفت قاعدة عسكرية إسرائيلية يفترض أنها محصنة جيدًا، وغيبور عبارة عن مجمع مترامي الأطراف من الخيام والثكنات يقع خلف سياج من الأسلاك الشائكة.
كما أصيب الإسرائيليون بالذهول إزاء قدرة مقاتل عربي واحد على إلحاق كل هذا القدر من الضرر بالمعسكر وتجددت المخاوف القديمة بعد سنوات من الشعور بأن التهديد العسكري الفلسطيني الخارجي ربما تم تحييده.
وشهد اليوم التالي لعملية الطائرات الشراعية إغلاق العديد من الشركات والمؤسسات الصهيونية، بينما طُلب من السكان الذهاب إلى الملاجئ وبحثت قوات الكوماندوز العسكرية عن أي مهاجمين آخرين.
وحتى تتخلص السلطات الإسرائيلية من الضغط الممارس عليها، وجّهت اللوم إلى الجندي الذي كان يحرس بوابة المعسكر وحُكم عليه بالسجن لمدة 3 سنوات بتهمة الجبن الذي أدى إلى مقتل 6 آخرين، وأدى هذا إلى ظهور عبارة “متلازمة الحارس” (Tismonet HaShin-Gimel)، أي الميل إلى جعل الشخص الأدنى مرتبة كبش فداء، بدلًا من مطالبة المسؤولين بالإجابة على أخطائهم.
مثلت ليلة الطائرات الشراعية خيبة أمل كبيرة لدى الإسرائيليين، إذ تمكن مقاتلان من المقاومة الفلسطينية مهاجمة قاعدة عسكرية تضم أقوى عناصر الجيش الإسرائيلي بطائرات شراعية معلقة لم تكن أكثر من مجرد طائرات ورقية تم تحديثها بمراوح ومحركات بحجم جزازة العشب.
كما مثلت هذه العملية الفدائية دفعة للحركة الوطنية الفلسطينية في مواجهة الاحتلال، فبعد أيام قليلة بدأت انتفاضة أطفال الحجارة التي استمرت حتى سنة 1992 حين بدأت المفاوضات بين منظمة التحرير الفلسطينية و”إسرائيل”، وانتهت بتوقيع اتفاق أوسلو عام 1993.
تروي عملية الطائرات الشراعية إحدى قصص النجاح الرائعة للكفاح الذي يخوضه الفلسطينيون ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتعكس نصرة العرب للقضية الفلسطينية العادلة التي تنكر لها المجتمع الدولي والقادة.