تمرّ هذه الأيام 5 سنوات على الحراك الشعبي في الجزائر، الذي انطلق في 22 فبراير/ شباط 2019، وأفشل مشروع الولاية الرئاسية الخامسة للرئيس السابق الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وسط تساؤلات تتجدد في البلاد إن كان هذا الحراك قد حقق مطالب من رفضوا استمرار عمل الجهات غير الدستورية التي كانت وقتها تتحكم في الجزائر، أم أن المسيرة لا تزال تحتاج إلى وقت أطول، رغم تضمين ذلك الحراك في الدستور؟
شكّل 22 فبراير/ شباط منعرجًا حاسمًا في تاريخ البلاد وما زال، رغم مرور 5 سنوات على وقوعه، بالنظر إلى أنه أنهى أسوأ مرحلة من تاريخ الحكم السياسي في الجزائر، وقطع الطريق أمام أي محاولات مقبلة قد تفتح المجال لمحاولات فتح العهدات الرئاسية.
غياب الحراك
لم تلقَ الذكرى الخامسة لحراك فبراير 2019 اهتمامًا واسعًا من قبل الجهات الرسمية، مثلما كان الأمر عليه في السنوات الماضية، حيث لم تكن المراسم بذلك المستوى الذي كان في العام الأول من الحراك، الذي تزامن مع وصول الرئيس عبد المجيد تبون إلى سدّة الحكم.
انحصرت التصريحات الرسمية في تغريدة لرئيس مجلس الأمة صالح قوجيل، الذي قال: “نستعيد في اليوم الوطني للأُخوّة والتلاحم بين الشعب وجيشه، مظاهر الهبّة الشعبية الأصيلة التي وضعت حدًّا للحيف والنكوص الذي طال مسار الجمهورية، ونتوجّه بالتحية إلى الجيش الوطني الشعبي المتشبّع بروح الشعب، المستنير بمشكاة الشهداء والمغترف من السلسبيل الذي تنهل منه الجزائر الجديدة”.
يطلق رسميًّا على ذكرى حراك 2019 اسم “اليوم الوطني للأخوّة والتلاحم بين الشعب وجيشه”، تخليدًا لرفض رئيس أركان الجيش السابق، الراحل الفريق قايد صالح، الانسياق وراء مشروع تكريس الولاية الرئاسية الخامسة لبوتفليقة، بالنظر إلى الدور البارز الذي تلعبه المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية الجزائرية منذ حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي، والذي يستمر حتى اليوم الحالي.
بدوره، قال رئيس المجلس الشعبي الوطني (الغرفة السفلى للبرلمان)، إبراهيم بوغالي: “نحيي كل عام ذكرى اليوم الوطني للأخوة والتلاحم بين الشعب وجيشه من أجل الديمقراطية، بمزيد من اليقين بأن تقوية اللحمة الداخلية هي أهم الأسلحة في مواجهة الأخطار التي تهدد كيانات الدول وتعمل على إرباك وتقويض استقرارها”.
ولم تعر وسائل الإعلام العمومية وحتى الخاصة اهتمامًا كبيرًا بهذه الذكرى، فقد غطت الزيارة التي قام بها الرئيس الموريتاني إلى الجزائر واستقباله من طرف الرئيس عبد المجيد تبون بولاية تندوف الحدودية، أين تم افتتاح معبر حدودي ومنطقة تبادل حرّ لتعزيز التبادلات التجارية، على الذكرى الخامسة للحراك التي غاب موضوعها عن النشرات التلفزيونية.
ويظهر من عدم إعطاء هذه الذكرى اهتمامًا أكبر بإقامة تظاهرات واحتفالات مثلما يتم مع باقي الأعياد الوطنية، أن الحكومة تريد بعث رسالة مفادها تحقيق على الأقل معظم مطالب حراك 22 فبراير/ شباط 2019، والمتمثلة في إسقاط مشروع الولاية الرئاسية الخامسة لبوتفليقة، ومحاكمة أبرز رموز نظامه، سواء كانوا من عائلته أو رؤساء حكومته ووزرائه ومسؤوليه المحليين ورجال الأعمال المحسوبين عليه، حيث تمّت إدانة الكثير منهم بتهم فساد، وهم يقبعون اليوم وراء القضبان.
وانعكس عدم الاهتمام بهذه الذكرى رغم مفصليتها حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث لم تكن ذكرى الحراك ضمن المواضيع الأكثر تداولًا على منصة “إكس”. وميدانيًّا، لم تخرج أي جهة إلى الشارع للقيام بتنظيم تظاهرات بهذه المناسبة، كما كان يتم في السنوات الماضية، مع العلم أن السلطات تمنع المسيرات والاحتجاجات بالعاصمة، ولا يتم منح تراخيص لذلك إلا نادرًا.
تساؤلات عن نتائج الحراك
بالنسبة إلى حركة مجتمع السلم المعارضة (أكبر حزب إسلامي)، فإن إحياء الذكرى الخامسة للحراك الشعبي فرصة لطرح تساؤلات بشأن مدى تحقيق مطالب هذا الحراك.
قال رئيس الحركة، عبد العالي حساني شريف، إن “السؤال الذى يظل يراود النخب السياسية والحزبية والمجتمعية وفئات الشعب الجزائري؛ هل حقق ذلك الإجماع الشعبي انتقالًا سياسيًّا سلسًا؟ وساهم في صياغة مشروع تحول ديمقراطي يضمن للبلاد معالم الدولة الجزائرية التي كرّسها بيان أول نوفمبر، وضحّى من أجلها الشعب الجزائري عبر كل المحطات التاريخية؟”.
وإجرائيًّا، يمكن القول إن الانتقال كان هادئًا رغم المعارضة التي رافقته، خاصة أنه لم تسفك أي قطرة دم كما تمّ في تسعينيات القرن الماضي، أو مثلما حدث في دول أخرى، وذلك بتجنّب المرور إلى مرحلة انتقالية، كما كانت تطالب أصوات محسوب بعضها على فرنسا.
لكن هذا الانتقال لا يزال حتى اليوم محتاجًا إلى مشروعية أكبر برأي البعض، كون أغلب الاستحقاقات التي جرت بعد الحراك كانت نسب المشاركة في انتخاباتها متدنّية وهزيلة في بعضها إلى أقصى الحدود، رغم امتلاكها المصداقية القانونية الدستورية.
ورافعَ حساني في تصريحه بمناسبة الحراك لطموح مشروع يكون “مرتبطًا بتحقيق ملامح دولة تتمسك بالثوابت الوطنية، وتكرّس الحريات وتحفظ الحقوق وتحقق الرخاء الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي… وتستمر في مناصرة القضايا العادلة وفلسطين، التي لا شكّ أن نصرتها كانت جزءًا من الشعارات التي رافقت حراك 2019، لأنها من مظاهر الإجماع لدى الجزائريين”.
لكن الموالين للسلطة يرون أن الميدان هو أحسن إجابة عن هذه الأسئلة، بالنظر إلى أن عجلة الاقتصاد بدأت تتحرك بتحقيق صادرات خارج المحروقات بلغت 7 مليارات دولار، وهو ما يشكّل الخطوة الأولى للتخلُّص من تبعية اقتصاد الجزائر لتقلبات سعر برميل النفط.
وسياسيًّا، تربط الحكومة تحقيق مطالب الحراك بتنفيذ التزامات الرئيس تبون الـ 54، والتي تُرجمت في نصّ دستوري جديد في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، وتجديد المجالس المنتخبة للتخلص من تركة النظام السابق، إضافة إلى سنّ قوانين جديدة تخصّ حرية الاستثمار والمبادرة الاقتصادية والإعلام والمحاماة والعقوبات، وذلك في انتظار القوانين المنتظرة المتعلقة بالأحزاب السياسية والجمعيات والبلدية والولاية، لرسم معالم “الجزائر الجديدة” التي يتحدث عنها الرئيس تبون.
انتقادات حقوقية
ربما لا أحد ينكر أن بعض مطالب الحراك الشعبي قد تحقّقت، بالخصوص ما تعلق بمحاكمة الفاسدين من رؤساء الحكومات والوزراء والولاة ورؤساء البلديات ورجال الأعمال المرتشين، وهو ما ساهم في استعادة أكثر من 30 مليار دولار من الأموال المنهوبة خلال فترة النظام السابق، إلا أن برأي آخرين لا تزال عدة ملفات في حاجة إلى معالجة.
وبالنسبة إلى منظمة العفو الدولية، التي تعدّ من بعض المنظمات الحقوقية الدولية القليلة التي لها فرع في الجزائر بترخيص من السلطات، فإن ملف من تسمّيهم “معتقلو الرأي” أحد النقاط المهمة الواجب حلّها من طرف السلطات، إذ قالت “العفو” الدولية في بيان بمناسبة الذكرى الخامسة للحراك الجزائري، إنّ إطلاق سراح جميع المعتقلين سيكون بادرة قوية.
وجاء في تصريح لمديرة منظمة العفو الدولية بالجزائر، حسينة أوصديق، أنه رغم التقدم المسجّل في مجال حقوق الإنسان، إلا أنه “من المهم الاعتراف بأنه لا تزال هناك انتهاكات خطيرة للحقوق والحريات، ما يعيق الزخم الذي ولّدته أوجه التقدم هذه”.
وركزت أوصديق على ضرورة “إطلاق سراح جميع معتقلي الرأي بمناسبة الذكرى الخامسة للحراك… لأن هذا النهج ضروري لخلق بيئة مواتية لممارسة الحق في حرية التعبير وتكوين الجمعيات والتظاهر من قبل جميع الجزائريين”، لكن السلطات تقول إن من تتحدث عنهم المنظمات الحقوقية لا علاقة لإدانتهم بحراك 2019، إنما توبعوا بتهم يعاقب عنها القانون، إضافة إلى أن كثيرًا من هؤلاء استفادوا من إجراءات عفو أقرّها الرئيس تبون.
وتعترف التنسيقية الوطنية للدفاع عن المعتقلين بتبرئة ما لا يقلّ عن 107 مساجين، لكن العفو الدولية ترى أنه من الواجب على “السلطات الجزائرية إطلاق سراح جميع الأشخاص المعتقلين، بسبب ممارستهم حريتهم في التعبير والرأي وتكوين الجمعيات”.
وشددت العفو الدولية على حتمية “تعزيز السلطات الحوار والشراكة مع المجتمع المدني بكل تنوعه، بما في ذلك أصواته المعارضة، لمشاركتها الكبيرة في تنفيذ الالتزامات الدولية التي قطعتها الجزائر على نفسها في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مارس/ آذار 2023”.
من المؤكد أن الزخم النضالي الذي عرفته الجزائر عام 2019 قد خفت سنة بعد أخرى، جرّاء فشل الحراك في تعيين قيادة تمثله تستطيع الحديث باسمه، وكذا بسبب النكسات التي عرفتها مختلف تجارب الحراك في الدول الأخرى، والتي جعلت من التجربة الجزائرية رغم أخطائها أحسن من أي مغامرة سياسية أخرى لا يحمد عقباها، بالخصوص في ظل التحديات التي تخوضها البلاد خارجيًّا.