معظمنا قد يصل لمرحلةٍ ما يشعر فيها أنه خارج المسار، غير قادر على التكيّف، ضعيف المقاومة، تلاحقه الأفكار السلبيّة والسوداوية من كلّ حدبٍ وصوب، لا يستطيع الاعتناء بنفسه وسحبها مما هي فيه، أو قد لا يستطيع العثور على إجاباتٍ لأسئلة عديدة تراوده حيال حياته ومشاكله ومآزقه، دون أن يفكّر ولو لمرة بالاستعانة بطبيبٍ أو معالِجٍ نفسيّ، ظنًا منه أنه يستطيع مساعدة نفسه بنفسه أو بسبب معتقداته حول العلاج وعدم إيمانه بجدواه على الإطلاق.
قد نسلّم أنفسنا ونحن مرتاحين لأيدي المختصّين في مجالاتٍ عديدة متنوعة، إلّا أنّ فكرة اللجوء لمعالجٍ نفسيّ والجلوس بين يديه ما زالت حتى يومنا هذا غير مألوفة أو غير مريحة، فنحنُ نتجنّب دومًا الاعتراف بأننا عاجزون عن التعامل مع مشكلاتنا أو الاعتراف بضعفنا و حاجتنا لأحد، وهذا يُدخلنا في تناقضاتٍ ثقافية حول مفهوم العلاج؛ ونبدأ بالتساؤل حول جدواه وفائدته.
العلاج النفسي ما هو إلا أداة واحدة لمساعدتنا في التغلّب على ضعفنا، وتحسين طريقة عمل عواطفنا ومشاعرنا، وتسهيل الصعوبات التي نواجهها في فهمنا لذواتنا وأفكارنا، وحلّ مشكلات ثقتنا بأنفسنا وبالآخرين من حولنا، وزيادة فعالية تواصلنا معهم وتعبيرنا عن أنفسنا، وتقدير إمكانيّاتنا ونقاط قوّتنا، وغيرها الكثير الكثير. لكنّه وقبل كلّ ذلك يبقى تحديًّا كبيرًا يخضع لاحتمالية النجاح والفشل بنفس النسبة والتوقعات.
بعض المواضيع النفسية أو المتعلقة بالصحة العقلية قد يكون من السهل تجاوزها إذا حاول الشخص ذلك
بدايةً لا بدّ وأنْ نتفق على أن لا تجعل من فكرة حاجتك للعلاج النفسيّ هاجسًا كبيرًا يحتلّ الكثير من جوانب حياتك، والأمر ذاته متعلّق بمن حولك، فأنْ تنصح صديقًا لك أو فردًا من العائلة بأن يذهب للمعالِج لأنه بحاجة لذلك، لا يُفيد الشخص سوى في تعزيز وصمة العار “stigma” التي تلحق العلاج النفسيّ في مجتمعاتنا، ألا وهيّ الإدانة التي قد يشعر بها ذلك الشخص، وبكلماتٍ أخرى فإنه قد يفسّر كلماتك تلك على أنه “مجنون” أو “غير طبيعيّ”، وهذا قد يقلّل من احتمالية لجوئه للعلاج في حال كان حقًّا بحاجة لذلك، أو قد يعتقد أنه يستطيع مساعدة نفسه بنفسه، سواء بشكلٍ عشوائيّ أو من خلال البدء في البحث عن طرق المعالجة الذاتية من كتب ودروس وتطبيقات ومواقع إلكترونية وغيرها، والآخذة بالانتشار أكثر فأكثر خلال الأعوام الأخيرة الماضية.
بعض المواضيع النفسية أو المتعلقة بالصحة العقلية قد يكون من السهل تجاوزها إذا حاول الشخص ذلك، لكنّ الكثير منها قد تكون ببساطة أخطر مما نتوقع في حال قررنا تركها لأنفسنا أو لاستشارة صديق أو فردٍ من العائلة نثق به وبآرائه، وبالتالي فاللجوء للمعالج يصبح أمرًا لازمًا ولا بدّ منه.
يساعدك المعالِج النفسي على فكّ مشاعرك المختلطة وتحليلها؛ وربما يضعك على بداية طريقك لإيجاد أجوبة أسئلتك المُبهمة. فقد تكون في قرارة نفسك تعلم أنّ حياتك المهنية غير مستقرة، لكنك لا تعرف كيف تحلل الأمر وماذا تفعل حيال ذلك، أو قد نشعر ببعض الاستياء من شريكتك، ولكنّك تتجنب التعليق أو تحاول الهرب خوفًا من تدخل في مشاعر الحزن أو الاكتئاب، وبالتالي يساعدك المعالِج النفسي على تحليل العلاقة وفهمها بشكلٍ صحيح.
قد تكون الحياة أصعب من أن نتخيّل، يجب ألّا ننكر هذا، ولذلك فإنّ مشاركة أفكارنا ومخاوفنا ومشكلاتنا وتساؤلاتنا مع شخصٍ ذي خبرة، يستطيع التفكير معك فيها، أو يُعطيك الشجاعة لتغوص في نفسك أكثر لتكتشفها بدقةٍ وعناية، أمرٌ قد لا تستطيع الوصول إليه وحدك، مهما حاولتَ ذلك، فدائمًا ثمّة ما هو ناقص أو مخفيٌّ لا يمكنك رؤيته سوى عن طريق شخصٍ آخر من خارج إطار الصورة.
نقطة أخرى مهمة يساعدك المعالِج النفسيّ للوصول إليها أكثر مما حاولتَ مع نفسك، وهي أن تكون أقلّ عرضةً للدفاعات النفسيّة، وهي عبارة عن مجموعة من الأساليب التي يستخدمها الفرد بصورة لا واعية لمسايرة وتقليل التوتر الناجم عن أفكار سلبية، كأن تكون تلك الأفكار فوق احتماله، أو تكون نتيجة دوافع لا شعورية لا يُعرف مصدرها أو رغبات غير مقبولة أو صراعات داخلية أو عدم قابلية إشباع احتياجات معينة.
تُعدّ جلسات العلاج بيئةً آمنة تمكّنك من اكتشاف أساليب الدفاع النفسية التي تسخدمها دونما وعيٍ منك، والتي تشكّل عائقًا في فهمك لذاتك وحياتك وسيرك فيها، وتضعك في موضع العاجز الذي لا يستطيع تحديد منبع مشكلاتها وإيجاد الحلول لها.
وتتطلّب الدفاعات النفسية العلاجَ أكثر ما تتطلب درجةً عالية من الحدس أو القدرة على فهم الذات وسبر أغوارها، لأننا معرّضون دومًا لإنكار مناوراتنا ومحاولات هروبنا، وبالتالي يُعدّ كشفها مهمةً صعبة تحتاج طاقةً كبيرة لكشفها وتعريفها، لا سيّما وأنّنا ميّالون أكثر للهرب من مخاوفنا أو فشلنا أو حتى إلقاء اللوم على الآخرين أو العوامل الخارجية في حال قررنا مواجهة ذواتنا. لذلك يُبقيك المعالج على اطّلاع على نفسك وأساليبها وسلوكيّاتها أولًا بأول، كما ويربط بين أفكارك وعواطفك بطريقة فعّالة ومنطقية أكثر.
وحتى لو كنتَ قادرًا على أنْ تكون موضوعيًا ودقيقًا حيال القضايا الخاصة بك، ستبقى تواجه التحدّي المتمثّل في معرفة كيفية حلّها وتجاوزها، إذ أنّك قد تفتقر إلى معرفة ذلك. ونحن لا نصل لدرجة عالية من القدرة على إصلاح ذواتنا بسهولة، حتى لو قرأنا مئات الكتب أو شاهدنا آلاف المحاضرات والدروس.
على المرء أن يعيَ النقطة التي يستوعب فيها أنّ مساعيه في مساعدة ذاته بنفسه غير ناجعة بتاتًا، وبالتالي يستوجب تدخّل المعالِج والاعتماد عليه
كما يُعتبر اللجوء للمعالِج النفسيّ في حالات الزواج والعلاقات أمرًا أكثر فعاليةً وجدوىً من الاعتماد على الذات وطرق مساعدة النفس الذاتية مثل الكتب أو الفيديوهات والدروس والتطبيقات الإلكترونية. فالمعالِج يستطيع أن يجعل الأزواج يسمعون بعضهم البعض بشكلٍ أفضل، إذ أنّ وجود وسيطٍ منطقيّ حكيمٍ وذي خبرة يعتبر بالأمر الهام في حالات المشاكل الزوجية.
متى تقرر اللجوء للمعالج والاستغناء عن فكرة المساعدة الذاتيّة؟
يُعدّ الاعتراف بأنّ اللجوء للمعالج والثقة بقدرته على المساعدة أكثر من أنفسنا نقطة البداية للإجابة على السؤال السابق الذي تتضمن إجابته حالاتٍ عدة من بينها حالات الخطر أو توقّع حدوثه مثل الاعتداء الجنسي أو الجسدي أو حتى اللفظي، أو في حال التعرّض لأفكار إيذاء النفس أو الآخرين أو الانتحار. كما تُعتبر الهلوسة والأوهام على سبيل المثال سببين رئيسيين للجوء للمعالِج والتخلي عن فكرة المساعدة الذاتية.
نقطة أخيرة مهمّة وهي أنّ على المرء أن يعيَ النقطة التي يستوعب فيها أنّ مساعيه في مساعدة ذاته بنفسه غير ناجعة بتاتًا، وبالتالي يستوجب تدخّل المعالِج والاعتماد عليه كما يفعل غيره من الأشخاص، فكثيرًا ما يكون الاعتراف بالحاجة لطبيبٍ أو معالِج نفسيّ هي بداية العلاج.