أسفل الشوارع المرصوفة بالحصى والشبيهة بالمتاهة في مقاطعة “ألفاما” بلشبونة، التي كانت فيما مضى حيا فقيرا، تحول الآن إلى قلب المقاطعة التاريخية، قد تفاجئك الأحاديث التي قد تترامى إلى مسامعك والتي تعتبر مزيجا من لغات مختلفة على غرار الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية.
جذبت “ألفاما” العديد من الجنسيات المختلفة
يعزى السبب وراء انتشار هذه اللغات المختلفة في هذا المكان إلى مجتمع الشباب القادم من جميع أنحاء العالم. وقد استقر هؤلاء بين المنازل العتيقة التي ترتفع على ضفاف نهر “تيخو” إلى غاية “قلعة سان جورج” المهيبة، جاعلين من العاصمة البرتغالية موطنهم. وتقع مقاطعة ألفاما في قلب التحول الثقافي الجديد الذي تشهده لشبونة، بيد أن ذلك لم يلق استحسان الجميع هناك.
في الفترة الأخيرة، باتت لشبونة المدينة الأوروبية “لسياحة الاستجمام” بامتياز، لتتحول بذلك إلى مدينة جديدة، إذا جاز القول. ويبدو من السهل معرفة السبب الكامن وراء ذلك، حيث تتمتع هذه المدينة بمناخ شبه استوائي (بلغ متوسط درجة الحرارة خلال شهر كانون الأول/ديسمبر 14 درجة مئوية). فضلا عن ذلك، تعتبر تكلفة المعيشة زهيدة (حيث بإمكانك استئجار شقة ذات غرفة واحدة في موقع مركزي مقابل 800 يورو شهريا)، علاوة على أنها تعج بالحانات والمطاعم التي تنبض بالحياة. في الوقت ذاته، من السهل جدا النفاذ إلى سلسلة شواطئ “الغارف” أو “الغرب”.
في المقابل، وبالنسبة لجيل الألفية الشاب الذي يوجد بكثرة هناك، من الواضح أنه ليس بصدد قضاء العطلة في مدينة التلال السبعة، بل عازم على الهجرة إليها والاستقرار بأعداد كبيرة فيها. ويعود ذلك إلى نموذج العمل الذي نعتمده في الوقت الحاضر، حيث تقلصت الوظائف المستقرة التي تتطلب العمل من الساعة التاسعة إلى الخامسة مساءً، لتحل محلها الوظائف المؤقتة والعمل الحر.
وفقا لما جاء في تقرير صدر مؤخرا، يتطلع 60 بالمائة من الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين سن 18 و35، والذين يتسمون بنشاط تام، إلى الانتقال إلى خارج أوطانهم. وتجدر الإشارة إلى أن موظفي اليوم باتوا يعملون لحسابهم الخاص ويتمتعون بالمرونة الجغرافية، حيث يختصون في مجال الأعمال الحرة. وبالتالي، يستطيعون مباشرة عملهم من أي مكان، شريطة أن تكون تقنية النطاق العريض للاتصالات سريعة بما يكفي.
أخذت لشبونة تفوز بعدة جوائز وتظهر على قائمة أكثر الأماكن التي يُنصح بزيارتها حول العالم
من هذا المنطلق، لماذا قد يعيش أحدهم في مدينة لندن على سبيل المثال، حيث الإيجار المشط والطقس الغائم باستمرار، في حين يستطيع الحد من تكاليف المعيشة الخاصة به إلى النصف والاستيقاظ كل صباح للتمتع بالسماء المشمسة؟ في هذا الصدد، صرح جايمس كايف، البالغ من العمر 31 سنة، الذي يقطن حاليا حي ألكنتارا المزدهر، قائلا: “انتقلت مع صديقتي إلى لشبونة في سنة 2013، كنوع من التغيير. كنا قد انطلقنا آنذاك في مزاولة العمل الحر، وقد بدت لشبونة بمثابة مكان رائع للتموقع، نظرا لتكاليف المعيشة المعقولة والطقس الجميل”. أما بالنسبة للوافدين الجدد على المدينة، فيكفي أن يزوروا لشبونة لمرة واحدة حتى يقعوا في حبها ويفضلوا الاستقرار فيها.
من جانبه، أفاد كريس سايفور، البالغ من العمر 31 سنة، الذي انتقل إلى لشبونة منذ ثلاثة أشهر ويقطن مقاطعة “برينسيبي ريال” الواقعة في مركز المدينة، قائلا: “قدمت بالأساس من أجل قضاء أسبوع فقط في إطار العمل، حيث عملت في إنتاج الموسيقى ضمن أسبوع الموضة في لشبونة. لقد أحببت نبض الحياة في هذا المكان لدرجة أني قررت العيش هنا”.
في الوقت الراهن، ينفق سايفور مبلغ 800 يورو شهريا لسداد الإيجار، الذي يمثل نصف ما اعتاد سداده في المملكة المتحدة. وأضاف الشاب بحماس: “أحب المكان هنا، فالطقس جميل على الدوام. كما أنني أحب العمارة القديمة والشوارع المرصوفة بالحصى والشواطئ المذهلة والموسيقى الحية في الشوارع”.
من خلال لشبونة يسهل الوصول إلى سلسلة شواطئ “الغارف” أو “الغرب”
في الأثناء، تسارعت وتيرة انتقال الأشخاص إلى العاصمة البرتغالية بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا السياق، أوضح جايمس كايف أنه “خلال سنة 2014، أخذت لشبونة تفوز بعدة جوائز وتظهر على قائمة الأماكن التي يُنصح بزيارتها. وفجأة، بدا الأمر وكأن الجميع يعمل على الانتقال إليها. بالإضافة إلى ذلك، أصبح مشهد الاغتراب على نطاق واسع مقارنة بالسنوات القليلة الماضية”. في شأن ذي صلة، أوضح كايف أن المغتربين الأصغر سنا يميلون إلى الاستقرار بالقرب من مركز المدينة وقضاء عطلة نهاية الأسبوع في الركمجة أو في الحانات في “جارسا” “وكايس دو سودري” “وبايرو ألتو” “وبرينسيبي ريال”.
في السياق ذاته، قال كيف هاريسون، البالغ من العمر 37 سنة، الذي يقطن منطقة “باكو دي أركوس” في ضواحي العاصمة البرتغالية إن “أكثر ما يعجبني في لشبونة، الجودة العامة للحياة التي أتمتع بها هنا. في الواقع، لا يضاهي أي مكان آخر عشت فيه هذه المدينة، حيث تتوفر الأغذية الطازجة بأسعار معقولة، في حين أن الأحوال الجوية ممتازة. علاوة على ذلك، ونظرا لتكلفة وسائل النقل العامة ومعاييرها المرتفعة تعد هذه المدينة أفضل من غيرها بكثير”.
من جانبه، أيّد أريستوت كوين، البالغ من العمر 25 سنة، الذي انتقل مؤخرا للعيش في منطقة “ساو دومينغوس دي بنفيكا”، ما قاله هاريسون، حيث شدد على أن “جودة الحياة هنا ممتازة”. وأضاف كوين: “لقد استأجرت غرفة مريحة في شقة مع خدمة تنظيف أسبوعي مقابل 370 يورو شهريا. تمتاز هذه المدينة بتعدد الثقافات، والطعام اللذيذ، والأسعار المنخفضة فضلا عن أن السكان المحليين ودودون للغاية. في الوقت ذاته، باستطاعتك الإحساس بمدى الثراء التاريخي والثقافي للمدينة، التي تحتوي أيضا على رواد أعمال من مختلف أنحاء أوروبا، وهو ما يعتبر أمرا عظيما”.
يميل المغتربون الأصغر سنا إلى التجول في مركز المدينة
في واقع الأمر، تتضمن لشبونة، بشكل خاص، مجتمعا مزدهرا من الرّحل يتألف من الموظفين الأحرار من جميع أنحاء العالم، الذين يتخذون من العاصمة البرتغالية مستقرا لهم على امتداد أشهر أو حتى سنوات. وفي هذا الصدد، كانت روزانا لوبيز البالغة من العمر 33 سنة، تدير مجموعة من اللقاءات للموظفين الأحرار على امتداد السنتين الماضيتين. وأفادت لوبيز أن “الهدف مما أقوم به يتمثل في الدمج بين الساحة المحلية للشركات الناشئة وبين الساحة الرقمية للرحّل”.
في الوقت الحالي، أصبح مجتمع الرحّل الذي تشرف عليه لوبيز يضم حوالي 150 عضوا، ويمتلك مساحة عمل مشتركة، حيث يستضيف فعاليات التواصل بشكل منتظم. في المقابل، ليس الجميع مسرورا بشأن وتيرة التغيير السريعة التي تشهدها لشبونة. فقد اجتمعت جمعيات سكان لشبونة لمناقشة ما الذي يمكن القيام به لحماية مصالح السكان المحليين. وفي الأثناء، أصبح الإيجار باهظ التكلفة للغاية بالنسبة لأولئك للسكان الذين ولدوا في المدينة، ونادرا على نحو متزايد.
في هذا الصدد، أفاد خبير الاستطباق (الاستبدال الطبقي)، والسياحة في جامعة لشبونة، أغوستين كوكولا غرانت، أنه “أصبح من المكلف حقا العثور على مكان للإيجار على المدى الطويل في وسط المدينة. وفي الآن ذاته، ارتفع الطلب بشكل كبير مع انتقال المهنيين الأوروبيين والطلبة المحليين والدوليين إلى المدينة، وهو ما يؤثر سلبا على الأسعار”.
تبدو لشبونة مستعدة لمواصلة تقدمها بلا هوادة، في الوقت ذاته، تبذل سلطات المدينة جهودا حثيثة من أجل تشجيع هذا التغيير
من جانب آخر، أخذ أصحاب العقارات الصغيرة يتحولون بشكل متزايد إلى خدمات التأجير من قبيل تلك التي يوفرها موقع “إير بي إن بي”، لتحقيق الدخل، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى القضاء على أحياء بأكملها، تماما مثلما هو الحال في مقاطعة ألفاما. وكان غرانت قد أخبرني أن شارعا فقط في منطقة ألفاما وحدها يحتوي على 230 مؤجرا عن طريق “إير بي إن بي”.
حتما، لا يخلو هذا الأمر من تأثير سلبي على نسيج مجتمع لشبونة الآخذ في التآكل، وهو ما أوضحه أغوستين غرانت. وفي هذا الإطار، أفاد غرانت أنه “خلال السنتين أو ثلاث سنوات الأخيرة، بدأ السكان المحليون بالتشكي من الوضع، ذلك أن المرافق والخدمات التي كانوا يستخدمونها شرعت في الاختفاء. بالإضافة إلى ذلك، أخذت المتاجر والحانات التقليدية، التي لطالما مثلت أماكن لقاء زهيدة الثمن للسكان المحليين، بالاختفاء لتحل محلها المقاهي ذات الأسعار الباهظة للطلاب الأجانب الذين يتكلمون باللغة الإنجليزية”.
على الرغم من هذه المخاوف، تبدو لشبونة مستعدة لمواصلة تقدمها بلا هوادة. في الوقت ذاته، تبذل سلطات المدينة جهودا حثيثة من أجل تشجيع هذا التغيير، حيث لا تخلو الضوابط من التساهل، ولا تزال الضرائب على الإيجارات قصيرة المدى منخفضة. ويندرج ذلك في إطار محاولة المدينة تحفيز صناعة السياحة للمساعدة على إيجاد حل لمعدلات البطالة التي لا تزال مرتفعة. في الأثناء، يظل الأمر المؤكد، في الصدد، مبادرة المزيد من المهنيين الشباب والمنتقلين جغرافيا بالحجز على رحلات جوية إلى لشبونة قريبا. أما فيما يتعلق بقدرة المدينة على مواكبة معدلات التغيير، فتلك مسألة أخرى تماما.
المصدر: الإندبندنت