مثل استشهاده لحظة فارقة في تاريخ النضال الفلسطيني والسوداني نحو التحرر من براثن الاستبداد والإمبريالية، إذ رثاه الداعية والمقاتل الفلسطيني عبد الله عزام في كتابه “الدعوة الاسلامية فريضة شرعية وضرورة بشرية”، قائلًا: “وهذا المجاهد محمد صالح عمر – الوزير السوداني – يدوس الدنيا بقدمه، ليعيش في الخيام مجاهدًا فوق أرض فلسطين، ويواصل جهاده حتى يلقى ربه شهيدًا في جزيرة أبا”.
التحق الداعية السوداني محمد صالح عمر بجبهات القتال مبكرًا، وشارك إخوانه الفلسطينيين الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي، لكن تطورات الأحداث في بلاده وإطاحة الفريق جعفر النميري بحكومة إسماعيل الأزهري (انقلاب مايو/أيار 1969) دفعاه للعودة مسرعًا لمواجهة الديكتاتورية الوليدة.
محمد صالح عمر
شهد العام 1930 ولادة محمد صالح عمر في جزيرة بدين شمال مدينة دنقلا، وكان السودان في ذلك الوقت تحت الحكم البريطاني المصري الذي امتدّ حتى 19 ديسمبر/كانون الأول من عام 1955، موعد اجتماع البرلمان السوداني وإعلان إسماعيل الأزهري زعيم الحزب الديمقراطي الاتحادي من داخل القبة استقلال البلاد.
نشأ محمد صالح عمر في المساجد وبين أحضان الدعوة الإسلامية وتربى على منهج الإسلام واقتدى بالرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره، فقد كان أبواه ورعان ومكّناه من معرفة وتعلم أصول الدين والعمل بها، حتى أصبح يتحرك وفقًا لتعاليم الإسلام.
في أثناء تلقيه تعليمه الأولي والثانوي، تنقل محمد صالح بين العديد من المدارس في مدن البلاد المختلفة، نظرًا لعدم انتشار المدارس في السودان في ذلك الوقت، أما تعليمه الجامعي فكان في كلية القانون قسم الشريعة بجامعة الخرطوم (1959) ودرس أيضًا في مدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية التابعة لجامعة لندن (1961).
خلال دراسته الثانوية بمدرسة وادي سيدنا الثانوية بأم درمان، ظهر اهتمام محمد صالح بالحركة الإسلامية التي تأسست في السودان خلال أربعينيات القرن العشرين، وتعد امتدادًا فكريًا لجماعة الإخوان المسلمين التي أسسها الشيخ حسن البنا في مصر، وبرز محمد صالح داعيًا ومثقفًا واعيًا في الثانوية والجامعة.
بدأ نشاط محمد صالح الفعلي في الحركة سنة 1954 وتدرج في سلم القيادة وفي سنة 1961 التحق بالقيادة المؤقتة الجماعية لجبهة الميثاق الإسلامي التي ترأسها حسن الترابي الذي أسند لمحمد صالح مسؤولية التنظيم الداخلي، وهذه الجبهة عبارة عن تحالف كتل وطرق صوفية وجماعات إسلامية.
كان دور الكيان الداخلي الذي ترأسه محمد صالح العمل التكويني والتربوي والفكري والاجتماع، وخلال شغله هذا المنصب أثبت القائد الإسلامي حنكة وجدارة ومرونة في سياسة الأمور ومعالجة القضايا وحل المعضلات، فهو من دعاة التكوين التربوي الذي يركز على بناء صف مخصوص ولم يكن من دعاة الحركة السياسية الواسعة.
وهذا المجاهد محمد صالح عمر الوزير السوداني يدوس الدنيا بقدمه،ليعيش في الخيام مجاهدا فوق ارض فلسطين،ويواصل جهاده حتى يلقى ربه شهيدا في جزيرة ابا،
— واعدوا لهم (@wa23dolhm) September 14, 2020
ظل محمد صالح في هذا المنصب حتى أكتوبر/تشرين الأول 1964، موعد اندلاع الثورة ضد نظام الرئيس السوداني الراحل الفريق إبراهيم عبود، مطيحةً بنظامه وكانت أول ثورة شعبية في إفريقيا والعالم العربي.
نظرًا لدوره الكبير في الثورة وتعبئة الجماهير وتأطيرها، رشحت الحركة الإسلامية محمد صالح لتقلد منصب في حكومة سر الختم الخليفة الأولي، فتولى وزارة الثروة الحيوانية وتنازل عن مقعده للرشيد الطاهر في حكومة سر الختم الثانية، إذ لم يكن يجري وراء السلطة ومكاسبها، وبعدها بسنة فاز في انتخابات الجمعية التأسيسية.
خلال عمله القيادي في الحركة الإسلامية أو الوزارة وقبلها في المدارس، عُرف محمد صالح بدماثة أخلاقه وطيب المخبر ولين المعشر، كما امتلك حنكة سياسية كبيرة ودهاء مكّناه من حشد آلاف الشباب إلى صفه من مختلف التوجهات والتيارات الفكرية.
الوجهة إلى فلسطين
كان محمد صالح شديد التأثر بمؤسس حركة الإخوان المسلمين الداعية المصري حسن البنا، وكان الأخير يعد الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا وأمة الإسلام أمة واحدة، ويقول في هذا الشأن: “كل أرض يقال فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله، هي جزء من وطننا، له حرمته وقداسته، والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره“.
يفسّر هذا الأمر أحد أسباب ارتباط القيادي السوداني بفلسطين، فقائده البنا كان يؤكد أن “فلسطين وطن لكل مسلم باعتبارها من أرض الإسلام، وباعتبارها مهد الأنبياء، وباعتبارها مقر المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله”، كما كان يرى البنا أن “قضية فلسطين هي قضية كل مسلم“.
عمل محمد صالح برأي البنا الذي يرى وجوب الجهاد لتحرير فلسطين ونصرة أهلها، فغادر إلى الأردن سنة 1969 والتحق بمعسكر للتدريب العسكري والأمني بمنطقة السخنة بمدينة الزرقاء الأردنية، أسسته حركة فتح الفلسطينية، وكان فاتحة العمل العسكري الفلسطيني.
جاء التحاق محمد صالح بالمقاومة الفلسطينية بعد سنتين من النكسة التي استشهد خلالها ما بين 15 إلى 25 ألف عربي، وأصيب نحو 45 ألفًا، واحتلت “إسرائيل” فيها الضفة الغربية وقطاع غزة، وشبه جزيرة سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية.
انضم الداعية الإسلامي إلى معسكر الزرقاء بجانب مئات الثوار من مختلف دول العالم وكانت كنيته “أبو معاذ”، وحارب الإسرائيليين في العديد من الجبهات وشارك الفلسطينيين معاركهم، فقد كان يرى أن الرباط والجهاد في فلسطين مفتاح التحرر والتحرير للأوطان العربية.
يحسب لمحمد صالح أيضًا أنه سن للحركة الإسلامية في السودان سنة الجهاد وبدأها من أرض فلسطين المباركة، وجذب إلى صفه عددًا مهمًا من شباب الحركة الذين شاركوا بجانب المقاومين الفلسطينيين الحرب ضد الاحتلال الإسرائيلي.
حرص محمد صالح عمر خلال وجوده بالأراضي الفلسطينية المحتلة والأردن على نيل الشهادة التي ستقرّبه إلى الله أكثر، فلا هم له إلا إرضاء الله والعمل بكلامه ونصرة المستضعفين في الأرض، إلا أنه لم ينلها هناك.
الشهادة في السودان
خلال وجود محمد صالح في فلسطين، انقلب الفريق جعفر النميري ضد حكومة الرئيس إسماعيل الأزهري، ووقع انقلاب سنة 1969 ما أدى إلى نهاية العهد الديمقراطي الثاني في السودان، وبداية حكم النميري الذي استمر 16 سنة.
تحالف النميري في هذا الانقلاب مع الشيوعيين وهو ما يفسّر حملته الشرسة ضد الإسلاميين، إذ قاد حملة اعتقالات ضد قيادة الحركة الإسلامية وأودع العديد منهم في السجون وأسس نظامًا ديكتاتوريًا استبداديًا رغم أن مطالب الشعب كانت عكس ذلك.
اعتصم أنصار الإمام الهادي المهدي بداية يونيو/حزيران 1969 في معقلهم بجزيرة أبا في الضفة الشرقية للنيل الأبيض لدفع نظام النميري للعدول عن مخطط القضاء على الإسلاميين، لكن الشيوعيين استغلوا هذا الأمر ودفعوا النظام لمهاجمة الجزيرة وضرب المعتصمين بالقوة.
ضمن المعتصمين كان محمد صالح عمر الذي عاد من جبهات القتال في فلسطين إلى السودان بعد أن بلغه معاناة إخوانه من النظام، عاد محمد صالح والتحق بإخوانه رغم الخلاف الذي حصل بينه وبين قائد الحركة الإسلامية حسن الترابي.
بناء على التدريب الذي تلقاه في فلسطين، أشرف محمد صالح على تنظيم المعتصمين في وجه النظام المدعوم من اليساريين الساعيين للانقضاض على البلاد وإقصاء الشريعة الإسلامية من نظام الحكم وإحلال الشيوعية مكانها.
رفض نظام النميري الحوار وحاصر الجزيرة وآلاف الإسلاميين داخلها بتحريض من الشيوعيين، ويوم 27 مارس/آذار 1970 بدأ هجوم بالطائرات والمدفعية الثقيلة والدبابات بمساندة جوية من مصر للقضاء على الاعتصام، ما أدى إلى استشهاد المئات من مواطني الجزيرة وعدد من قيادات الحركة الإسلامية.
ضمت قائمة الشهداء حينها محمد صالح عمر، ولم يبلغ من العمر 37 سنة، إذ حاول التصدي للنظام الديكتاتوري الذي يقوده الفريق جعفر النميري بمعية الشيوعيين وشارك الشعب السوداني معاركه لإرساء نظام عادل يضمن الحقوق والحريات.
وفق مقربين منه، كان محمد صالح عمر شديد الحرص على لقاء ربه شهيدًا في ميادين القتال ضد أعداء الله، فأسمى ما كان يتمناه أن يختم حياته بالشهادة ويلاقي الله شهيدًا ليفوز بالجنة ويجاور النبي محمد صل الله عليه وسلم وأصحابه.
فرت الشهادة من محمد صالح عمر أمام العدو الصهيوني في جبهات القتال، فشاء الله أن يكرمه بالشهادة مع إخوانه السودانيين في جزيرة أبا، حيث لحق بها في بلاده ونالها أمام نظام عسكري ديكتاتوري يحكم بمشورة الشيوعيين الراغبين في ضرب الهوية الإسلامية ومحوها من البلد الذي أنجب مئات العلماء والآلاف من حفظة القرآن.