في رائعة الخيال العلمي لستيفن سبيلبيرج Minority Report ظهر توم كروز مُحركًا يديه برشاقة وخفة، يبحث عن أدلة أو يتحكم في سرعة مقاطع الفيديو عبر شاشات متعددة بشكلٍ سلس وجذاب. حسنًا لقد عاد الجزء الثاني من الفيلم، لكن هذه المرة، ستكون أنت البطل الذي يُمكنه فعل كل هذا بواسطة العين واليد والصوت، عبر نظارة آبل للواقع المختلط – Apple Vision Pro، ومُنافستها من شركة ميتا، Meta Quest 3.
ما لم تكن تعيش في كهف معزول أو أسفل صخرة في الصحراء، فبالتأكيد قد سمعت عن نظارة آبل فيجن برو، التي قال عنها رئيس آبل التنفيذي، تيم كوك، لحظة الإعلان عنها أول مرة خلال مؤتمر الشركة السنوي للمطورين WWDC23: “ستغير نظارة Apple Vision Pro الطريقة التي نتواصل ونتعاون ونعمل ونستمتع بها”.
نحاول في هذا التقرير الغوص أكثر في تجربة نظارة آبل فيجين برو، والإجابة على سؤال مستحق: هل هي فعلًا كما يسوّق لها: خطوة نحو المستقبل لمزيد من التواصل الفعال، أم أداة لعزلة اجتماعية ونفسية على مُستخدميها؟
نظارة Apple Vision Pro
أغلب المهتمين باتوا اليوم على معرفة وافية بجلّ مواصفات نظارة Apple Vision Pro، ورغم ذلك، إليك نبذة عما نتحدث عنه اليوم.
تأتي نظارة آبل فيجين برو بشاشة من نوع OLED أمام كل عين، وتعمل كلتا الشاشتين على عرض 23 مليون بيكسل، هذا يعني دقة أعلى من تلفزيون 4K، وبالتالي سوف يشعر المستخدم بأنه بالفعل داخل المكان أو الفيديو الذي يشاهده بفضل التصميم ثلاثي الأبعاد.
لكن هذا ليس كل شيء، فقد دعمّت آبل النظارة بمعالج M2 الخاص بها و12 كاميرا قادرة على التقاط مليار بيكسل في الثانية الواحدة لما يُحيط بالمستخدم، بالإضافة إلى 5 مستشعرات و6 ميكروفونات وشريحة R1، كل تلك الإمكانات جعلت من Apple Vision Pro قوة لا يستهان بها وتبدو كما لو كانت مزيجًا غامضًا من الابتكار والخيال العلمي في آن واحد.
قناع غطس وشاشة
تباينت آراء المستخدمين بشأن نظارة آبل فيجين برو، لكن الغالبية يرون أن النظارة عبارة عن ابتكار فريد من نوعه أو أعجوبة تكنولوجية.
بالنسبة لمخرج فيلم أفاتار، جيمس كاميرون، بعد تجربة آبل فيجين برو، كان رد فعله هو الانبهار بقدرة تلك التقنية الجديدة. أما صديقه جون فافرو فقد أبدى قدر الانبهار ذاته أو أكثر، وأوضح أنها ستكون نقلة في مجال السينما ورواية القصص والأفلام.
لكن مما لا شك فيه، أن صانع الآيفون الذي قدم لنا تلك الأعجوبة كان يستهدف فئة معينة من المستخدمين لشراء فيجين برو التي يبدأ سعرها من 3500 دولار، وهم الأثرياء ومدمنو التكنولوجيا، وجاء تبرير تيم كوك لهذا السعر المرتفع بما تقدمه النظارة من تقنيات مبتكرة ومدى الجهد الذي بذلته الشركة على مدار سنوات سابقة حتى قدمت لنا تلك التحفة الفنية التي يتوقع أن تهيمن على سوق الواقع المعزز والافتراضي وتقضي على آمال ميتا (فيسبوك سابقًا).
ورغم القدرات المبهرة بالداخل، فإنها من الخارج تبدو كقناع غطسٍ يُعيق الرؤية ويعزل مرتديها عن العالم الحقيقي. هذا بالضبط ما يفترض أن يفعله القناع، ومع ذلك فإن الشاشات بداخلها توفر 23 مليون بيكسل، ما يمنح المستخدم نافذة على العالم الخارجي، ورغم تذمر العديد بشأن تصميمها، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فكانت هناك مشكلة أخرى وهي الحجم.
يبلُغ وزن نظارة فيجين برو نحو 650 غرامًا تقريبًا، وتخيل معي أن ترتدي النظارة لفترة طويلة، سيكون الأمر مؤلمًا لوجهك بعد فترة، لهذا قالت الدكتورة كارولينا كروز (المعروفة على مستوى العالم بخبرتها في مجال الواقع الافتراضي) أنها خلال عملها في مجال الواقع الافتراضي لسنوات عديدة، يمكنها أن تدرك بأن نظارة آبل التي تشبه قناع الغطس تحتاج إلى تعديل وجعلها أقل حجمًا حتى يمكن اعتمادها على نطاق واسع.
بالطبع لا تزال نظارة فيجين برو هي الجيل الأول وسيكون مليئًا بالمشكلات التي سوف تعمل آبل على معالجتها في الإصدارات القادمة. لكن رغم كل هذا، هناك جانب أسود في الأمر.
التواصل.. قديمًا
“قاعدة بيانات شبكية تحتوي على عدد كبير من السجلات لأفراد مختلفين، يرتبط أولئك الأفراد ببعضهم البعض في قاعدة البيانات تلك من خلال علاقات محددة”.
كان هذا وصف شبكات التواصل الاجتماعي وفقًا لأندرو وينريتش، الأب الروحي لمنصات التواصل الاجتماعي، الذي كان وراء إطلاق أول نماذج مواقع التواصل عبر الإنترنت، Six Degrees عام 1997.
كان الهدف في البداية من مواقع التواصل الاجتماعي كما يتضح من المقولة في الأعلى، هو تسهيل عمليات التواصل بين الأصدقاء، حتى إن التقوا للمرة الأولى عبر هذه المنصات دون معرفة مسبقة، بل وكان هذا هو المقصد الأساسي من هذه الشبكات، الذي يجعلها أقرب إلى تطبيقات المواعدة، فلم يخطر على بال وينريتش أن يتواصل أصدقاء الجامعة أو العمل أو غيره عن طريق هذه المنصات، بل هم أشخاص لا يعرفون بعضهم البعض، وسيتواصلون معًا.
بمرور الوقت، وبعد انطلاق العديد من المنصات الأُخرى كـ Friendster و MySpace وغيرهما، وصولًا إلى Facebook، الأخ الأكبر لمنصات التواصل كافة، أصبح الأمر مختلفًا، فقد أصبح التواصل كله معتمدًا على هذه المنصات، لتقل التفاعلات الحية الفعلية بين البشر، ويصبح التفاعل بينهم عبارة أوجه تعبيرية ونصوص مكتوبة أو تسجيلات صوتية في بعض الأحيان.
وهنا يأتي سؤال مهم..
ألم يكن كل هذا كافيًا؟
“لا”، هكذا رد مارك زوكربيرج ضمنيًا عندما أعلن عن تحويل توجه شركته بالكامل من كونها شركة حاضنة لمنصات التواصل الاجتماعي، لشركة عاملة في مجال الميتافيرس والواقع الافتراضي والمختلط، ليصبح اسم الشركة في النهاية هو Meta، كنايةً عن الميتافيرس.
“في هذه الأيام، الواقع هو المشكلة، الجميع يبحث عن طريقة للهروب”.. ويد واتس، بطل رواية “Ready Player One” لإرنست كلاين.
ماذا لو أصبحنا جميعًا نرتدي النظارات؟ كيف سيصبح العالم بينما يمكنك الالتقاء بمن تريد وأنت في منزلك دون حركةٍ واحدة إلا من إصبعي السبابة والإبهام؟ لحظة، أليس هذا ما يحدث الآن بالفعل؟ الأمر الآن يصبح أبعد من ذلك بكثير.
وحيدًا .. في الميتافيرس
عاجلًا أم آجلًا، ومع تقدم السنوات والتقنيات، سيتم حل كل المشكلات الموجودة حاليًا في نظارة Apple Vision Pro، سواء الوزن أم السعر أم تسببها في آلامٍ في العين، ورغم أن للنظارة الكثير من الإيجابيات، كأن تفتح عالمًا من الفرص التعليمية الغامرة والمليئة بالدروس التفاعلية والرحلات الافتراضية ثلاثية الأبعاد في المجالات التعليمية، كما أنها توفر تجربة استثنائية تمامًا لمستخدميها سواء على المستوى المهني أم الشخصي؛ هناك مشكلة كبيرة، وهي كيفية تواصلنا مع العالم.
بعد أعوامٍ عدة من الآن، وبعد حل كل المشكلات التقنية الموجودة حاليًا في نظارات Apple Vision Pro أو غيرها مما ستُنتج الشركات، ستختلف حياتنا كثيرًا، أكثر بكثير مما حدث عندما اكتشفنا منصات التواصل الاجتماعي، بدايةً من انخفاض معدل الزيارات والمقابلات وجهًا لوجه، وحتى مشكلات الخصوصية وانتشار المعلومات المُضللة كالنار في الهشيم بسبب وجود مكانٍ يتسع للكثير من الأشخاص في آنٍ واحد لمشاركة ما يدور في ذهنهم، لكن ليست هذه فقط مشكلة النظارات الجديدة.
صممت آبل نظارتها لتصبح وسيلة للانعزال الاجتماعي، هذا ما يراه مارك زوكربيرج نفسه “مالك ومؤسس شركة ميتا” عندما قال: “جميع العروض التي قدمتها آبل لنظارتها يظهر فيها شخص يجلس على الأريكة بمفرده”.
في محاولة لإقناعنا بالتواصل مع أصدقائنا عبر نظارات ضخمة تُدعى Quest، يرى زوكربيرغ أن نظارة آبل لا تقدم تجربة التواصل التي يسعى إليها، ورغم سخرية هذه الرؤية، فإن مؤسس فيسبوك قد يكون محقًا بعض الشيء.
في الواقع، لم تفكر آبل بطرق لاستخدام نظارتها إلا في سياق الفرد المنعزل، حتى عندما حاولت أن تُضيف في إعلاناتها العنصر العائلي، وذلك عندما أظهرت أبًا يصور أبناءه باستخدام النظارة، ثم يجلس في نهاية اليوم وحيدًا على الأريكة يتصفح تلك الصور.
يُعد هذا السيناريو غير منطقي وغير عملي، فهو ينم عن شعور بالحزن والوحدة.
ومع ذلك، لم ينكر زوكربيرغ أن النظارة قد تكون مستقبل الحوسبة، لكنه أوضح أن ما يحاول تقديمه يختلف بشكل كبير، فهو يسعى إلى تقديم أساليب جديدة “للتفاعل” وهو ما تتجاهله آبل حاليًا.
وسائل الانعزال الاجتماعي
أُحاول كثيرًا تخيل حياتنا جميعنا ونحن نسير مرتدين النظارات ونرى بعضنا البعض عبر عدسات تجعلنا نتحكم في كيفية رؤيتنا لبعضنا البعض.
أتخيل أحيانًا أن يُصبح بإمكان كلٍ منا أن يرى الآخر كما يريد، فقد أصبح لديك القدرة على التحكم فيما تراه بواسطة النظارة، بل وأتخيل في أحيانٍ أخرى أن يرتدي شخصٌ ما نظارة الآخر، فيشاهد شريطًا مسجلًا لكل ما رآه مالك النظارة خلال اليوم. قد تفوق مخاطر نظارات الواقع الافتراضي ما يمكن تخيله.
“ما تراه، هو حقك وحدك”
ما تفعله الشركات الآن هو تقديم المزيد من المخاطر على الخصوصية، فبدلًا من مخاوفنا السابقة من اختراق خصوصية حساباتنا أو هواتفنا لتصبح المعلومات التي نشاركها – بمحض إرادتنا مع بعض الأشخاص – متاحة لمن لا نريد أن يطلعوا عليها، أصبح الآن الخوف أكبر، فما نراه، قد يصبح مُعرضًا للاختراق، وبسهولة.