“لو كنت تشعر باشمئزاز من مذاق الطعام الرديء والجوارب الملتصقة والثياب القذرة، فلا بد أنك تملك فكرة عما هو جيد، لا بد أنك تذكر وقتًا ما كانت الأمور مختلفة !”
يُعرّف الأديب المثير للجدل جورج أورويل نفسه، أنه من أسرة أعلى من المتوسطة، بالرغم من أنه كان يَعرِف في سنين عمره الأولى أنه “قادم من بيت فقير”. فأسرة “أورويل” ألحقته بمدرسة “الدير” حين وصل للخامسة من عمره لأنها لا تستطيع تأمين مصروفات الدراسة في مدرسة حكومية، ثم عادت لاحقا وبعد معاونة خاله ومدير مدرسة “سانتا قبرص” الحكومية، ونجحت في الحصول له على منحة دراسية تتكفّل بنصف المصروفات الدراسية. فبالرغم من كونه سليل أسرة محترمة وعريقة، إلا أن الثراء لا ينتقل عبر الأجيال كما يفعل الاحترام.
استكشاف الفقر عن قرب
في نهاية عام 1927، قرر “جورج أورويل” ترك بيت أهله وخرج ليعيش في غرفة في شارع بورتوبيللو في لندن، من أجل أن يستكشف بنفسه عالم الفقر ويُمارس الـSlumming أو السياحة في الأحياء الفقيرة.
ثم عاد في ربيع العام 1928 وقرر شد الرحال إلى باريس، من أجل يُكمل سياحة التشرد والبؤس ويعمل في غسيل الصحون وينام في التوابيت الخشبية؛ وتمادى في تجربة الفقر لدرجة أنه حين أصابه المرض، أدخل نفسه مستشفى مجاني يتدرب فيها طلبة الطب ليعرف فقط “كيف يموت الفقراء؟”.
غلاف إحدى الطبعات الإنجليزية من الرواية
وفي عام 1930، قرر أن يدون هذه التجربة الصعبة في روايته “متشردًا في لندن وباريس”.. تلك الرواية التي صدرت طبعتها المترجمة إلى العربية الأولى، عن دار المدى في العام 1997، باحترافية على يد الشاعر العراقيّ “سعدي يوسف”.
لم يُعلن “أورويل” أبدا أو يسر لأحد، لماذا ترك حياته وخرج ليختار هذه التجربة الصعبة وحياة الصعلكة والبؤس، لكن يبدوا واضحًا لمن يعرف خط حياة “أورويل” أن هذه الفترة كانت نوع من أنواع التطهر .
فأورويل كان قد عَمِل لفترة كضابط في الشرطة الإمبراطورية الهندية في بورما، مما أدى إلى تغيير أفكاره ومعتقداته نتيجة لعمله في الشرطة الاستعمارية، فما كان منه إلا أن تمرد على الوضع وقدّم استقالته وخرج إلى الأحياء الفقيرة لينضم إلى صفوف الفقراء ويرتدي أحذيتهم، وينام في فراشهم.
“إن أحياء باريس الفقيرة مَجمع للناس غريبي الأطوار – إنهم قوم سقطوا في مهاوٍ للحياة، منعزلة، شبه مجنونة، وتخلّوا عن محاولة أن يكونوا عاديين أو معقولين. لقد حررهم البؤس من المقاييس المألوفة للسلوك، تمامًا مثل ما يُحرر المال الناس من العمل.”
الارتطام الحقيقي بالبؤس وشظف العيش
يفتتح “أورويل” هذه الرواية بسرد موقف حياتيّ عاديّ الحدوث في درب الديك الذهبي، ثم يعود ويُعرّف القارئ على سُكّان نُزل العصافير الثلاثة الذي كان يعيش فيه في باريس، لأنهم جميعا جزءًا من قصته، ولأن الحياة في الحي الفقير القذر تحوّلت من كونها درسًا موضوعيًا عن البؤس إلى خلفية تجاربه الخاصة.
غلاف إحدى الطبعات المترجمة إلى العربية من الرواية
تلك التي تصوّر ارتطامه بالبؤس الحقيقي حين اضطر للعيش بست فرنكات في اليوم بعدما توقّف عن العمل وسُرقت نقوده. ذلك الارتطام الذي يدفع صاحبه لنسج شبكة من الأكاذيب حول نفسه. فمن الصعب أن تعترف بوضعك الحالي ومدى ضنك العيش الذي وصلت إليه. فتظل طوال اليوم تُطلق الأكاذيب والأكاذيب غالية ومُكلّفة.
“تتوقف عن إرسال ملابسك إلى محل التنظيف وحين تلتقيك الغسّالة في الشارع لتسألك عن السبب فتُغمغم شيئًا وهي تظن أنك ترسل ملابسك إلى غيرها، فتصير عدوّك للأبد. هناك خطابات تنتظر رد، وأنت لا تُجيب لأن الطوابع غالية. ثم هناك وجبات الطعام – والوجبات هي أسوأ المصاعب في هذا كله. أنت تخرج كل يوم مع مواعيد الوجبات متظاهرا بالذهاب لمطعم لكنك تجول بالشوارع، بعد ذلك تنسلّ إلى مسكنك وطعامك في جيبك. طعامك خبز ومارجرين أو خبز وخمر. حتى طبيعة الطعام تتحكم بها الأكاذيب. عليك أن تشتري خبز الجويدار بدلا من الخبز المنزلي المعهود، لأن أرغفته مستديرة ويمكن تهريبها في جيوبك، لكن خبز الجويدار أغلى، وأنت بهذا تخسر فرنكا كل يوم”.
عبيد العالم الحديث
فيما بعد؛ ينحدر الحال أكثر بـ “أورويل”، فكاتب المقالات الإنجليزي ومعلّم اللغة، اضطر لرهن كل ملابسه ليجد فرانكًا واحدًا يُقيم به أوده، بعدما مرت عليه أيامًا كاملة لم يتذوق فيها الطعام مطلقًا.
لنتجول في هذه الرواية مع “أورويل” داخل مكاتب الرهن، ونشهد محاولات الاقتراض، ونُصاب معه بالتعب خلال رحلة البحث غير المجدية عن عمل، تلك الرحلة المضنية التي رافقه فيها صديقه الروسيّ “بوريس”.
“أنت لا تحصل على شيء مقابل لا شيء.. إنهم لا يعطونك حتى كوب شاي ببنسين بدون أن تركع”
تلك الرحلة الشاقة التي أوضحت لأورويل أن عدم الاستحمام أو حلاقة الذقن أو غسيل الشراشف قد يصبح أمرا ممكنًا، أما الصبر على الجوع، فأمر يكاد يكون مستحيلا، فـ”الجوع يحط من المرء حتى يغدو بلا حول ولا عقل، كأن الإنسان تحوّل إلى إحدى الرخويات”.
كما شاركناه عمله البائس المزري كغاسل صحون في فندق (س) قرب ساحة الكونكورد، هذه الوظيفة التي يصف أورويل أصحابها أنهم عبيد العالم الحديث.. فعملهم ذليل وبلا فن ويظلون بلا حرية أكثر مما لو كانوا يُباعون ويُشترون في سوق النخاسة.
لم يبلغ من البؤس إلا حافته!
في باريس، لم يكن الحال أفضل مما هو عليه في لندن، ففي أول ليلة له فيها، سكن في نُزل عائلي قذر وطَرق مكاتب الرهن ليعرض عليهم ملابسه الجيدة في مقابل أخرى رديئة وفرق المال. وبالرغم من أنه كان قد جرّب حياة الفقر والعوز في لندن، إلا أن حياة التشرد كانت مختلفة ومخيفة جدا في باريس. ليختبر “أورويل” حياة التسكع والتشرد والبيات في الملاجئ العابرة التي تمنح فطورًا لهؤلاء المشردين ويزور الكنائس التي تُعطي كعكًا وشايًّا مقابل تلاوة الصلوات.
“أنت لا تحصل على شيء مقابل لا شيء. إنهم لا يعطونك حتى كوب شاي ببنسين بدون أن تركع”، هذا ما قاله أورويل قبل أن يتنقل بين ملاجئ المشردين ويعيش فيها مع “بادي” صديقه الذي يُعرّفه في الرواية بالتفصيل، لأنه أول مشرد تعرف إليه.
“قصتي تنتهي هنا، إنها قصة تافهة تماما، وفي الوقت الحاضر.. أشعر أني لم أعرف من البؤس إلا حافته”
في نهاية الرواية، يتتفهم تعريف “إيريك بلير” الشهير بـ “جورج أورويل” نفسه، أنه من أسرة فوق متوسطة. فصور ضيق الحال وعدم قدرة الأسرة على التكفل بمصروفات دراسة الأبناء والأزمات المادية اليومية التي عانت منها أسرته، لا يمكن أن تقارن أبدا بحياة البؤس والتشرد الحقيقية التي اختبرها “أورويل” في تلك الفترة العصيبة التي اختار خوض غمارها بنفسه، على عكس هؤلاء الذين أتوا إلى الحياة ولم يجدوا مسلكا آخر متاحا لهم، غير التشرد والبؤس وشظف العيش.