الذين لا يريدون محاكاة الأشياء لا ينتجون شيئا. مبدأ أساسي واختبار صلاحية سياسية لا تستحوذ أغلب الحركات الإسلامية على أية إجازة فيه، والمحاكاة هنا مقصود بها التفاعل الإيجابي في الأحداث السياسية الكبرى، التي عادة لا يتفق الإسلاميون على كلمة واحدة فيها وخاصة المصيرية منها. بإمكانك التأكد من ذلك بالبحث في خلفيات مواقف إسلاميي كردستان الذين يتبعون حرفياً نفس فرضيات أقرانهم في الأقطار العربية كافة، لا مبادرة ولا شراكة حقيقة على أرضية وطنية وليست دينية في أية تصورات مستقبلية.
انقسام في الشارع الإسلامي
التيار الإسلامي في كردستان العراق كان على خلاف وانقسام بين مؤيد ومعارض للاستفتاء، فهناك جبهة تضم الاتحاد الوطني والاتحاد الإسلامي والحزب الديمقراطي الكردستاني، تعتبر مؤيدة له، وهناك جبهة أخرى معارضة للاستفتاء تضم حركة التغيير والجماعة الإسلامية.
محاولات على استحياء جرت لنسج وجهة نظر واحدة يتفق عليها الأحزاب الإسلامية كافة، ولكن عجزت المبادرات التي طُرحت عن إيجاد رؤية واضحة تعبر عن التيار الإسلامي العريض بالإقليم، الأمر الذي دفع مسؤول منظمة بدر فرع الشمال، القيادي التركماني محمد مهدي البياتي، لإطلاق تصريحات غاضبة هاجم فيها الأحزاب الإسلامية قائلا: “يا من تدعون أنكم تطبقون الشريعة الإسلامية دون غيركم، هل سمعتم تصريح مسعود البارزاني الأخير، يريد تقسيم العراق، أليس عارا أن ينقسم العراق في زمانكم؟”.
يرى بعض المختصين في شؤون الإسلام السياسي، أن الاتفاق على موقف موحد للإسلاميين باختلاف طوائفهم ومرجعياتهم في كردستان لن يكون بالأمر السهل، في ظل تبعية الجماعة الإسلامية لإيران، واتخاذ حزب الاتحاد الإسلامي ــ النسخة الإخوانية في الإقليم ــ موقفًا مضادًا للجماعة، مما يفشل مساعي توحيد الصوت الإسلامي الواحد، ويعود بمحاولات الاتفاق إلى نقطة الصفر بسبب تصادمها مع نفوذ وقوة القيادات الفعلية للجماعات الإسلامية من خارج كردستان.
إسلاميو كردستان يتبعون حرفياً نفس فرضيات أقرانهم في الأقطار العربية كافة، لا مبادرة ولا شراكة حقيقة على أرضية وطنية في أية تصورات مستقبلية
وتناصر الجماعة الإسلامية بشكل رسمي رفض الاستفتاء، بينما كان حزب الاتحاد الإسلامي، يشارك في اجتماعات رئيس الإقليم مع الأحزاب الكردية قبل عام، والتي نتج عنها تحديد موعد الاستفتاء في ظل غياب الجماعة الإسلامية.
خلاف ممتد بين الإسلاميين
ترجع جذور الإسلاميين في كردستان العراق إلى خمسينيات القرن الماضي كامتداد طبيعي للإخوان المسلمين في مصر، ولكنهم ظلوا بلا هدف سياسي حتى أواخر السبعينات، وهي المرحلة التي شهدت أولى لبنات تأسيس الحركة الإسلامية بطموحها السياسي وتحديداً في عام 1978، إلا أن التطبيق غير الصدامي للتجربة الإسلامية لم ينتشر بشقيه السني والشيعي إلا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي؛ ويتشكل حاليا مجموعة من الأحزاب والقوى التي تبحث عن موقع ثابت لها في الخريطة السياسية لأحزاب تتنافس بقوة على تصدر المشهد السياسي.
وكان لانتهاء الحرب التي نشبت بين الحزبين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني، والتي اندلعت بين عامي 1994 و1998 أبلغ الأثر في انشطار الأحزاب الإسلامية، والتي تحولت فيما بعد إلى التكتل داخل أحزاب حركة النهضة الإسلامية من ناحية، والجماعة الإسلامية وجماعة جند الإسلام المتشددة التي تحولت في ما بعد إلى جماعة أنصار الإسلام. من جانب آخر، وبعد مفاوضات شاقة للم الشمل وتجاوز الخلاف، اتحدت بالفعل الحركة الإسلامية مرة أخرى مع حركة النهضة، وشكلا معًا حركة الوحدة الإسلامية، بزعامة الملا علي عبد العزيز.
أكثر الإشكاليات جدلا وصعوبة في التحديات التي تواجه الأحزاب الإسلامية بالإقليم ربط الهوية الدينية بأسمائها
وعلى الرغم من اعتماد حركة الوحدة الإسلامية مفاهيم الجهاد والشورى، إلا أنها بلورت أفكارها وصارت أكثر براغماتية، وانخرطت بقوة في العملية السياسية والانتخابية خلال السنوات الأخيرة، وشاركت في الحكومة القائمة حاليًا في الإقليم، ورغم القوة الآخذة في التمدد لحركة الوحدة إلا أن حزب الاتحاد الإسلامي، فرع الإخوان في كردستان لازال يحتفظ بقوته ويقف في المرتبة الرابعة من حيث الحجم والنفوذ بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير.
تباين في العلاقة مع القوميين الأكراد
رغم ابتعاد الإسلاميين عن العنف، وتطور آلياتهم بشكل ملفت إلا أن الخلافات مع القوميين دائما ما تحمل تصعيدا يأخذ منحى متشدد، فعند محاولات تحديد طبيعة الحكم في كردستان، كانت الأحزاب الإسلامية تمثل أزمة كبرى خلال مناقشة البرلمان الكردي لدستور الإقليم، بعدما أصرت على التمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية بشكل متكامل، وذلك في الوقت الذي كانت الأحزاب القومية تتمسك بكتابة دستور يحمي الحقوق المدنية وحقوق القوى المختلفة والطوائف الدينية والمذهبية في البلاد؛ وبقيت حرب «الأيدلوجيا» حاضرة، تقفز على السطح كلما صعد الخلاف بين أربيل وبغداد إلى السطح.
نفس الأفكار قادت الإسلاميين إلى عدم الاستفادة من انتفاضة الأكراد ضد نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، والتي كانت صاحبة تأثير على تغير بنية الفكر الكردي، واستغلت الأحزاب القومية الأزمة لتبدأ من وقتها في اقتحام الساحة السياسية على آمل المشاركة في السلطة والحكم، ولم نشغل الأحزاب والحركات الإسلامية نفسها إلا بمحاولات لا تمل ولا تتوقف لإقناع المجتمع بشتى الصور بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية انطلاقا من الحرب الداخلية التي اندلعت بين الحزب الرئيسيين في الإقليم “الديمقراطي والاتحاد الوطني”، ما يعني سوء عاقبة الطرح القومي في مواجهة الإسلامي.
نسبيًا زاد حضور الإسلاميين خلال تلك الفترة، إلا أن المكاسب لم تستمر كثيرًا بسبب الانقسامات والتحارب الذي جرى بينهم، وانجرار بعضهم خلف ولاءات خارجية مثل جماعة أنصار الله التي انضمت لتنظيم القاعدة ثم “داعش” من بعده، مما كان له أبلغ الأثر على تراجع شعبية الإسلام السياسي في الإقليم.
ويتوقع بعض الخبراء الكردستانيين في شؤون الإسلام السياسي، تراجع الأحزاب والحركات الإسلامية وانكماشها أكثر من ذلك، لأنها حتى الآن لا تحمل حلمًا جماهيريًا، بحسب تأكيد سوران سيوكاني أحد أهم الباحثين هناك، حيث أن الأحزاب الإسلامية لم تقدم أي شيء للناس حتى ينظر إليهم كبدلاء للوضع السياسي القائم، فمواقفهم برأيه دائما ما تكون ملحقًة وتابعة للأحزاب الأخرى، وليسوا أصحاب مبادرة وقرار حر.
ترجع جذور الإسلاميين في كردستان العراق إلى خمسينيات القرن الماضي كامتداد طبيعي للإخوان المسلمين في مصر، ولكنهم ظلوا بلا هدف سياسي حتى أواخر السبعينيات
وما يعزز مشكلة الإسلاميين أيضا بحسب الدكتور عرفات كريم الباحث والنائب الكردي، أنهم لا يدركون حتى الآن أن مشكلة كردستان ليست مشكلة دين، بل قومية ووطن وليست أزمة إسلامية، فالشعب الكردي مسلم اعتنق الإسلام في السنة الثامنة عشرة من الهجرة في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وما زال ملتزما بالإسلام حتى الآن. لكن وجود إسلام سياسي بحسب رأي “كريم” شيء إضافي، وهو محل بحث لهم في ظل سعيهم الدائم لإيجاد نسخة ذاتية في كل شيء حتى في الإسلام، ويضيف: “نريد إسلاما كرديًا نفّسره ونحلله ونختار منه ما يصب في مصلحة الشعب الكردي، كما هو الحال في ماليزيا، فهناك إسلام ماليزي، وفي أوروبا إسلام أوروبي، وفي مصر إسلام مصري”، على حد تعبيره.
ارتباط أسماء الأحزاب بالدين وليس الدولة
أكثر الإشكاليات جدلا وصعوبة في التحديات التي تواجه الأحزاب الإسلامية بالإقليم، ربط الهوية الدينية بأسمائها، وهي قضية باتت محل ضيق للأكراد وتتسع موجات النفور يوما بعد الأخر، وبالتالي مجرد التفكير في التحول إلى أسماء ذات صبغة قومية تماشيا مع النبرات الوطنية المسيطرة حاليًا على كردستان، معناه تخزين الإسلاميين في “معلبات قومية” ملحقة بالفناء الخلفي للحزب الديمقراطي والاتحاد الوطني الكردستاني، خاصة أنهما يواصلان العمل بأدبيات متعارف عليها منذ زمن بعيد.
وفي حال إقدام الإسلاميين على حذف الهوية الإسلامية من أسماء الأحزاب المعبرة عنهم، لن يكون هناك مؤيدين لهم، وبالتالي الحل الوحيد المتبقي هو الذوبان في المدنية على غرار الأحزاب المدنية الموجودة في تركيا، مع تطوير أهدافهم وخطابهم الدعوي والوطني، غير ذلك لن تكون الأحزاب الإسلامية بكردستان أكثر من كيانات صفيحية، تحدث صوتا مزعجاً دون مضمون واضح.