استقبل الرئيس التركي أردوغان مساء أمس الخميس، نظيره الروسي بوتين في مراسم رسمية في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة وعقدا بعدها اجتماع ثنائي، تناولا فيه بعض الملفات المهمة تتعلق بالملف السوري والعراقي إضافة لعدد من القضايا البينية كإنشاء مفاعل “أك كويو” النووي في تركيا.
تأتي هذه الزيارة بعد نحو أسبوعين من إعلان أردوغان عن عقد ضخم للتسلح مع روسيا يتعلق بشراء منظومة الدفاع الجوي “إس – 400” وهو ما أثار قلق دول حلف الناتو من هذه الصفقة وعلى رأسها الولايات المتحدة وألمانيا.
على أية حال، فتركيا مهتمة جدًا بمالموقف الروسي مما يحصل في المنطقة في المرحلة المقبلة وتريد أن تستشرف معها هذه المرحلة فيما يخص ملفي سوريا والعراق، وضمانة وجودها إلى جانبها بما يخص عدم تفكيك المنطقة وتقسيمها، وهذا ما جعل الملفين السوري والعراقي يأخذان حيزًا كبيرًا في الزيارة التي استمرت ليوم واحد.
حيث ذكر الرئيس التركي أنه والرئيس الروسي “أكدا على أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية والسورية والتزامهما مواصلة الإرادة المشتركة والتعاون الوثيق حيال الأزمة السورية بالطرق السياسية”. كما انتقد الرئيس التركي استفتاء كردستان بالقول إنه “لا يحق لأحد الزج بمنطقتنا في النار وتصعيد التوتر من أجل مصالح شخصية قصيرة المدى”.
ملف إدلب على الطاولة
هيمن ملف إدلب على طاولة النقاش بين الزعيمين الروسي والتركي في أنقرة، وكان بوتين قبل زيارته أمس إلى أنقرة قد شدد خلال اتصال هاتفي مع أردوغان، يوم الإثنين الماضي على أن تطبيق مناطق “خفض التوتر” في سوريا يمكن أن يمهد لتسوية سياسية للنزاع. وعاد بوتين ليشدد في الزيارة أن تشكيل مناطق “خفض التوتر” في سوريا أعطت زخمًا لمباحثات جنيف، مؤكدًا أن اتفاق مناطق خفض التوتر “كان صعبًا، لكننا حققنا نجاحًا كبيرًا بفضل مبادرات الرئيس أردوغان” بحسب تعبيره.
وسعى أردوغان في لقائه ببوتين للحصول على دعم روسي للإسراع بتنفيذ اتفاق منطقة خفض التوتر في إدلب بالاتفاق مع إيران، والصورة النهائية التي ستكون عليها وطريقة نشر القوات فيها. كما ناقش معه إقامة منطقة جديدة لخفض التوتر في عفرين ومحيطها.
أربيل تأمل بمساعدة روسيا من أجل تصدير النفط عبر الأراضي السورية في حال قررت تركيا إغلاق الأنابيب القادمة من الإقليم بالكامل على خلفية الاستفتاء الأخير.
إلا أن الأحداث الجارية على مدى العشر أيام الأخيرة في إدلب أثارت قلق الأتراك بما يخص تطبيق الاتفاق على منطقة “خفص التصعيد” الرابعة في سوريا واتفاقات أستانة برمتها. إذ أعلنت الخارجية التركية أن القصف الروسي في الآونة الأخيرة في إدلب عن مقتل مدنيين ومقاتلي معارضة معتدلين معتبرة أن الأمر انتهاك لاتفاق أستانة. إذ أدت الغارات الروسية على إدلب بمقتل نحو 150 شخصًا ودمارًا كبيرًا في البنية التحتية وإخراج العديد من المشافي والمراكز الصحية في إدلب وريف حماة الشمالي عن الخدمة، بعد عشر أيام من التصعيد والقصف المتواصل على المنطقة.
وقد تزامن لقاء الزعيمين الروسي والتركي أمس الخميس، مع التوصل إلى اتفاق ينص على وقف إطلاق النار في محافظة إدلب والشمال السوري، ونص الاتفاق وفق المصادر، على وقف القصف الروسي وكافة الأعمال القتالية عند الساعة الثانية عشرة منتصف ليل الخميس بالتوقيت المحلي.
ولكن ما إن رحل بوتين عن أنقرة حتى عاود الطيران الحربي الروسي فجر اليوم الجمعة، استهداف مناطق في ريف إدلب موقعًا قتلى وجرحى من المدنيين، ناسفة بذلك الاتفاق الجديد لوقف إطلاق النار والقديم المتعلق بأستانة. وقد أدى القصف الروسي المتواصل على إدلب بالمجتمع التربوي التابع للمعارضة في مدينة جسر الشغور لإعلان تعليق العمل بالدوام المدرسي بعد تعرض مدارس في المدينة لغارات بشكل مباشر. كما أعلن المجلس المحلي في بلدة بداما، أن البلدة وما حولها، باتت منطقة منكوبة، جراء التصعيد الجوي الروسي والصاروخي من قوات النظام.
هناك لبس وعدم توافق بين الروس والأتراك فيما يخص ما يجري في إدلب، وتعدى ذلك إلى فرنسا والأمم المتحدة حيث نددت وزارة الخارجية الفرنسية أمس الخميس بالقصف الجوي السوري والروسي للمدنيين في إدلب وحماة، وطلبت من روسيا الالتزام بتعهداتها للحد من العنف في المنطقة، كما أعربت الأمم المتحدة أول أمس الأربعاء عن صدمتها الشديدة إزاء غارات استهدفت مدارس ومستشفيات ومراكز للنازحين.
تسعى روسيا للاستحواذ على أحد أهم حلفاء واشنطن في العراق، من واقع منافسة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، إضافة إلى المنافسة معها على المياه الدافئة
ترى تركيا أن القصف الروسي يستهدف أهداف مدنية، في حين أن الجيش الروسي نفى ذلك وقال، إيجور كوناشينكوف، المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع الروسية، الثلاثاء الماضي “المقاتلات الروسية والسورية لم تهاجم أي تجمعات سكانية”، وأوضح أن المقاتلات الروسية قصفت، بناء على معلومات استطلاعية، عشرة أهداف لإرهابيين في إدلب.
ويبدو أن استمرار الروس في القصف على إدلب وخرقها للاتفاق الجديد يشير إلى استفزاز أنقرة من جهة، فموسكو تريد أن يكون الوجود التركي مقتصرًا على المراقبين فقط في حين أن أنقرة تتمسك بتوغل بري للقضاء على “هيئة تحرير الشام” التي تضم فصائل بينها “جبهة النصرة”، ويكمن تفسير الصدود الروسي في عدم إنجاح اتفاق أستانة في إدلب إلى مساعي النظام السوري لاستعادة المحافظة من المعارضة، وهذا لا يخالف التوجهات الإيرانية بالمحصلة، في حين أنه يختلف بشدة مع التوجهات التركية التي تحتضن المعارضة السورية ولا تزال متمسكة بخيار رحيل الأسد.
الملف الآخر كردستان العراق
عبر بوتين في اتصال هاتفي مع أردوغان سابقًا عن رفضه انفصال إقليم كردستان عن العراق، وقد أكد الزعيمان في لقاءهما بالأمس على أهمية الحفاظ على وحدة الأراضي العراقية والسورية، وشدد أردوغان أن “المنطقة باتت أكثر هشاشة والاستفتاء في شمال العراق لا يحمل أي شرعية وفق الدستور العراقي والقانون الدولي”، مشددًا على أنه يجب منع حكومة إقليم كردستان من ارتكاب أخطاء أكبر.
هناك مخاوف من الجانب التركي أن الروس قد يذهبون في مراعاة علاقتهم مع الأكراد كورقة ضغط ممكن استثمارها مع تركيا، ومزيد من التطور على حساب الأمريكيين.
مع كل التأكيد الصادر من روسيا لتركيا من موقفها حيال استقلال كردستان العراق، إلا أن الموقف الروسي كان الأقل حدة في معارضة الاستفتاء مقارنة مثلا بالموفق الإيراني والتركي والأمريكي أيضًا. وربما كانت دعوة أردوغان لنظيره الروسي للتأكد من اللهجة الفضفاضة التي حول هذا الملف، فالمتحدث الصحفي للرئيس الروسي بوتين عبر عن موقف أقرب للحياد عندما قال “نحن ندعم وحدة أراضي دول المنطقة، لكننا لا نريد إعلان قرارنا بخصوص الاستفتاء حاليًا”.
أشار محللون أن موسكو تحاول أن تكون أكثر مرونة مع طموحات الكرد القومية، ويذهب البعض أنه قد يكون هناك رغبة لدى الكرملين بدعم إقامة دولة كردية، كما نقل مثلا عن عضو في الرئاسة الروسية للجماعات الإثنية، قوله عن الكرد “ستكون لهم دولتهم عادلا أو آجلا بشكل أو بآخر”.
اجتماع مسؤولين أكراد من شمال العراق مع بوتين
وتسعى روسيا للاستحواذ على أحد أهم حلفاء واشنطن في العراق، من واقع منافسة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، إضافة إلى المنافسة معها على المياه الدافئة. فالتمدد الروسي في سوريا والعراق لا يقف أمامه سوى النفوذ الأمريكي بين القوى الكردية الانفصالية شمال سوريا وكذلك العلاقات الوطيدة مع أربيل.
قد يكون هناك رغبة لدى الكرملين بدعم إقامة دولة كردية
كما تعتبر روسيا أن نمو العلاقة بين الأكراد وموسكو سيمنح الأخيرة ملعبًا جديدًا للمناورة مع دولة إقليمية هي تركيا، وتدخل أيضًا العلاقات الاقتصادية في هذا السياق، إذ تتحول موسكو تدريجيًا لأكبر مصدر للسيولة المالية في الإقليم من خلال النشاطات الاستثمارية التي تقوم بها الشركات الروسية البارزة مثل “روسنفط” و “غاز بروم”، ومن المقرر أن يتم توقيع عقد شركة “روسنفط” اتفاق مع الإقليم لتمويل وبناء خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي لتركيا بقيمة مليار دولار مع ذكر أنها الصفقة الثالثة لنفس الشركة مع إقليم كردستان بقيمة تتجاوز 4 مليارات دولار في صفقات تم عقددها خلال الأشهر الماضية.
وأشارت تحليلات أن موسكو تحاول أن تسد الفجوة في الإقليم مع تراجع الولايات المتحدة في العراق، كما لمح محلل سياسي كردي من إقليم شمال العراق إلى أن أربيل تأمل بمساعدة روسيا من أجل تصدير النفط عبر الأراضي السورية في حال قررت تركيا إغلاق الأنابيب القادمة من الإقليم بالكامل على خلفية الاستفتاء الأخير.
لذا قد يكون هناك مخاوف من الجانب التركي أن الروس قد يذهبون في مراعاة علاقتهم مع الأكراد كورقة ضغط ممكن استثمارها مع تركيا، ومزيد من التطور على حساب الأمريكيين.