كشف رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، الجمعة 23 فبراير/شباط 2024، عن بنود الاتفاق الذي وقعته القاهرة مع أبو ظبي بشأن مشروع منطقة “رأس الحكمة” بمحافظة مطروح (شمال مصر)، التي ستستحوذ عليها الإمارات نظير سدادها مبلغ 35 مليار دولار خلال شهرين، في صفقة هي الأكبر منذ بداية انتهاج الحكومة المصرية سياسة “بيع أصول الدولة” منذ عام 2019.
الصفقة التي وقعها وزير الإسكان المصري عاصم الجزار، ممثلًا عن هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة، ووزير الاستثمار الإماراتي محمد ﺣﺴﻦ اﻟﺴﻮﻳﺪي، ممثلًا عن شركة أبو ظبي القابضة (ADQ) (أحد أفرع صندوق الثروة السيادي بالإمارات)، وبحضور مجموعة من المسؤولين ورجال الأعمال المصريين والإماراتيين، في مقدمتهم محافظ البنك المركزي المصري حسن عبد الله، ووزير السياحة والآثار أحمد عيسى، ورجل الأعمال (المقرب من الإمارات) هشام طلعت مصطفى، تشير إلى بلوغ حجم الاستثمارات التي من المتوقع أن تُضخ في المشروع 150 مليار دولار على مدار تنفيذه (غير محدد المدة).
تأتي تلك الخطوة في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري واقعًا مأزومًا، نتيجة الأزمة الدولارية التي يواجهها منذ سنوات، وبلوغ الدين الخارجي مستويات قياسية (قرابة 165 مليار دولار)، وفشل السياسات الاقتصادية والمالية في توفير الحلول العاجلة، ما دفع الحكومة المصرية إلى اللجوء لإستراتيجية بيع أصول الدولة لإنعاش الخزانة العامة بالعملة الصعبة التي تساعدها في إنقاذ الاقتصاد من مأزقه الحاليّ.
ومنذ الإعلان عن تفاصيل هذا الاتفاق انقسم الشارع المصري على منصات التواصل الاجتماعي إلى فريقين: أحدهما يرى في تلك الصفقة إنجازًا يحسب للنظام الحاليّ، وخطوة باتجاه تحسن الأوضاع والقضاء نهائيًا على أزمة الدولار، فيما شكك الفريق الآخر في بنودها، معتبرًا أنها استمرار لسياسة الحلول السهلة التي تتبعها الحكومة، حيث بيع الأصول القيمة لسد العجز المتفاقم، فيما أثاروا العديد من التساؤلات عما حوته الصفقة من غموض وتباين في الأرقام، فيما كان اختيار الإمارات تحديدًا مسألة مثيرة للريبة لدى فريق كبير من المتابعين.
تفاصيل الصفقة
وفق ما جاء في كلمة رئيس الحكومة المصرية فإن الصفقة تتضمن شقين:
الأول: الشق التنفيذي.. فالمشروع الذي يقوم على مساحة 170.8 مليون متر مربع، أي ما يزيد على 40600 فدان، من المقرر أن يضم أحياءً سكنيةً للمستويات كافة، وفنادق عالمية، ومنتجعات سياحية، ومشاريع ترفيهية عملاقة، إلى جانب مدارس وجامعات ومستشفيات ومبان إدارية وخدمية، ومنطقة مركزية للمال والأعمال، ومارينا دولية كبيرة لليخوت والسفن السياحية، كما يتضمن كذلك إنشاء مطار دولي جنوب مدينة رأس الحكمة، بحيث يمكن للمدينة أن تستوعب نحو 8 ملايين سائح إضافي سنويًا، حسب مدبولي.
الثاني: الشق المالي.. وينقسم إلى قسمين، الأول: أن تحصل مصر بشكل مباشر ونقدي على 35 مليار دولار، 15 مليار منهم خلال أسبوع (10 مليارات + خصم 5 مليارات من الوديعة الإماراتية لدى البنك المركزي المصري البالغة 11 مليار دولار) و20 مليار بعد شهرين (14 مليار + 6 مليارات المتبقية من الوديعة)، أما القسم الثاني فخاص بالأرباح، حيث تحصل مصر على نسبة 35% من أرباح المشروع بعد تنفيذه، فيما يستحوذ الإماراتيون على 65%.
أما الإعلان الرسمي من الجانب الإماراتي، فحسبما نقلت وكالة الأنباء الإماراتية الرسمية (وام) عن شركة “القابضة” في أبو ظبي أنها ستستحوذ على “حقوق تطوير مشروع رأس الحكمة مقابل 24 مليار دولار بهدف تنمية المنطقة لتصبح واحدة من أكبر مشاريع تطوير المدن الجديدة من خلال ائتلاف خاص”، مضيفة أنها ستحول “11 مليار دولار من الودائع التي سيتم استخدامها للاستثمار في مشاريع رئيسية في جميع أنحاء مصر لدعم نموها الاقتصادي وازدهارها”.
رأس الحكمة أضخم صفقة استثمار إماراتية ستضخ 35 مليار دولار في مصر خلال شهرين.#العربية_مصر pic.twitter.com/DFSQDYUJs0
— العربية مصر (@AlArabiya_EGY) February 23, 2024
وعن مصير سكان تلك المنطقة، قال رئيس الحكومة المصرية: “الدولة المصرية ملتزمة تجاه أهالي مطروح الموجودين على هذه الأرض المخصصة للمشروع بتعويضهم تعويضًا كاملًا نقدًا وعينًا، وأنا أؤكد كي لا يُثار أي لغط في هذا الموضوع، أننا ملتزمون التزامًا كاملًا ونحن أحصينا كل الموجودين على هذه الأرض وكل المباني وكل الأراضي الزراعية”.
جدير بالذكر أنه منذ فترة أوفد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وزير النقل كامل الوزيري للجلوس مع أهالي رأس الحكمة والتفاوض معهم بشأن التنازل عن أراضيهم وبيوتهم نظير مبلغ تعويضي يقدم لهم، ورغم اعتراض البعض على فكرة المقايضة ومغادرة مساكنهم، فإن الأمر تمت تسويته بشكل أو بآخر.
غموض وشكوك.. تساؤلات مشروعة
الأجواء التي غلفت الصفقة والبنود التي تضمنتها والمسكوت عنه في تفاصيلها أثارت الكثير من الشكوك والتساؤلات لدى البعض في محاولة لفهم المشهد بصورة أكثر دقة، ومن أبرز تلك النقاط المثيرة للريبة:
– تباين الأرقام المعلنة بشأن مقابل الصفقة بين الإعلان المصري ونظيره الإماراتي، فتقول الحكومة المصرية إن قيمة الصفقة 35 مليار دولار ستحصل عليها كاش (24 مليار + 11 مليار قيمة الوديعة الإماراتية)، فيما تقول الشركة الإماراتية إن قيمة الصفقة الإجمالية 24 مليار دولار، ما يعني أن هناك فارقًا يبلغ 11 مليار دولار.
– لم يتضمن الاتفاق الكثير من التفاصيل المطلوب الاطلاع عليها، مثل المقابل الذي تقدمه مصر نظير هذا المبلغ الضخم (35 مليار دولار كاش واستثمارات تصل إلى 150 مليار دولار)، وهل المشروع بيع للمدينة بأكملها أم مجرد انتفاع؟ وهل يمكن دفع هذا المبلغ في حق انتفاع؟ وما مدة هذا الحق؟ وحدود مراقبة الدولة المصرية للأنشطة الاستثمارية في هذا المشروع، هذا بخلاف الضمانات الخاصة بعدم بيع هذا المشروع أو أجزاء منه لدول معينة مثل “إسرائيل” على سبيل المثال والتي تربطها علاقات حميمية مع الإمارات، لا سيما في ظل الموقع اللوجستي والحيوي لمدينة رأس الحكمة.
– التساؤل عن مصير أموال الصفقة، هل تذهب للخزانة العامة للدولة أم للمؤسسة العسكرية؟ وفي أي المجالات سيتم إنفاقها؟ هل سيتم ضخها في البنوك لحل الأزمة الدولارية أم سيتم تحويلها لسداد خدمة الدين الخاصة بهذا العام والبالغة نحو 42 مليار دولار؟
وكالة الأنباء الرسمية للإمارات "وام" نشرت قبل قليل أن الشركة "القابضة" (ADQ) استحوذت على حقوق تطوير مشروع رأس الحكمة مقابل 24 مليار دولار، كما ستقوم بتحويل 11 مليار دولار من الودائع التي سيتم استخدامها للاستثمار في مشاريع رئيسية في جميع أنحاء مصر لدعم نموها الاقتصادي، ولا يوجد أي…
— جمال سلطان (@GamalSultan1) February 23, 2024
اقتصاد أم سياسة؟ أم كلاهما معًا؟
من التساؤلات التي فرضت نفسها عقب الإعلان عن تلك الصفقة التي وصفت بـ”التاريخية”، مدى دخول السياسة على خط إبرامها، وهو التساؤل الذي فرضه تعليقات اقتصاديين وصحفيين إماراتيين مقربين من السلطة، فلفتوا إلى أن ما حدث نوع من الدعم الذي تقدمه الإمارات لمصر لعبور أزمتها الراهنة وتجنب سقوط حليفهم المصري الذي يلعب دورًا محوريًا في خدمة الأجندة الإماراتية في المنطقة.
المستشار الدبلوماسي لصاحب السمو رئيس الدولة، أنور قرقاش، وصف مشروع رأس الحكمة بأنه خطوة نوعية أخرى في تعزيز الروابط الإماراتية المصرية من بوابة الاقتصاد والاستثمار، مضيفًا في منشور عبر حسابه الرسمي في منصة “إكس”: “مشروع رأس الحكمة خطوة نوعية أخرى في تعزيز الروابط الإماراتية المصرية من بوابة الاقتصاد والاستثمار، شراكة الماضي والحاضر هي أيضًا شراكة المستقبل”.
أما رجل الأعمال الإماراتي خلف الحبتور، فغرد تعليقًا على الصفقة قائلًا: “دولة الإمارات لا تتخلى عن شقيق ولا صديق، هذه هي سياستها، وهذا هو نهجها الدائم”، مضيفًا “هذه الخطوة الإماراتية ليست بغريبة عنا، إنها النخوة التي تربينا عليها من مؤسسي دولة الإمارات وشعبها”.
وأضاف الحبتور “مصر دولة محورية وهي عمود الوطن العربي، وعلينا أن نقف جميعًا لمؤزارتها في أيام الشدة، وها نحن في الإمارات أول من هب لتلبية نداء الأخوة، متعاضدين مع “أم الدنيا” التي نحب ونعشق”، لافتًا إلى أن ما أسماه “المبادرة الإماراتية” جاءت في وقتها المناسب لتقوية وإنعاش الاقتصاد المصري، وهي فرصة ذهبية لتحريك عجلة الاقتصاد في مساره الصحيح.
والمعنى ذاته كشف عنه الكاتب الصحفي الإماراتي هاني مسهور، حين كتب يقول: “تستمد الإمارات نفوذها وقوتها من رؤية واضحة لقائدها الاستثنائي الشيخ محمد بن زايد.. النظر إلى مصر باعتبارها نقطة ارتكاز للأمن القومي العربي أكثر من مجرد رؤية زعيم، إنها رؤية وطن يؤمن بأن محورية الأمن كل لا مكان للتفريط فيه أبدًا”.
شكرا للشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الامارات العربية المتحدة …شكرا للشعب الاماراتي الحبيب…..رأس الحكمة .
— أحمد موسى – Ahmed Mousa (@ahmeda_mousa) February 23, 2024
الحديث عن تسييس الصفقة لم يكن حكرًا على الإماراتيين وحدهم، بل ألمح إليه اقتصاديون وإعلاميون مصريون كذلك على رأسهم رجال الأعمال الشهير نجيب ساويرس، الذي وجه الشكر للإمارات على تلك الصفقة، وقال في تغريدة عبر منصة “إكس”: “شكرًا دولة الإمارات، أولاد الشيخ زايد رحمة الله عليه محبو مصر، دعم غير طبيعي وكرم غير مسبوق”، وتابع “أملي أن تعي القيادة المصرية أن هذه فرصة أخيرة لتغيير المسار الحالي، وكافة الخطط السابقة ومراجعة النفس في كل الأمور، وأن تستمع إلى شعبها وتفتح أبواب الحرية المغلقة”.
فيما أبدى الإعلامي المصري جمال سلطان شكوكه إزاء مقابل الصفقة الضخم، لافتًا إلى أن المنطقة العربية بصفة عامة لم تعرف قبل ذلك أن تدفع دولة لأخرى 35 مليار دولار في صفقة عقارية قد تصل استثماراتها إلى 150 مليار دولار، مضيفًا في تغريدة له على منصة “إكس” “صفقة رأس الحكمة – بداهة – صفقة سياسية قبل أن تكون اقتصادية ومن الضروري مناقشة ومعرفة دوافعها وأهدافها وحساباتها السياسية”.
رأس الحكمة.. منطقة لوجستية وواجهة استثمارية خرافية
قبل سنوات تقريبًا تحدث السيسي عن حزمة من المشروعات الاستثمارية التي قررت الحكومة تدشينها على طول الساحل الشمالي للبحر المتوسط، وكان من بينها مدينة رأس الحكمة، التي تعد واحدة من أجمل المناطق السياحية في مصر والشرق الأوسط بحسب شهادة الخبراء.
وتتمتع تلك المدينة التي أنشأها الملك فاروق عام 1948 بموقع لوجستي مهم، حيث تمتد شواطئها من منطقة الضبعة في الكيلو 170 بطريق الساحل الشمالي الغربي وحتى الكيلو 220 بمدينة مطروح التي تبعد عنها 85 كيلومترًا، كما أنها تعد من أقرب النقاط إلى السواحل الأوروبية على الجانب الآخر من المتوسط.
وتزخر تلك المنطقة بحزمة متنوعة من المقومات السياحية الثقافية والتاريخية، إذا تمتلك عشرات الشواطئ الخلابة ذات الموارد الطبيعية الرائعة، فضلًا عن أجمل شواطئ العالم من الرمال الناعمة الصفراء إلى المياه الفيروزية، بجانب احتضانها مقابر الكومنولث والمقبرة الإيطالية والألمانية، ما يجعلها قبلة رائجة للسائحين من مختلف دول العالم.
الخبيرة الاقتصادية والعميدة السابقة لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة، عالية المهدي، تقول إن تلك المنطقة من أروع المناطق في مصر، وأنها “جنة الله على أرضه” حسب وصفها، وقد كانت قبل ذلك استراحة لملوك ورؤساء مصر السابقين، من الملك فاروق مرورًا بالرئيس جمال عبد الناصر ومن خلفه أنور السادات ثم حسني مبارك، متسائلة: ماذا سيحدث لاستراحات هؤلاء الملوك والرؤساء بعد بيع المدينة؟ ثم قالت: “رأس الحكمة مخافة الله”.
احتفاء كبير.. هل تُحل الأزمة؟
قوبل الإعلان عن تفاصيل الصفقة بحالة احتفاء كبيرة على منصات التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية من أنصار النظام الحاكم، حيث اعتبروها بداية الطريق نحو استفاقة الاقتصاد المصري والقضاء على السوق السوداء للعملات الأجنبية التي وصل سعر الدولار فيها قرابة 70 جنيهًا قبل أن يتراجع إلى نحو 60 جنيهًا الأيام الماضية، فيما بالغ البعض في تفاؤله وصولًا إلى أن تلك الصفقة ستحل أزمة الاقتصاد المصري إلى الأبد.
الإعلامي والبرلماني، مصطفى بكري، يرى أن الصفقة المعلن عنها “هي البداية خلال الأيام القليلة المقبلة، ضربه قويه للسوق السوداء، وفتح الطريق أمام دخول مستلزمات الإنتاج، ودعم قوي للاقتصاد المصري”، مضيفًا خلال برنامج “حقائق وأسرار”، عبر قناة “صدى البلد”، المملوكة لرجل الأعمال المقرب من النظام محمد أبو العينين “هناك ارتياح كبير في الشارع المصري عقب إعلان الصفقة”، مطالبًا الحكومة بخفض سعر الدولار كل يوم 50 قرشًا، حتى يصبح بـ24 جنيهًا، مشيرًا إلى أن هذا سعر الدولار العادل، على حد قوله.
سواء هتكون اسمها مدينة رأس الحكمة … اواي اسم تانى
لو ظلت الادارة إماراتيه…. سأكون اول من يشترى بها عقار …
المكان ده مستقبل اوروبا فى السياحه الصيفيه…
ولا تقولى اليونان ولا تركيا و قبرص ولا فرنسا
واتمنى الامارات تدير مدينه العلمين كلها او تشتريها قبل ما تخرب وتبقى زيها… pic.twitter.com/QbiaDSqktk
— Karim Gahin (@karimGahin1) February 24, 2024
أما الإعلامي المقرب من السلطة، أحمد موسى، فغرد قائلًا: “تخيلوا الدولار بكام في السوق الموازي وصل إلى 49 جنيهًا.. انهيار السوق السوداء بعد صفقة راس الحكمة.. والدهب يسير علي خط النزول وصل 3250 جنيهًا للجرام عيار 21.. خسائر للمضاربين والقادم بالنسبة لهم انهيارات مستمرة “.
وأضاف: “من الآخر وبدون لف ودوران، نجاح الدولة في تجهيز البنية التحتية من طرق ومواني وغيرهما ونجاح العلمين، السبب الرئيسي لنصل إلى رأس الحكمة وحجم استثمارات 150 مليار دولار تضخ في شرايين المشروع العملاق والاقتصاد وفي السوق، المكاسب للبلدين.. شكرًا للرئيس عبد الفتاح السيسي.. شكرًا للشيخ محمد بن زايد”.
وعلى الجانب الآخر، هناك من يرى في هذا الاحتفاء نوعًا من الحرب النفسية التي تمارسها الحكومة من أجل إرهاب السوق السوداء وإجبارها على التراجع من جانب، ولرفع الروح المعنوية لدى الشارع المصري التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة من الانخفاض من جانب آخر.
ويستند هذا الفريق إلى لغة الأرقام والتجارب السابقة، فمصر مطالبة هذا العام فقط بسداد مبلغ 42 مليار دولار خدمة دين، وهو أكبر من رقم الصفقة في مجملها (35 مليار دولار)، ما يعني أن هذا الرقم لن يحل الأزمة، قد يخفف حدة الضغط الممارس على الحكومة لتوفير السيولة الدولارية لسداد أقساط وفوائد الدين، لكن ماذا عن توفير العملة في البنوك والمصارف لتسيير عملية الاستيراد والتصدير؟ متسائلين: ماذا لو ذهب رجل أعمال للحصول على دولارات من البنوك لإنهاء عملياته الاستيرادية.. هل سيجد سيولة أم يواجه تعقيدات ورفض وتأجيل كما يحدث الآن؟
كما أن التجارب السابقة لمثل تلك الصفقات والمشروعات ليست في صالح النظام، وتثير دومًا حالة من الشك والريبة في مصداقيتها لدى الشارع، وهو ما حدث مع مشروع قناة السويس الجديدة، واكتشاف حقل ظهر للغاز الطبيعي، والمؤتمر الاقتصادي 2015 وجمع مبلغ 175 مليار دولار، هذا بخلاف التساؤل عن المليارات التي حصلت عليها الدولة في صورة قروض ومنح وبلغت أكثر من 100 مليار دولار خلال السنوات الـ10 الأخيرة.. أين ذهبت؟ وفيم أنفقت؟ وهو السؤال ذاته الذي يتردد الآن بشأن مصير مقابل بيع أو استئجار رأس الحكمة.
الإمارات.. علامة استفهام مثيرة للجدل
كانت جميع التوقعات السابقة تشير إلى أن إجمالي الاستثمارات الإماراتية المتوقع ضخها في مصر لن تتجاوز 35 مليار دولار خلال السنوات الـ10 المقبلة، وفق توقعات قناة “cnbc arabia” المهتمة بالشأن الاقتصادي العربي والدولي، أما أكثر المتفائلين وعلى رأسهم الرئيس العام لمجلس الإمارات للمستثمرين بالخارج جمال بن سيف الجروان، فذهب إلى أن الوصول إلى هذا الرقم قد يكون في غضون 5 سنوات فقط.
وتتصدر الإمارات قائمة الدول الأكثر استثمارًا في مصر بقيمة 15 مليار دولار حتى عام 2022، وذلك من خلال 1165 شركة إماراتية تعمل في السوق المصري في قطاعات عدة أبرزها الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمعدل ملياري دولار ثم قطاع التمويل باستثمارات قدرها 1.7 مليار دولار، ومن خلفه قطاع الإنشاءات والعقارات باستثمارات 814 مليون دولار، يليه قطاع الاستثمارات الصناعية بإجمالي استثمارات 544 مليون دولار، ثم القطاع الخدمي العام بـ343 مليون دولار، والاستثمارات السياحية بـ260 مليون دولار، فيما يأتي القطاع الزراعي سابعًا وأخيرًا باستثمارات قدرها 129 مليون دولار.
باتت أبو ظبي – من خلال شركات أبرزها إعمار وتحالف الدار العقارية والقابضة (ADQ) – ثاني أكبر حكومة تمتلك أراضٍ في محافظة القاهرة (40 ألف فدان) بنسبة تزيد على 6%، فيما تمتلك الحكومة المصرية 16%، وتستحوذ 10 شركات عقارية على 90% من أرباح قطاع العقارات.
تركز الإمارات في استثماراتها على المناطق اللوجستية ذات القيمة السياحية والتاريخية، ولعل آخر تلك الصفقات – قبل رأس الحكمة – استحواذ شركة أبو ظبي القابضة (ADQ) على 7 من أعرق وأهم فنادق مصر التاريخية، في القاهرة والإسكندرية والأقصر وأسوان، في 12 يناير/كانون الثاني الماضي.
التغول الإماراتي على الأصول المصرية لم يقتصر على المباني التاريخية واللوجستية فقط، بل تجاوز ذلك إلى امتلاك الأراضي الزراعية، ويعود هذا الأمر إلى عام 2006 حين سيطرت شركة الظاهرة الزراعية، المملوكة لحمدان بن زايد آل نهيان شقيق رئيس الإمارات محمد بن زايد، على 113 ألف فدان في توشكي وشرق العوينات والصالحية والنوبارية حيث اشترت الفدان بـ50 جنيهًا، بينما بلغ متوسط سعره وقتها 11 ألف جنيه، ليصل إجمالي ما تستحوذ عليه تلك الشركة اليوم قرابة 400 ألف فدان زراعي، وإدارة نحو 35 مستودعًا في مختلف المواقع، بسعة تخزينية تبلغ نحو 210 آلاف طن متري.
وفي العام التالي مباشرة (2007) استحوذت شركة جنان للاستثمار الإماراتية، على 35 ألف فدان شرق العوينات ونحو 119 ألف فدان بمحافظة المنيا جنوب مصر، فيما تقول تقديرات إن حجم ما تملكه من أراضي زراعية في مصر يصل إلى 500 ألف فدان.
فيه ناس فاكرة المشروع الجديد لتطوير منتجع في منطقة راس الحكمة
لا يا جماعة راس الحكمة ده اسم المشروع واسم الشركة القابضة الاماراتية الجديدة فقط
لكن حسب الأهرام عدد اليوم الصفحة الاولى:
المشروع مساحته ١٧٠ مليون متر مربع ويشمل المدن التالية بس 👇 pic.twitter.com/F27r9t3dDf
— hossam bahgat حسام بهجت (@hossambahgat) February 24, 2024
وانعكست سيطرة الإمارات على الأراضي الزراعية المصرية على حجم إنتاج القمح، الذي تراجع بشكل كبير مقارنة باحتياجات الشعب المتزايدة، لتصبح أبو ظبي المتحكم الأبرز في خبز المصريين وسلعتهم الإستراتيجية الأولى، بل وصل الأمر إلى لجوء الحكومة المصرية إلى استيراد القمح المزروع في مصر من الإمارات مالكة تلك الأراضي، حيث وقعت وزارة التموين المصرية في يوليو/تموز 2023 اتفاقية مع صندوق أبو ظبي للتنمية للحصول على قرض بقيمة 400 مليون دولار لتمويل مشتريات مصر من الحبوب، تشمل الشريحة الأولى قرضًا بقيمة 100 مليون دولار تموّل بموجبها شراء حبوب مصر من شركة الظاهرة الإماراتية.
هذا بخلاف القطاع الصحي والتعليمي، إذ استحوذت الإمارات على قرابة 30 مدرسة دولية في مصر، بجانب 12 مستشفى، بعضها كيانات لها حضور قوي مثل دار الفؤاد ومستشفى السلام الدولي، فضلًا عن الاستحواذ على أكثر من 10% من سوق التحاليل الطبية، بعد امتلاك شركة التشخيص المتكاملة القابضة المالكة لمعملي البرج والمختبر.
الإسراع الإماراتي في الاستحواذ على الأصول المصرية ذات القيمة والعائد الكبير يرجع وفق وكالة “بلومبيرج” الأمريكية إلى استغلال الدولة النفطية للوضع الاقتصادي المصري الهش، الذي دفعه للجوء إلى أصوله وممتلكاته لسد العجز الذي يعاني منه، حتى لو وصل الأمر إلى تلك الأصول التي قد يمثل التنازل عنها تهديدًا للأمن القومي المصري مثل الموانئ ومشاريع منطقة قناة السويس وأخيرًا رأس الحكمة في الساحل الشمالي.
#الشروق| بعد رأس الحكمة.. خالد أبو بكر: مشروع خليجي جديد قيد الإعداد على البحر الأحمر
التفاصيل👇https://t.co/fmMHg1WLCY #رأس_الحكمة#مصر #الإمارات pic.twitter.com/xaD0wPlrgs
— Shorouk News (@Shorouk_News) February 24, 2024
ويتخوف الاقتصاديون من طبيعة الاستثمارات الإماراتية في مصر بصفة عامة، كونها لا تراعي البعدين الاجتماعي والاقتصادي للمصريين، فهي تسعى بمنطق برغماتي بحت لتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية في آن واحد، هذا بخلاف القلق من تفريغ تلك النوعية من الاستثمارات للسوق المصري من روافده الأساسية وتجريد الدولة من أصولها ذات القيمة اللوجستية المحورية، وهو ما يمثل تهديدًا لمستقبل البلاد على المحاور كافة.
وفي الأخير فإن أكثر ما يثير القلق لدى الشارع المصري ونخبته الاقتصادية والسياسية أن “رأس الحكمة” لن تكون الصفقة الوحيدة التي تفرط فيها مصر في إحدى بقاعها اللوجستية التي كان من الممكن استثمارها بشكل أكثر جدوى ودرًا للأرباح إذا توافرت السياسات الاقتصادية الملائمة.
إذ أعلن السيسي ورئيس حكومته أن هناك مشروعات كثيرة من تلك الشاكلة سيتم طرحها خلال المرحلة المقبلة لجمع أكبر قدر ممكن من العملات الأجنبية للخروج من الأزمة الاقتصادية التي تعاني منها مصر، وذلك في ترسيخ متعمد لإستراتيجية الدولة الجديدة للخروج من عنق الزجاجة عبر بيع الأصول والممتلكات بعد فشل السياسات الاقتصادية المتبعة طيلة السنوات الماضية، في تجاهل تام لتبعات تلك الإستراتيجية على مستقبل الأجيال القادمة.