تتجه الأنظار عالميًا إلى إقليم كردستان في شمال العراق بعد أن تم الاستفتاء الشعبي على الانفصال في خطوة لطالما انتظرها الأكراد طويلًا ودفع ثمنها أجيال من الكرد منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية وحتى يومنا هذا، ليضيف هذا الاستفتاء مصدرًا جديدًا للتوتر إلى بؤرة النزاعات التي تُعرف بالشرق الأوسط.
إن السّرعة التي تحركت بها القيادات الكردية في كردستان للقيام بهذا الإجراء إن دلت على شيء فإنما تدل على الأهمية الاستراتيجية للتوقيت الحالي بالنسبة لمشروعها القومي.
ففي ظل ضعف الدول القومية بسبب أحداث ما سمي بالربيع العربي، وإرهاصاته المتمثلة بالثورات والثورات المضادة وكل ما خلفته من انقسامات دولية (أزمة دول مجلس التعاون الخليجي مثالًا) وأخرى مجتمعية (الصراع لعسكري المدني والصراع العلماني الإسلاموي)، لن تجد القيادات الكردية فرصة أكثر مواتاةً من التوقيت الحالي، لا سيما أن العالم بأسره بدا مشغولًا بمكافحة التنظيمات الجهادية الإرهابية.
أما العالم العربي – فكما كان الحال دائمًا – بدا منفصلًا عن الواقع ومهتمًّا بصراعاته الداخلية وقضاياه المجتمعية (السماح للمرأة بقيادة السيارة على سبيل المثال لا الحصر)، ليترك مهمة الاعتراض على المشروع القومي لقوى إقليمية أكثر تأثّرًا بالمسألة مثل تركيا وإيران.
ومن الملفت للانتباه أن المجتمع الدولي لم يبد رغبة واضحة في دعم الخطوة الانفصالية، وربما يرجع السبب الحقيقي إلى وجود عدد من ملفات الأقليات التي تم إغلاقها ضمن العديد من دول الاتحاد الأوروبي (أهمها إسبانيا التي تمتلك مزيجًا متعدد الإثنيات والقوميات).
أما بالنسبة للمؤيدين فقد ظهرت “إسرائيل” على رأس القائمة وهو الأمر غير المثير للدهشة بكل حال من الأحوال، فوجود دولة غير عربية ضمن محيط عربي يعني ظهور حليف جديد يمكن أن يعزز من أمن “إسرائيل” في المستقبل، ولا يقتصر الأمر على الأمن العسكري والاستخباراتي أو تغيير كفة التوازن الجيواستراتيجي بل يفوقه ليشمل أمن موارد الطاقة، وملفات عديدة أخرى ليس هذا المقال في صدد ذكرها.
“إسرائيل” تريد تعزيز مشروعيتها من خلال الاعتماد على نموذج مشكوك بمشروعيته أساسًا، حيث تبقى مشروعية قيام دولة كردية موضعًا للشك والتساؤل
ويعدّ التعزيز من مشروعية وجود “إسرائيل” في المنطقة على أراض لم تكن تمتلكها منذ أقل من قرن من الزمن أحد أهم الدوافع لدعم استقلال كردستان، نظرًا لأن المرحلة القادمة ستتطلب من “إسرائيل” التعامل أكثر مع الرأي العام العالمي والعربي.
إن نظرة مماثلة تتطلب فهمًا للنظام الدولي كما وصفه هنري كيسينجر بأنه نظام قائم على إيجاد التوازن بين القوة والمشروعية، وفي الوقت الذي تمتلك فيه “إسرائيل” القوّة تعتبر مشروعيتها مدعاةً للاستنكار (نسبيًا) وهو الأمر الذي قد يتغير في حال وجود نموذج مشابه في قلب المنطقة العربية.
لكن المثير للسخرية أن “إسرائيل” تريد أن تعزز مشروعيتها من خلال الاعتماد على نموذج مشكوك بمشروعيته أساسًا، حيث تبقى مشروعية قيام دولة كردية موضعًا للشك والتساؤل لا سيما بالنظر إلى تاريخ الأكراد في المنطقة، لذلك ينبغي فهم الرواية الأخلاقية التي تعتمدها الأقليات في سعيها لإضفاء المشروعية على مطالبتها بالاستقلال.
مشروعية الاستقلال بين العقد الاجتماعي وحق تقرير المصير الويلسوني
إن العودة لمفهوم العقد الاجتماعي هي ضرورة ملحّة حيث أنه أساس قيام الدولة القومية كما نعرفها اليوم.
يمكن إرجاع العقد الاجتماعي لتيارات فلسفية جاءت لتلبي احتياجات أساسية ظهرت بالتزامن مع الاحداث الثورية التي عُرفت فيما بعد بعصر التنوير، وفي حين رأى توماس هوبز أن قيام الدولة المحكومة بسلطة مطلقة هو ضرورة لتنظيم حياة الأفراد ضمن المجتمع بهدف الحد من أفعالهم الهمجية في غياب التشريعات، ذهب جون لوك أبعد من ذلك حيث نفى الحاجة إلى السلطة المطلقة بل على العكس وضع المشروعية في يد الشعب الذي يحق له أن يثور على السلطة المستبدة، كما ضمن لوك حق الشعب من خلال الإشارة إلى وجوب تمثيله برلمانيًا.
وتبقى أهم التيارات هي المدرسة الأكثر (رومانتيكية) والتي يعد جان جاك روسو من أهم روادها، فقد ساهمت أفكارها في إرساء مفاهيم الثورة الفرنسية التي تمتلك بدورها أهميةً محوريةً في تكوين القواعد الأساسية للنظام الدولي الحالي،
الطعن في مشروعية استقلال الإقليم لا يعني بالضرورة استحالة إيجاد منفذ قانوني يتم من خلاله إلباس الاستفتاء رداءً يستند إلى القانون الدولي.
أصرّ روسو في عقده الاجتماعي على ضرورة تخلي الأفراد عن هوياتهم الفردية الجزئية (الإثنية، الدينية، العرقية، اللغوية) وقد أُطلق عليها اسم (Micro-Identity) مقابل حصولهم على هوية جمعية أكثر كلية وشمولًا.
((Macro-Identity كما اعتبر روسو أن على الأفراد وضع قواهم وحقوقهم كاملة في يد المجموع أو الدولة وحينها يمكن تحقيق العدالة والمساواة وهو ما يضمن حرية الفرد في ظل المجموعة.
إذًا طبيعة العقد الذي تحدث عنه روسو لا تتوافق إجمالًا مع مبدأ حقوق الأقليات الذي لم يكن سائدًا في تلك الحقبة الزمنية نظرًا لانتشار الفكر الذي أسس لإنتاج الدولة القومية التي تستمد مشروعية أفعالها من منطلق مقتضيات المصلحة العامة وهو الأمر الذي عبّرت عنه سياسة الكاردينال ريشيلو التي قادت فرنسا في الحقبة التي سبقت ظهور روسو مباشرة وأطلق عليها مصطلح (Raison D’etat ).
أما بالنسبة لحقوق الأقليات فقد كانت من المبادئ المحددة لفترة زمنية لاحقة قد تبعت الحرب العالمية الأولى وكان أبرز موجديها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن الذي وضع خطة مكونة من أربع عشرة نقطة تهدف لتحديد شكل نظام دولي جديد يعيد الاستقرار والأمن إلى العالم وركّز من خلالها على حق الشعوب تقرير مصيرها، خاصةً في المجتمعات متعددة العرقيات والتي عاشت في ظل الإمبراطوريات المتفككة بعد خسارة الحرب (النمسا والإمبراطورية العثمانية).
وهنا يمكن الإشارة إلى أن عصبة الأمم التي كوّنت نواةً ما يعرف اليوم بالأمم المتحدة جاءت نتيجة لمبادئ ويلسون الأربعة عشر لتتطور فيما بعد ويتطور معها مفهوم حقوق الأقليات.
ولكن يبقى الأصل الأخلاقي لمبادئ ويلسون قائمًا على فكرة العقد الاجتماعي والدولة القومية، ومن هذا المنطلق يتوجب النظر إلى مبادئ مثل سيادة الدولة واستقلالها ووحدة أراضيها على أنها الإطار الرئيسي الذي وُجِد مفهوم حقوق الأقليات ضمنه.
هكذا يمكننا افتراض سقوط المبررات الأخلاقية التي تعتمدها إدارة الإقليم في استفتائها بسبب انتهاك الاستفتاء للإطار الرئيسي التي يمكن ضمنه وضمنه فقط تحديد مشروعية حق تقرير المصير.
وعلى صعيد القانون الدولي يشير الباحث في مركز الشرق للسياسات جلال سلمي في مقال مفصّل إلى عدم قانونية القرار لوجود معوقات قانونية عديدة تحول دون تحويل نتائج الاستفتاء من حالة “قرار الطرف الواحد” إلى إحدى قواعد القانون الناعم وهو الأمر الذي ينزع الصفة القانونية عن نتائج الاستفاء.
أبرز الأمثلة على القوميات الرومانسية هي القومية الألمانية التي عانى أبناؤها كثيرًا لإيجاد دولتهم الموحدة والتي أدى قيامها لحربين عالميتين طاحنتين
كما يشير الباحث في مقاله إلى نقطة بالغة الأهمية ألا وهي أن “قواعد القانون الدولي لا يمكن اعتبارها قانون أصلًا، كونها نتجت عن توافق سياسي وليس شرائع قانونية، مما يجعلها قواعد مرنة يمكن لكل طرف سياسي بلورتها وفقًا لمآربه، وإن كان بارزاني فعلًا يريد الانفصال عن العراق، فإن المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة قد توفر له تحالف دولي مساند، لا سيما أن “إسرائيل” موافقة على ذلك”، إذًا فإن الطعن في مشروعية استقلال الإقليم لا تعني بالضرورة استحالة إيجاد منفذ قانوني يتم من خلاله إلباس الاستفتاء رداءً يستند إلى القانون الدولي.
القوميات الرومانسية والبحث عن المشروعية
إن أبرز الأمثلة على القوميات الرومانسية هي القومية الألمانية التي عانى أبناؤها كثيرًا لإيجاد دولتهم الموحدة والتي أدى قيامها لحربين عالميتين طاحنتين، لكن في واقع الأمر يبقى التشابه بين القومية الألمانية والقومية الكردية نسبيًا، فلا يشبه البارازاني بيسمارك في شيء ولا وجه للتشابه بين التوازن الإقليمي الحالي والتوازن الأوروبي في ذلك الوقت.
وبشمل مماثل التشابه بين نموذج القومية الكردية والنموذج الإسرائيلي أيضًا نسبي، وتعد أبرز وجوه هذا التشابه وجود كلا الدولتين ضمن محيط عربي واعتمادهما على حقائق وأساطير تاريخية تساهم في تكوين الطبيعة الرومانسية لكلا المشروعين القوميين، وهذا أحد أهم الأسباب التي تدفع “إسرائيل” لدعم قيام مشروع وطن كردي مستقل بهدف التعزيز من مشروعيتها.
يُقصَد بالقومية الرومانسية وجود مشروع لأفراد يوحدهم مزيج من خصائص معينة (قومية، إثنية، عرق، دين ، لغة)، يهدف هذا المشروع لإقامة وطن مستقل على أرض موجودة بالفعل ومحكومة من قبل أفراد آخرين من خارج المجموعة ويُنظر لهم بنظرة عدائيّة في الغالب لأنهم “مغتصبون لحق تقرير المصير”، وبالتالي يظهر نزاع وجودي ضد الآخرين بسبب تعارض وجودهم مع تحقيق المشروع القومي.
يمكننا الجزم بأن وجود دولة كردية قومية جديدة ضمن المحيط العربي يزيد من مشروعية “إسرائيل” ويجعل موقفها أكثر قوّةً في أي مشروع مفاوضات سلام محتمل في المستقبل
و هذا ما يفسر إمكانية ترجمة المشاعر القومية الرومانسية بعدة أشكال في سبيل تحقيق هذا المشروع، حيث يمكن أن ينشئ أصحاب المشروع الحركات العنفية الإرهابيّة تارةً مثل “العصابات الصهيونية التي تشكلت عقب وعد بلفور” و”حزب العمال الكردستاني الذي أسسه أوجلان في تركيا”، كما يمكن أن تتخذ شكل الحزب السياسي البرلماني أو النموذج الحوكمي الديمقراطي عند الضرورة.
هنا لا بد من الإشارة إلى الأهمية المحورية التي تحتلها الرواية القومية الرومانسية “National Narrative” كوسيلة من وسائل هذا المشروع حيث تتكون هذه الرواية بالمجمل من مجموعة من القصص التاريخية والأبطال والأساطير، كما يمكن أن يتخللها قصص المظلوميّات والاضطهاد وأدب الشتات
“Diaspora Literature” وتهدف هذه الرواية إلى إذكاء وتقوية المشاعر القومية بين أبناء المجموعة وتبرير الأفعال العنفيّة ضد الجماعات والأفراد الآخرين الذين يشكلون عائقًا في وجه تحقيق مشروعهم، كما تهدف لإعادة تشكيل الرأي العام الدولي بحيث تضفي هذه الرواية المزيد من المشروعية على المشروع القومي.
بناءً على كل ما سبق يمكننا الجزم بأن وجود دولة كردية قومية جديدة ضمن المحيط العربي يزيد من مشروعية “إسرائيل” ويجعل موقفها أكثر قوّةً في أي مشروع مفاوضات سلام محتمل في المستقبل، كما أنه يضفي الشرعية على فكرة قيام دولة “إسرائيل” في مواجهة الرأي العام العالمي وفقًا لما يسمى حق تقرير المصير، ولا ينبغي بكل حال من الأحوال اعتبار هذا الهدف الاستراتيجي أقل أهمية من مواضيع التعاون الأمني والعسكري والاستخباراتي وإحداث التوازن الجيوستراتيجي وأمن الطاقة، وأي تعاون آخر بين “إسرائيل” والإقليم المرتقب.