أطوف بين الناس وأسمعهم وأحاول فهم حالة المَرار المسيطرة على النفوس وأجد أن الجميع يشكو ويتهم البقية ولكن لا أحد توقف عن فعله وقال لدي قسط من المسؤولية فيما يجري هذا الحزن المخيم يجعل الأمل في المستقبل يتضاءل حتى كأننا في قاع بئر وننظر إلى السماء من فوقنا في حجم الدورو (والدورو قطعة نقدية تساوي خمس مليمات هي أهون من أن ينحني المرء ليلتقطها إذا صادفها في الطريق) فمن سرق الفرح من نفوس التونسيين بعد ثورة زاخرة بالأمل؟
للحزن في تونس وجوه كثيرة
رجال التعليم في تونس مستاؤون من الوزارة بل من الوزارات المتتابعة ولديهم دومًا قائمة مطالب لم تلب، فرجال التعليم يتحدثون بصفتهم ضحايا العملية التعليمية المرهقة وغير المجزية ولكنهم في مفتتح كل سنة دراسية يفتتحون سوق الدروس الخصوصية ويبتزون أولياء التلاميذ خاصة في سنة الثانوية العالمة (البكالوريا) ولديهم قائمة تبريرات ليس لها نهاية. والأولياء واقعون بين فكي كماشة، فنجاح أولادهم رهين الخضوع لابتزاز رجال التعليم، لقد عمل الوزير المخلوع من النقابات على الحد من الظاهرة ووضع تراتيب منع سرعان ما تحولت إلى نكتة لا تضحك، وتظاهرت النقابة بتأييده في هذه النقطة لكن أكثر الأستاذة الذين يفتتحون سوق الدروس الخصوصية نقابيون لا يطالهم أحد باحتجاج. فالنقابات في تونس وخاصة نقابة التعليم الثانوي فوق المساءلة الشعبية والويل لمن يجرؤ على المس من وهرة نقابي، والقلة المستنكفة عن الدروس الخصوصية إما يدرسون موادًا ضعيفة الضارب أو زهاد متعففون وهؤلاء يجب البحث عنهم كما يبحث عن إبرة في كومة قش.
العائلة التونسية المتوسطة والفقيرة مستاءة من رجال التعليم وتخاف منهم، ورجال التعليم (إلا قلة عفيفة) يتباكون على مصيرهم المهني التعيس، والدرس يمر بين تذمر الأستاذ من فقره وتذمر التلميذ من تهاون أستاذه في القسم تمهيدًا لجره إلى الدرس الخصوصي، والمدرسة التونسية تنهار والنظام يشاهد، فأبناء طبقة النظام يدرسون بالخارج.
الصناعيون التونسيون يشتكون رغم أنهم الأقدر على تحمل الأزمة، فالسوق الداخلية كاسدة والتصدير ينهار بانهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية المرجعية
الفلاحون التونسيون حزانى، فالسماء تشح حتى الآن بغيثها، وأمطار الخريف تخلفت عن موعدها والسدود في منطقة الشمال جفّت إلا من القليل، والحكومة عرفت فقط أن تزيد من سعر مياه الري والشفة، فلا نسمع عن مشاريع وحلول جذرية لمشكلة المياه في تونس (ونسمع فقط سخرية فجة من صلاة الاستسقاء التي يجد فيها فقراء الفلاحين أملاً مؤقتًا).
الموسم الفلاحي تأخر في الشمال بشهر كامل، فالخضراوات الشتوية لم تزرع، والحبوب والأعلاف لا تزال في مخازن البذور، ومربو الماشية يشتكون من انهيار سعر المواشي، أما موسم الزيتون ورغم الوفرة المنتظرة إلا أنه دون أمطار أيلول وأكتوبر سيتحول الزيتون إلى بعر جديان.
الصناعيون التونسيون يشتكون رغم أنهم الأقدر على تحمل الأزمة، فالسوق الداخلية كاسدة والتصدير ينهار بانهيار العملة الوطنية أمام العملات الأجنبية المرجعية، يقولون لك لا أحد يبيع لأن لا أحد يشتري، أمّا طبقة قطاع الخدمات وخاصة السياحة منها فهم دائمو الشكوى رغم الدلال الذي تمنحه لمم الحكومات المتعاقبة بدعوى توفير النقد الأجنبي.
انهيار ما يسمى بالطبقة الوسطى
الحقيقة أن هذه الطبقة ضاعت معالمها السوسيولوجية فلم نعد نعرف من يمكن تصنيفه ضمنها ويبدو أنه لن يبقى فيها إلا طبقة مهربي التبغ الجزائري والنفط الليبي المسروق من الغرب، فالموظفون الكبار المتعيشون من أعطيات الدولة ورواتبها المرتفعة أكثر الناس شكوى من الغلاء. لقد دارت ماكينة الاستهلاك الداخلي بمثل هؤلاء، فهم الذين نراهم يملأون عربات التسوّق في المساحات الكبرى لا زلنا نرى بعضهم، لكن نسمع أغلبهم يندب حظه، بحيث يتحول حديث العامة أمامهم إلى نوع من القناعة الزاهدة والتسليم بالقدر.
البلد ممسوك بيد عابثة وليس لدي مكونات الطبقة السياسية أي إحساس بالأزمة ويبدو أن الحل الوحيد لديها إذا شعرت بالأزمة افتعال قضايا جانبية تصرف الناس عن همومهم
لقد زادت الدولة في الرواتب الثابتة ولكنها زادت في كلفة الخدمات العامة وأطلقت يد التجار في الأسعار، والتسريبات عن الموازنة الجديدة التي يعدها بعض هؤلاء تنذر بزيادات في الضرائب على مداخيل مكونات هذه الطبقة، فنتوقع المزيد من الجأر بالشكوى وليس لدى الحكومة حلول لتوسيع مكونات هذه الطبقة وليس لديها موارد تسمح بزيادات إضافية، بل إنها تحت شروط الاتفاقيات الدولية للإقراض أغلقت باب الانتداب في التوظيف العمومي لسنوات إلا في حدود تعويض من يغادر بالموت أو بالتقاعد.
نحن نشهد انهيار طبقة اجتماعية بكاملها تكونت عبر مسار طويل لكنها تتراجع كعامود للسوق الداخلية وبانهيار قدراتها الاستهلاكية تنهار بقية القطاعات كالزراعة والتجارة الصغرى، وأحد مؤشرات انهيارها تفشى ممارسات الرشوة في الإدارة لأنها المنقذ الوحيد المتبقي للموظف العمومي ليرفع مداخليه، وبذلك تساهم بلامبالاة غريبة في انهيار كل منظومة العمل الإداري والحكومي وتفقد المواطن كل صلة بحقوقه إلا أن يشتريها بضعف سعرها.
وحدها الطبقة السياسية تبدو سعيدة
مواضيع الصراع التي نتابعها تكشف أن الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة غير مهتمة باللوحة السوداء التي عرضتها أعلاه، فهي تجد الوقت لتناقش قضايا من قبيل المثلية الجنسية وحقوق الشواذ، وبعضها ذهب يدافع عن ضرورة منع البلديات من قتل الكلاب الضالة، وإعلام هذه الطبقة يفتح قضايا من قبيل أن توريد بذور عباد الشمس البيضاء من تركيا ينهار بالميزان التجاري التونسي، وفي الوقت الذي يفقر فيها التونسي حتى لا يجد ما يتناوله للعشاء تخوض هذه الطبقة السياسية صراعًا دمويًا بشأن تعديل قوانين الميراث.
مستويات الثقة في الطبقة السياسية وصلت للحضيض إلا أن يكون مناصرًا حزبيًا ينتظر غنيمة بغباء طماع
وفي أوقات فراغ مكونات هذه النخبة السياسية تعمل على تكوين أحزاب جديدة، فكلما اختصم شخصان بشأن قضية من قبيل لماذا لا يبول الدجاج، سارع أحدهما بتكوين حزب جديد لإغاظة خصمه.
قطيعة كاملة بين ما يجري في الشارع بين الناس وما تهتم به النخبة السياسة في صالوناتها وبلاتوهاتها الإعلامية وإذاعاتها الصاخبة كأنها تكتشف الكلام، وهنا مكمن حزن الشارع وسببه.
البلد ممسوك بيد عابثة وليس لدى مكونات الطبقة السياسية أي إحساس بالأزمة ويبدو أن الحل الوحيد لديها إذا شعرت بالأزمة افتعال قضايا جانبية تصرف الناس عن همومهم، فالطبقة السياسية والنخب سرقت فرح التونسيين وحرمتهم من تطوير ثورتهم السلمية إلى مشروع تغيير حقيقي، وكل الآمال العراض التي انطلقت لحظة الثورة اختصرت في هوامش وأقصي المتكلمون باسمها من المنابر ونعتوا بالفوضويين والحالمين والبعض يخونهم بصفتهم طابور خامس يعمل لمصلحة المؤامرة الكونية على الأمة.
هل أختصر بأن الحلم التونسي بالتغيير انتهى؟ نعم للأسف، فهذا ليس زمن المعجزات، مستويات الثقة في الطبقة السياسية وصلت للحضيض إلا أن يكون مناصرًا حزبيًا ينتظر غنيمة بغباء طماع، أما بقية الشارع وخاصة المفقر منه فقد نفضوا أيديهم وعادوا إلى تدبير أمورهم بطريقتهم خارج القانون وخارج المدنية التي يتباهى بها رئيس الدولة كأنه المالك الحصري لها يوزعها على من يشاء من عباده.
لقد قال رئيس الدولة وهو لا يزال يبني حزبه السياسي الذي سمحت له به الثورة أن الثورة قوس للإغلاق وقد أغلقه بيديه، وهو ينام الآن مطمئنًا حتى إنه يخطط لتوريث الحكم لولده، وكم تبدو سخرية القدر مريعة في هذا الباب، فالثورة التي قامت ضد ديكتاتور يريد توريث الحكم لابنه الغر انتهت بين يدي مورث محترف بتواطؤ كامل من طبقة سياسية ماتت ولم تدفن ولكنها تعفن الهواء في أنوف التونسيين حتى نوشك أن نراهم يسيرون يسدون أنوفهم.