ترجمة وتحرير نون بوست
ظهرت خلال الأشهر القليلة الماضية روايةٌ مثيرة للقلق تكتسب زخمًا مطردًا في السياسة البريطانية مفادها أن الإسلاميين المتطرفين يسيطرون على شوارع لندن، وأنهم يستخدمون عضلاتهم لترهيب السياسيين، ويقوّضون سلطة البرلمان، ونتيجة لذلك أصبحت الديمقراطية نفسها مهددةً. وعلى مدى الـ 24 ساعة الماضية، انتشرت هذه الرواية القائلة إن المسلمين البريطانيين يُفسِدون النظام السياسي البريطاني.
في حديثه أمام مجلس العموم يوم الخميس، قال روبرت جينريك، الوزير السابق في الحكومة، إن بريطانيا “سمحت للمتطرفين الإسلاميين بالسيطرة على شوارعنا”. كما تحدث عن “نمط من المتطرفين الإسلاميين الذين يخيفون من يختلفون معهم، مدعومين باحتمال العنف”. وقد ردت بيني موردونت، زعيمة مجلس العموم، بأنها “تتفق معه”.
ويوم الخميس، أجج رئيس الوزراء ريشي سوناك التوتّر محذرًا من أنه “يجب ألا نسمح أبدًا للمتطرفين بترهيبنا لتغيير الطريقة التي يعمل بها البرلمان”. وهذه اتهامات قوية لم يقدم سوناك ولا جينريك أي أدلةٍ تدعمها.
الخطاب المعادي للإسلام
من المهم شرح سياق هذا التفشي الأخير للخطاب المعادي للإسلام الذي اُطلِق في أعقاب الأحداث الفوضوية التي جدّت يوم الأربعاء في وستمنستر بعد أن قدّم الحزب الوطني الاسكتلندي اقتراحًا في مجلس العموم يدعم وقف إطلاق النار في غزة. وكان هذا الاقتراح محرجًا للغاية لزعيم حزب العمال كير ستارمر، الذي يُعارض العديد من نوابه بشدة دعمه للحرب.
يساعد هذا في تفسير السبب الكامن وراء قيام كل من الحزب الوطني الاسكتلندي وحزب المحافظين بمهاجمة رئيس مجلس العموم السير ليندسي هويل عندما تجاوز نصيحة كُتّاب مجلس العموم وتحدى المؤتمر البرلماني للسماح بتعديل حزب العمال الذي أخرج ستارمر من المأزق. ووسط دعوات غاضبة تطالبه بالاستقالة، قال هويل علنًا إنه عندما اتخذ قراره المثير للجدل كان “قلقًا للغاية” بشأن سلامة النواب وعائلاتهم وموظفيهم.
بالأمس، عاد هويل إلى مجلس العموم ليكرر إنذاره: “إن تفاصيل الأمور التي قُدمت إليّ مخيفة للغاية”، مضيفًا “إذا كان خطأي هو الاعتناء بأعضاء [البرلمان]، فأنا مذنب”. وأوضح أنه تأثر في عملية صنع القرار بمخاوف ستارمر الخاصة بشأن التهديدات التي يتعرّض لها النواب. ومع ذلك، لم يوضح هويل بالضبط من الذي يهدّد سلامة نواب حزب العمال – ولكن لم يكن لدى أحد في وستمنستر أي شك حول هوية من كان يشير إليه، ألا وهم المسلمون.
عاصفة إعلامية
كنتيجة حتمية للأمر، أيّدت وسائل الإعلام البريطانية هذه الادعاءات. وقد أثارت المراسلة السياسية أليسيا فيتزجيرالد شعورًا بالذعر على قناة “توك تي في” عندما قالت إنها كانت تتحدث إلى نواب حزب العمال، وخاصة النساء، الذين كانوا “مرعوبين للغاية” من مغادرة مجلس العموم في مواجهة “الغوغاء” المؤيدين للفلسطينيين خارجه. وأضافت “لقد تجاوزنا الحدود الآن. إن ديمقراطيتنا لا تعمل بشكل صحيح إذا كان هذا الأمر يشكل عاملًا يتحكم في كيفية تصرف ممثلينا المنتخبين”.
قال صحفي “ميل أون صنداي” دان هودجز في تغريدة إنه تحدث إلى أحد أعضاء البرلمان “الذي أخبرني أنه كان يفكّر في سلامته البدنية قبل أن يقرر التصويت على اقتراح غزة بالأمس”. وأعلن المعلق اليميني المتطرف دوغلاس موراي على موقع إكس أنه “يبدو أن أعضاء البرلمان البريطاني قد استيقظوا أخيرًا بعد أن طالهم التهديد الإسلامي الآن”.
اتهم صحافي التلغراف والنائب المحافظ المحتمل نيك تيموثي ستارمر بالتراجع تحت “الترهيب الإسلامي” وتدمير “المؤسسات المحايدة التي تجعل نظامنا يعمل”. وكتبت وزيرة الداخلية السابقة سويلا برافرمان في صحيفة “ديلي تلغراف” يوم الجمعة أن “الإسلاميين والمتطرفين ومعاداة السامية هم المسؤولون الآن”. وحسب ما جاء في عمود صحيفة “صن ليدر” الصادر يوم الخميس، واجه النواب “تهديدات عنيفة من بلطجية إسلاميين”.
وفي الوقت نفسه، أعلن نايجل فاراج، الزعيم السابق لحزب استقلال المملكة المتحدة، في إحدى جلسات مؤتمر العمل السياسي المحافظ إلى جانب رئيسة الوزراء السابقة ليز تروس، أن “الإسلام المتطرّف أصبح سائدًا في السياسة البريطانية”. وتوقع فاراج أنه “بحلول الانتخابات العامة لسنة 2029، سيكون لدينا حزب إسلامي متطرف ممثل في وستمنستر”، مضيفًا أنه “لا يمكن أن تكون دولة بحق إلا إذا سيطرت على حدودك”.
وهلم جرا… ساد هذا السرد خلال 24 ساعة فقط، وتطغى عليه فكرة أن الديمقراطية البريطانية تتعرض للتهديد من الإسلاميين الخطرين. ويتم الترويج لهذه الرواية من قبل أقوى السياسيين والكتاب الإعلاميين لدينا.
أين الدليل؟
غني عن القول أن هذه الادعاءات خطيرة للغاية. فإذا كان حقًا أن “الإسلاميين المتطرفين” (أو أي مجموعة أخرى) يهدّدون حياة النواب وغيرهم، فإن الأمر يتطلب اتخاذ إجراءات جذرية. لكن حذاري! لم يتم تقديم أي دليل، ولم يُقدَّم أي دليل من قبل رئيس مجلس النواب الذي أطلق هذه العاصفة الإعلامية، ولا شيء صدر من ستارمر الذي تحدث عن ذلك.
وتجدر الإشارة إلى أن أن التخويف الجسدي واللفظي جريمة، ويتضمن ذلك الاعتداء وحتى استخدام لغة التهديد – بما في ذلك عبر الإنترنت. وأي شخص يهدد جسديًا أحد أعضاء البرلمان – أو أي سياسي آخر – يمكن ويجب محاكمته. وإذا تم توجيه مثل هذه التهديدات، كما يزعم ستارمر ورئيس مجلس النواب هويل، فلابد من توجيه الاتهامات ثم إصدار أحكام بالسجن. ولكن حتى الآن مثل هذه الادعاءات ليست قائمة.
ويبدو أن تقرير أليسيا فيتزجيرالد المثير قد ناقضه مراسل سياسي آخر، هوغو جي، الذي ذكر أنه غادر البرلمان في الساعة 7.30 مساءً “ولم ير متظاهرًا واحدًا”. أو دعونا نلقي نظرة على ادعاءات عضو البرلمان الاسكتلندي بول سويني الذي قال إن مكتبه في غلاسكو قد “تعرض للاقتحام” بسبب احتجاجات غزة وأنهم “كانوا مرعِبين ويهددون موظفينا”.
مع ذلك، وفقًا لصحيفة ذا ناشيونال، “أكدت شرطة اسكتلندا الآن أنها لم تكن على علم بحادثة اقتحام أو تهديد لأي من موظفي حزب العمال”. وذكرت صحيفة “ذا ناشيونال” أن “شرطة اسكتلندا قالت أيضًا إنها على علم بـ”الاحتجاج السلمي” الذي حضره الضباط دون أي مشاكل لأن المتظاهرين المشاركين غادروا بمحض إرادتهم”.
احتجاج ديمقراطي مشروع
هذه حادثة مهمة لأنها قد تفسر أساس الادعاءات التي صدرت يوم الأربعاء بأن “الإسلاميين” كانوا يخيفون نوّاب حزب العمال. ربما شعر أعضاء البرلمان أنهم عرضةٌ للتهديد بالفعل، ولكن في نظر آخرين ـ بما في ذلك الشرطة ـ فإنهم لم يضطروا إلى تحمل أكثر من الاحتجاج السلمي، أو مظاهرة خارج مكاتبهم أو هتافات وربما سوء معاملة، لكن كل ذلك كان في حدود الاحتجاج الديمقراطي المشروع.
وإذا حدث شيء أسوأ، وتحول الاحتجاج إلى تهديدات للسلامة الشخصية للنواب، فيجب تسليم الأدلة إلى الشرطة وتوجيه الاتهامات. وفي الوقت الحاضر كل ما لدينا هو الإشاعات، وهذا يقودني إلى هويل وستارمر. هناك العديد من الأسئلة التي يجب طرحها حول المحادثة الدافئة التي جرت بين اثنين من كبار السياسيين البريطانيين يوم الأربعاء.
نحن نعلم من غاري جيبون، المحرر السياسي المحترم في القناة الرابعة، أن ستارمر حذّر من أن أعضاء البرلمان من حزب العمال قد يواجهون تهديدات في دوائرهم الانتخابية ما لم يتم الاستماع إلى اقتراح حزب العمال. ونعلم أيضًا أن هويل انتبه لهذه الملاحظة، فهل طلب أدلة تدعم مزاعم ستارمر؟ لم يكن هناك – حتى الآن – ما يشير إلى أنه فعل ذلك.
دعونا نأخذ الرواية المقبولة للأحداث على محمل الجد، إذ أخبر ستارمر هويل وجهًا لوجه بوجود تهديد خطير للديمقراطية البريطانية، وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يصدر ستارمر وهويل بيانا عاما حول تهديد بهذه الخطورة للسياسيين البريطانيين؟
كان يجب أن يكون رئيس الحكومة حاضرًا في الاجتماع حتى يتم إخباره بالتهديد الذي يتعرض له البرلمان، ولو كان حاضرًا – كما ينبغي له – لكانت الأحداث اتخذت منحى مختلفا. ودعونا نلاحظ أمرًا آخر: إن قصة التهديد الإسلامي للبرلمان تناسب كلا من رئيس مجلس العموم وزعيم حزب العمال.
تهديد أوسع
فيما يتعلّق بستارمر، فقد كان ذلك كافيًا لتجنب تصويت محرج للغاية من شأنه أن يكشف عن انقسامات عميقة في حزب العمال. وعندما أخبر النواب بمخاوفه بشأن سلامتهم، تغيّر السرد على الفور، ولم تعد القصة تتعلق بخضوع رئيس مجلس النواب الضعيف للترهيب من زعيم حزب العمال، وإنما أصبح تهديدًا إسلاميًا للديمقراطية البرلمانية.
I get more abuse, threats and racism than most MPs. So I don’t say this lightly.
And to be clear: no-one in public life should have their safety threatened, nor be subject to unacceptable abuse.
But I find the debate about public engagement with MPs concerning. Here’s why. 1/10
— Zarah Sultana MP (@zarahsultana) February 23, 2024
وهي قصة قُبلت من قبل وسائل الإعلام البريطانية المعادية للإسلام دون فحص أو رؤية دليل واحد. أنا لا أقلل من خطورة الاتهامات فالتهديد الفعلي الذي يتعرض له النواب البريطانيون حقيقي ومروع، وفي الواقع، كنت من أوائل الذين حذّروا من العنف ضد أعضاء البرلمان بعد أن تم إدخال جورج جالواي، النائب عن برادفورد ويست، إلى المستشفى في 2014 في أعقاب هجوم وحشي في أحد شوارع لندن على يد بلطجي غاضب على ما يبدو من آرائه بشأن “إسرائيل”.
لم يعرب أي عضو في البرلمان عن تعاطفه حينها، ولا حتى رئيس مجلس النواب آنذاك جون بيركو، وباستثناء مقالتي، لم يكن هناك أي اهتمام صحفي بالموضوع. مع ذلك، كانت حادثة جالاوي تلك بمثابة تحذير شنيع لما سيأتي بعد ذلك. قُتلت النائب العمالية جو كوكس خلال الفترة التي سبقت استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على يد فاشي يميني، وقُتل السير ديفيد أميس على يد مسلم في سنة 2019.
إن التهديد الذي يواجهه أعضاء البرلمان أوسع من التهديد الذي يشكله الإسلاميون، ويظهر التاريخ الحديث أنه ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد. وحتى الآن، كان كل من ستارمر وهويل يتصرفان بناءً على إشاعات أو تلميحات. وهذا أمر متهور وغير مسؤول على الإطلاق. وهذا يعني أنهم معرضون للاتهام، على حد تعبير المعلق اليساري أوين جونز، بأنهم “يحاولون تصوير المسلمين البريطانيين الذين يحتجون سلميًا على المذبحة الجماعية للفلسطينيين المسلمين على أنهم غوغاء خطيرون ومصدر للتهديدات”.
يحتاج كل من هويل وستارمر إلى شرح ما حدث بالضبط في اجتماعهما السري يوم الأربعاء على وجه السرعة، وما هو الدليل على أن النواب تعرضوا للترهيب الجسدي؟ وإذا كان هناك مثل هذا الدليل، لماذا لم يتم توجيه التهم للمشتبه بهم؟ ولماذا لم يتم الإدلاء ببيان في مجلس العموم يوم الأربعاء حول التخويف الجسدي للنواب؟
الافتراءات والتلميحات
إنهم بحاجة إلى التحرك لأن تصريحات رئيس مجلس العموم، سواء عن قصد أم بغير قصد، أدت إلى انفجار الكراهية ضد الإسلام في وجه المسلمين الذين يحتجون على حرب “إسرائيل” في غزة. ربما تكون هناك حقائق ثابتة تكمن وراء تصريحات رئيس مجلس النواب، وإذا كان الأمر كذلك، فيجب عليه، بمساعدة ستارمر، أن يعلن عنها، وينبغي أن يتبع ذلك ملاحقات قضائية. وإذا لم يفعل ذلك فعليه أن يسحب تعليقاته.
من المهم أن نتذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يتم فيها توجيه افتراءات وتلميحات كاذبة حول معارضي الحرب الإسرائيلية في غزة. وأختص بالذكر هنا شيطنة وزيرة الداخلية برافرمان للاحتجاجات باعتبارها “مسيرات كراهية” ومحاولتها حظر إحدى المسيرات الخاصة بالهدنة في لندن في عطلة نهاية الأسبوع.
مع ذلك، ذكرت منظمة “أوبن ديموكراسي” في أوائل شباط/فبراير أن الاعتقالات في المسيرات المؤيدة لفلسطين كانت بمعدل أقل مما كانت عليه في مهرجان جلاستونبري للموسيقى السنة الماضية. وتشير التقديرات إلى أنه تم اعتقال ما معدله 0.5 متظاهر في الاحتجاجات المؤيدة لفلسطين لكل 10000 مشارك.
وفي الفترة بين تشرين الأول/أكتوبر وكانون الأول/ديسمبر – وهي الفترة التي احتج خلالها الملايين – تم اعتقال 153 شخصًا في الاحتجاجات، ومن بين هؤلاء تم إطلاق سراح 117 معتقلاً دون توجيه تهم إليهم. وبينما يزعم الساسة البريطانيون أن المسلمين البريطانيين يشكلون تهديدًا أمنيًا ويعملون على تقويض الديمقراطية البريطانية، فإن هذا الادعاء الخطير والمروّع يوجب على رئيس مجلس العموم وزعيم حزب العمال إثبات ادعاءاتهما. وإذا لم يفعلا ذلك، فمن واجبهما سحبها.
المصدر: ميدل إيست آي