قرر البنك المركزي المصري قبل يومين الإبقاء على أسعار الفائدة الرئيسية دون تغيير في خطوة توقعتها الأسواق المالية، حيث أوضح بيان المركزي أن لجنة السياسة النقدية بالبنك في اجتماعها قررت الإبقاء على سعري فائدة الإيداع والإقراض لليلة واحدة دون تغيير عند 18.75% و19.75% على الترتيب.
مزيد من الغموض والارتباك تثيره سياسة المركزي، فبعدما رفع أسعار الفائدة لمرتين وبشكل غير متوقع تمامًا فاجأ به الأسواق والمحللين الذين توقعوا عدم رفع الفائدة، ها هو يبقي أسعار الفائدة دون تغيير رغم أنه كان من المفترض أن يخفضها كون المعدل السنوي للتضخم العام في شهر أغسطس/آب انخفض إلى 31.9% من 33.0% في يوليو/تموز وتراجع المعدل الشهري للتضخم من 3.2% إلى 1.1% بحسب بيان المركزي نفسه.
السبب الرئيسي وراء سياسة المركزي المصري لرفع الفائدة
قبل الخوض في غمار رفع سعر الفائدة أو خياري خفضها وإبقائها كما هي من قبل البنك المركزي، يجب التنويه إلى السبب الجذري الذي جعل المركزي يقوم بهذه االسياسة، وهو صندوق النقد الدولي، ففي نوفمبر/تشرين الأول الماضي بدأت مصر تطبيق البرنامج الاقتصادي المتفق عليه مع الصندوق، على أن يستمر ثلاث سنوات، تحصل مصر خلالها على قرض بقيمة 12 مليار دولار، يتم تقديمه على دفعات مشروطة بالتزامها بتطبيق الخطوات المتفق عليها في هذا البرنامج.
ويستهدف البرنامج “إعادة استقرار الاقتصاد الكلي وتشجيع النمو الشامل، وتهدف السياسات المدعومة من البرنامج تصحيح الاختلالات الخارجية واستعادة التنافسية مع خفض العجز في الموازنة العامة ووضع الدين العام في مسار متراجع، وتعزيز النمو وخلق فرص العمل مع حماية الفئات الضعيفة في المجتمع”، بحسب بيان صندوق النقد.
من المحتمل أن يخفض المركزي سعر الفائدة في اجتماع السياسة النقدية القادم في 16 من نوفمبر/تشرين الأول بواقع 0.5% حتى يعالج مسألة انكماش الاستثمارات والخروج من فخ الركود التضخمي الموجود حاليًا.
وكانت الأولوية التي ركز صندوق النقد عليها في برنامجه الاقتصادي مع الحكومة المصرية، السيطرة على المعدلات المرتفعة للتضخم، إذ أشار الصندوق في تقريره الأخير المنشور يوم الثلاثاء الماضي عن أداء الحكومة المصرية في تطبيق البرنامج الاقتصادي، إلى معدلات التضخم التي تعدّت 30%، مؤكدًا أن البنك المركزي اتخذ إجراءات للسيطرة عليه، من خلال رفع معدلات الفائدة لسحب السيولة من السوق، علمًا أن التضخّم وصل لمعدلات قياسية في الشهور السابقة، متجاوزًا نسبة 34% في يوليو/حزيران الماضي على مستوى البلاد.
وتبعًا لشروط الصندوق خفضت الحكومة دعم الوقود بنسب تراوحت بين 100% و5.6% في شهير يوليو/حزيران الماضي مستهدفة تحقيق وفر مقدر بنحو 30 مليار جنيه في الموازنة كما زادت أسعار الكهرباء بنسب في حدود 40% في نفس الشهر، وأقدم المركزي على تحرير سعر صرف الجنيه، ليرتفع سعر الصرف من 8 جنيهات للدولار إلى نحو 18 جنيهًا، فاقدًا بهذا نحو نصف قيمته منذ نوفمبر/تشرين الأول الماضي.
وحدد الاتفاق بين مصر وصندوق النقد سقف الإنفاق على الطاقة بنهاية السنة المالية 2016/2017 بـ62.2 مليار جنيه مصري، وألا يتخطى العجز الأولي في الموازنة 29 مليار جنيه، وحسب مشروع الموازنة العامة للعام المالي 2017 / 2018، تتوقّع الحكومة أن تكون قد أنفقت نحو 100 مليار جنيه دعمًا للطاقة، وأن يكون العجز الأولي نحو 65 مليار جنيه.
هناك بدائل عن سياسة رفع سعر الفائدة التي يتبعها المركزي لمعالجة التضخم، عبر الاعتماد على السياسة الضريبية للحد من التضخم، بدلًا من السياسة النقدية، إذ إنّ زيادة الضرائب تؤدي إلى تقليص عجز الموازنة، ومن ثمّ التضخم.
حسب تقرير الصندوق الأخير فقد فشلت مصر في تقليص معدلات الطاقة والعجز المالي في الموازنة والدين العام وفقًا للاتفاق الذي تم بين الصندوق والحكومة، وقد أرجع الصندوق هذا الفشل إلى الانخفاض الحاد في قيمة الجنيه إثر عملية التعويم.
وقد اتبعت الحكومة المصرية الاعتماد على السياسة النقدية من خلال المركزي لمواجهة معدلات التضخم العالية والدين العام والعجز في الموازنة، عبر رفع أسعار الفائدة بهدف معالجة ذاك الخلل، وحسب هذه السياسة أقدم المركزي المصري من جهته على رفع أسعار الفائدة بمقدار 7 نقاط مئوية خلال 9 شهور فقط منذ بداية تطبيق البرنامج الاقتصادي في نوفمبر/تشرين الأول الماضي، ليصبح سعر فائدة الإيداع لليلة واحدة 18.75%، وسعر فائدة الإقراض لليلة واحدة 19.75%.
فخ الركود التضخمي
تلجأ البنوك المركزية إلى رفع أسعار الفائدة، للتحكم بالمعروض النقدي في الأسواق والبنوك، حيث يتجه الأشخاص للإدخار في البنوك للاستفادة من معدل الفائدة المرتفع وهو ما يسمح بتوفير سيولة نقدية لدى البنوك وتتمكن من تغطية حاجة البلاد للقروض المحلية لسداد عجز الموازنة العامة، بمعنى آحر تشير سياسة رفع أسعار الفائدة، إلى بديل استثماري خالٍ من المخاطر بحيث يقوم المستثمرين بتحويل جزء من استثماراتهم من الخيارات الاستثمارية لوضعها في البنوك وأخذ فائدة مرتفعة عليها.
فعندما تكون معدلات الإنفاق أعلى مما يحتمله الاقتصاد وبشكل يؤثر على معدلات الإدخار، ترفع البنوك الفائدة لتشجيع المواطنين على وضع أموالهم بها، وحينما يكون هناك معدلات إنفاق واستثمار منخفضة، تعمد البنوك لخفض الفائدة لتشجيع الموطنين على الإنفاق والاستهلاك على شراء المنتجات والخدمات وأخذ القروض للاستثمار في مشاريع وتحريك عجلة الاقتصاد.
وقد يعاني الاقتصاد من ركود كبير كما هو حاصل في اليابان مثلاً، حيث عمد البنك المركزي هناك لاعتماد فائدة سالبة لتنفير المواطنين هناك من عدم وضع أموالهم في البنوك لأنها ستنقص بفعل الفائدة التي تقدر بسالب 1% وبذلك يجبر المواطنون على تشغيل أموالهم واستثمارها في المشاريع لتدر لهم أرباحًا وبهذا يتحقق تحريك عجلة الاقتصاد الوطني.
استمرت معدلات التضخم بالارتفاع رغم الرفع المتكرر لسعر الفائدة، لأن هناك محددات أخرى أكثر تأثيرًا من ضغوط ارتفاع الطلب مثل تحرير سعر الصرف وارتفاع أسعار الوقود والكهرباء والقيمة المضافة.
في مايو/أيار الماضي عزا البنك المركزي قرار رفع أسعار الفائدة بواقع 200 نقطة أساس إلى محاولة السيطرة على التضخم السنوي والوصول به إلى مستوى في حدود 13% في الربع الأخير من 2018، بعد وصول التضخم إلى عتبة 34% بسبب ارتفاع الأسعار ومدخلات الإنتاج المستوردة جراء تعويم الجنيه، وخفض الدعم على الوقود والكهرباء حيث أدى لارتفاع تكاليف الإنتاج.
فسر العديد من المحللين أن رفع أسعار الفائدة من قبل المركزي كان هدفه تشجيع المستثمرين الأجانب على إقراض الحكومة المصرية أو شراء السندات الدولارية، ولكن هذه السياسة بالمحصلة أدت إلى “ركود تضخمي” سببه امتناع المستثمرين عن الاستثمار ووضع أموالهم في البنوك لأخذ فائدة عالية عليها، وهذا سيؤدي إلى عدم خلق فرص عمل جديدة وانخفاض في معدل النمو الاقتصادي وتدهور مستمر في الاقتصاد، كل هذا على حساب تأمين مستلزمات الحكومة من تغطية العجز والدين العام واللحاق بالتضخم العام.
وعى المركزي المصري هذه العملية في جلسات رفع الفائدة الأخيرة، حيث أقدم على إبقاء الفائدة دون تغيير مرتين على التوالي، ويتوقع الباحث الاقتصادي أشرف إبراهيم لـ”نون بوست” أن يخفض المركزي سعر الفائدة في اجتماع السياسة النقدية القادم في 16 من نوفمبر/تشرين الأول بواقع 0.5% حتى يعالج مسألة انكماش الاستثمارات والخروج من فخ الركود التضخمي الموجود حاليًا.
يعمد المركزي إلى رفع الفائدة عندما تكون معدلات الإنفاق أعلى مما يحتمله الاقتصاد وبشكل يؤثر على معدلات الادخار، فترفع البنوك الفائدة لتشجيع المواطنين على وضع أموالهم في البنوك
وقال الباحث في حديث مع “نون بوست” عن تثبيت المركزي أسعار الفائدة في المرة الأخيرة للمرة الثانية على التوالي بعد التثبيت الأخير في أغسطس الماضي، أنه يأتي كنتيجة منطقية بعد أن رفعها في يوليو الماضي بنسبة 2% لكبح جماح معدل التضخم حتى وصلت أسعار الفائدة إلى معدلات قياسية اقتربت من 20% للإقراض.
ويضيف إبراهيم أن حسابات المركزي كانت غير دقيقة، إذ إن معدلات التضخم استمرت في الارتفاع رغم الرفع المتكرر لسعر الفائدة، لإعتقاده أن معدل التضخم ناجم عن زيادة الطلب بينما هناك محددات أخرى أكثر تأثيرًا من ضغوط ارتفاع الطلب مثل تحرير سعر الصرف وارتفاع أسعار الوقود والكهرباء والقيمة المضافة، والتي أدت في نهاية المطاف إلى زيادة تكلفة السلع ونقص في العرض.
وكان البعض اقترح بدائل عن سياسة رفع سعر الفائدة التي يتبعها المركزي لمعالجة التضخم، عبر الاعتماد على السياسة الضريبية للحد من التضخم، بدلًا من السياسة النقدية، إذ إنّ زيادة الضرائب تؤدي إلى تقليص عجز الموازنة، ومن ثمّ التضخم، وبحسب اقتراح الباحثة، سلمى حسين، فبالإمكان فرض ضرائب تصاعدية على الدخول العليا، خاصة المتولدة عبر الريوع، وفرض الضرائب على الثروات غير المستغلة مثل العقارات المغلقة، والتي تنتقل عبر الوراثة.
أخيرًا لا يبدو أن المركزي المصري يتبع سياسة نقدية تنهض بالاقتصاد الوطني بحيث تقلل من الأعباء التي يتحملها المواطن بسبب ارتفاع الأسعار إلى معدلات غير مسبوقة منذ 30 سنة، ولكنه يتبع وصفة صندوق النقد الدولي الذي قدم للحكومة 12 مليار دولار لقاء القيام بإصلاحات كبيرة لا تصب في صالح المواطن والاقتصاد الوطني بالمحصلة.