انتهت الجولة الثانية من مباحثات باريس، بشأن التوصل إلى اتفاق جديد لإبرام صفقة لتبادل الأسرى بين حكومة الاحتلال والمقاومة الفلسطينية، التي عقدت في العاصمة الفرنسية الجمعة 23 من فبراير/شباط الحاليّ، وسط حالة من التفاؤل والأجواء الإيجابية التي خيمت على تلك الجولة، حسبما قالت وسائل إعلام عبرية.
شارك في تلك الجولة رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية الإسرائيلي (الموساد) ديفيد برنيع، إلى جانب رئيس وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) وليام بيرنز، ورئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل.
ومقارنة بمباحثات القاهرة التي عقدت في الـ13 من الشهر الحالي ووصفت بـ”غير المبشرة”، تحدثت وسائل إعلام عبرية عدة عن “مفاوضات جيدة وأجواء إيجابية” خيمت على جولة باريس الثانية، وهو ما فرض نفسه خلال اجتماع مجلس الحرب المصغر مع الوفد الإسرائيلي العائد من المفاوضات، وفق ما نقلته القناة الـ12 الإسرائيلية، التي قالت إن الحكومة الإسرائيلية سمحت لوفدها بالتوجه إلى قطر خلال الأيام المقبلة لاستكمال المباحثات.
تتسارع الجهود الدبلوماسية لإبرام صفقة عاجلة قبيل دخول شهر رمضان، في ظل الكارثة الإنسانية التي يواجهها سكان قطاع غزة جراء سلاح التجويع الذي تشهره قوات الاحتلال بوجه أكثر من مليوني فلسطيني، في مقابل تصاعد الضغوط الممارسة على حكومة بنيامين نتنياهو من عائلات الأسرى في الداخل وحلفاء الخارج في ظل فشلها في تحقيق أهداف الحرب رغم مرور أكثر من 130 يومًا عليها.. فهل تشهد الأجواء هدنة لالتقاط الأنفاس مع بداية الشهر الكريم؟
تفاصيل الصفقة
تتشابه الصفقة التي يتم مناقشتها على طاولتي باريس والدوحة في كثير من بنودها – وفق ما سربته القناة الـ12 الإسرائيلية – مع الصفقة الأولى التي تمت نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، وتتخلص في التالي:
– إطلاق حركة حماس سراح 40 من المحتجزين لديها من الأطفال والنساء، بمن فيهم المجندات وكبار السن والمرضى، مقابل تحرير الكيان المحتل لمئات الأسرى الفلسطينيين، بعضهم ممن صدر بحقه أحكام بالسجن لسنوات طويلة، وتكون المعادلة 1 إلى 10.
– وقف مؤقت لإطلاق النار لمدة 6 أسابيع قد يمتد إلى فترات أخرى حسب سير الصفقة.
– إعادة الجيش الإسرائيلي لانتشار قواته في قطاع غزة، مع السماح بانتقال النساء والأطفال الفلسطينيين إلى شمال القطاع.
– هناك استعداد إسرائيلي لمناقشة الإفراج عن أسرى محررين في “صفقة شاليط”، الذين أُعيد اعتقالهم سابقًا.
– أبدت تل أبيب مرونة فيما يتعلق بمسائل إعادة إعمار قطاع غزة وعودة النازحين إلى مناطق الشمال لكن وفق ضوابط وترتيبات خاصة.
نقلت رويترز عن القناة 12 الإسرائيلية ومصادر حكومية إسرائيلية أنباء تفيد بأن الاحتلال يبحث تفاصيل هدنة محتملة قبل رمضان، تتضمن:
📌إطلاق سراح 35- 40 إسرائيلياً من غزة مقابل إطلاق سراح مئات الفلسطينيين المسجونين لدى الاحتلال.
📌 وقف العدوان لمدة 6 أسابيع من دون التزام "إسرائيل"… pic.twitter.com/3VOuAi7ri5
— نون بوست (@NoonPost) February 24, 2024
تختلف الصفقة المقترحة في باريس عن نظيرتها الأولى في 3 متغيرات رئيسية، بحسب المعلق الإسرائيلي باراك رافيد، كما نشر موقع “واللا” العبري، أبرزها:
المتغير الأول: بدلًا من تحرير 3 أسرى فلسطينيين مقابل أسير إسرائيلي، تكون المعادلة 10 فلسطينيين مقابل كل إسرائيلي، أي قرابة 3 أضعاف الصفقة الأولى.
المتغير الثاني: إمكانية أن تتضمن الأسماء المفرج عنها من الأسرى الفلسطينيين لدى سجون الاحتلال، متهمين بقتل إسرائيليين وصدر بحقهم أحكام كبيرة، وهو ما لم يحدث من قبل.
المتغير الثالث: مرونة “إسرائيل” في مسألة عودة النازحين الفلسطينيين لشمال غزة، وهو التحول الذي تتجه إليه الأمور وفق ما ذهبت التسريبات الخاصة بتفاصيل اجتماع مجلس الحرب مع الوفد الإسرائيلي الذي يشارك في المفاوضات.
نقاط الخلاف
تحاول حكومة الاحتلال بذل كل ما لديها من أوراق ضغط وتوظيفها بشكل قوي لئلا تختلف الصفقة الحاليّة عن الأولى في بنودها المطروحة، غير أن حماس تتشبث بمواقفها وشروطها الخاصة التي أوردتها في ردها على إطار الاتفاق المقدم وسلمته للوسطاء المصريين والقطريين.
حسب ما نقلته القناة الـ13 العبرية عن هيئة البث الإسرائيلي، فإن هناك 4 نقاط خلافية بشأن مقترح باريس المطروح للنقاش حاليًّا:
أولًا: مطالبة حماس بعودة جميع سكان شمال القطاع وإجلاء جميع قوات الجيش الإسرائيلي من هذه المنطقة، وترى حكومة الاحتلال أن الموافقة على هذا المطلب تعني عودة حماس للسيطرة على شمالي القطاع.
ثانيًا: زيادة المساعدات الإنسانية بجميع أنواعها بحيث تشمل كل مناطق الشمال والجنوب والوسط.
ثالثًا: مدة وقف إطلاق النار، حيث تطالب حماس بوقف دائم للحرب، وهو ما تعترض عليه حكومة الاحتلال التي تريده وقفًا مؤقتًا ريثما يتم الانتهاء من تبادل الأسرى ثم تعود للحرب مرة أخرى.
رابعًا: عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال الذين سيتم إطلاق سراحهم، هذا بخلاف نوعيتهم، إذ تطالب المقاومة بأسماء محددة لها رمزية سياسية خاصة، وهو ما يعترض عليه الاحتلال بشكل كبير.
مصدر قيادي في "حمـ.ـاس": أجواء التفاؤل بقرب التوصل لاتفاق بشأن صفقة التبادل لا تعبر عن الحقيقة pic.twitter.com/v79Z11efhg
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) February 25, 2024
نتنياهو واستعراضاته السياسية
منذ اليوم الأول للحرب يحاول نتنياهو وجنرالاته تصدير صورة مزيفة عن الانتصارات الوهمية المتتالية التي يحققوها في الميدان، رغم الخسائر التي يتكبدها الجيش الإسرائيلي على أيدي المقاومة والموثقة بالصوت والصورة وتؤكد عليها الأرقام الرسمية الصادرة عن الجيش وهيئة البث الإسرائيلية.
يعلم نتنياهو وأعضاء مجلس الحرب المصغر وعناصر حكومة الطوارئ أن جيش بلادهم فشل – مع مرور أكثر من 130 يومًا – في تحقيق أهدافه المعلنة منذ بداية الحرب، ورغم ذلك يحاولون إيهام الشارع الإسرائيلي وخداعه دومًا بأرقام الخسائر المحققة في صفوف المدنيين الفلسطينيين، مستدرين انتصار على حساب أشلاء وجثث الأطفال والنساء العزل.
في الصفقة الأولى التي أبرمت في 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تبنى نتنياهو ووزير دفاعه يواف غالانت خطابًا سياسيًا واحدًا، مفاده أن العمليات العسكرية في غزة هي سبيل الضغط الوحيد على حماس، وأنها السبب في إجبارها على التفاوض، وها هو يكرر الخطاب ذاته اليوم، حين يؤكد أن استمرار الحرب سيجبر المقاومة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وأن التلويح بورقة اجتياح رفح ستكون الكلمة الفصل في ترهيب فصائل المقاومة.
الشرطة الإسرائيلية تعتقل 18 متظاهرًا في تل أبيب بينهم منظم مظاهرة تطالب بإسقاط حكومة نتنياهو pic.twitter.com/d4kYzvl4c0
— الجزيرة مصر (@AJA_Egypt) February 25, 2024
رغم أن حماس قد فرضت شروطها في الصفقة الأولى، وها هي تتمسك بشروطها – حتى الآن – في الصفقة الثانية المقترحة، فإن عنتريات نتنياهو لا تتوقف، فهو يسابق الزمن لتحقيق أي انتصار يعيد له ورقة التوت التي عرته سياسيًا وعسكريًا أمام الجميع، ويبذل كل ما بوسعه لئلا تحقق حماس أي انتصار مهما كان، يقينًا منه أن ذلك يعني باختصار نهاية حياته السياسية وربما إكمال ما تبقى من عمره داخل السجن.
يواجه نتنياهو مأزقًا سياسيًا كبيرًا، في ظل الاحتقان الشعبي جراء فشله في تحرير المحتجزين لدى حماس، كأحد أهداف الحرب المعلنة، حيث وصلت التظاهرات والاحتجاجات المنددة بسياساته وإستراتيجيته في إدارة المعركة والمطالبة بإسقاط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة، مستويات غير مسبوقة.
ولأول مرة تتخلى تلك الاحتجاجات عن طابعها السلمي، حيث شهدت تظاهرات الأمس في تل أبيب وحيفا وإيلات وبئر السبع، مواجهات عنيفة مع الشرطة الإسرائيلية التي اعتقلت 18 متظاهرًا، فيما أصيب آخرين جراء تلك المناوشات التي استخدمت فيها خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع، هذا بخلاف الضغوط الممارسة على نتنياهو من حلفاء الخارج، الولايات المتحدة ودول أوروبا، في ظل إصراره على المضي قدمًا في العمليات العسكرية وتجويع الشعب الفلسطيني لتركيع المقاومة، وهي السياسة التي وضعت حلفاء الاحتلال في مأزق أخلاقي أمام الرأي العام العالمي.
رمضان والعدل الدولية.. هل يدفعان باتجاه الصفقة؟
بعيدًا عن الوضع الإنساني المتردي في غزة، كونه مبررًا ودافعًا كافيًا لوقف الحرب اليوم قبل الغد، إلا أن هناك مقاربتين ربما تمثلان نقطتي دفع قويتين نحو إبرام صفقة تبادل في غضون الأسبوعين القادمين:
الأولى: اقتراب شهر رمضان وما له من مكانة كبيرة لدى الفلسطينيين والشارع الإسلامي بصفة عامة، حيث تخشى كل التقديرات الأمنية من استمرار الحرب خلال هذا الشهر، وما يمكن أن يترتب على ذلك من انفجار للوضع الأمني داخليًا خاصة في القدس، الأمر الذي قد يكون له ردة كبيرة إقليميًا، لذا تسارع واشنطن والوسطاء للوصول إلى اتفاق قبل قدوم رمضان بأي شكل من الأشكال.
الثانية: انتهاء المهلة التي منحتها محكمة العدل الدولية للكيان المحتل لتقديم الوثيقة التي تتضمن التزام تل أبيب بتنفيذ التوصيات التي اتخذتها المحكمة في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، باتخاذ تدابير لمنع وقوع أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين، وتحسين الوضع الإنساني في غزة، لكنها لم تأمر بوقف إطلاق النار.
وقد أعطى نتنياهو أوامره لوزارتي العدل والخارجية بصياغة الوثيقة المفترض تقديمها للمحكمة، حيث من المتوقع أن يتم إرسالها، غدًا الاثنين 26 فبراير/شباط ، حسبما نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية على موقعها الإلكتروني، وقالت إن الكيان سيبلغ رسميًا المحكمة أنه نفذ الأوامر المتعلقة بإدخال المساعدات وتجنب التحريض على الإبادة في القطاع.
"نصف وجبة يوميًا، بمعدل وجبة واحدة كل يومين لكل شخص" .. هي حصة الفلسطينيين في شمال غزة من الطعام إن وُجد، في ظل المجاعة وارتفاع الأسعار مع انعدام المواد الغذائية وانقطاع المساعدات.#غزه_تموت_جوعاً#غزة_تستغيث pic.twitter.com/MxVukN5EDn
— نون بوست (@NoonPost) February 23, 2024
على الجانب الآخر، فإن تفاقم حدة الكارثة الإنسانية في القطاع واستخدام الاحتلال سلاح التجويع ضد المقاومة، في ظل الخذلان العربي والإقليمي والدولي، يمثل ضغطًا كبيرًا على حماس التي تضع في حساباتها تفاقم الوضع وما يمكن أن يترتب عليه من تداعيات.
لذا فمن المتوقع أن تُبدي المقاومة مرونة نسبية في تعاطيها مع بنود الصفقة المطروحة – دون التخلي عن صلب شروطها ومواقفها – من أجل منح سكان القطاع متنفسًا خلال رمضان، وهدنة لالتقاط الأنفاس، وذلك عبر الإفراج عن عدد من المحتجزين لديها من النساء وكبار السن، من أجل تفويت الفرصة على المحتل لاستخدام هذا السلاح لهزيمة المقاومة.
عن هدنة "رمضان".
أخبار وتسريبات لا تتوقف بشأن المفاوضات الجارية لإنجاز هدنة في رمضان، عنوانها إطلاق نحو 35 أسير إسرائيلي من النساء وكبار السن والمرضى، مقابل عدد من أسرى شعبنا، بجانب هدنة لنحو 40 يوما، تتضمّن إدخال مساعدات كبيرة إلى القطاع، مع شروط أخرى، وذلك كمرحلة أولى قد…
— ياسر الزعاترة (@YZaatreh) February 25, 2024
ويرى المحلل الفلسطيني ياسر الزعاترة أن كل تلك العوامل ربما تحرك المياه الراكدة في مسار التوصل إلى اتفاق عاجل قبل شهر رمضان، لافتًا إلى أن عنتريات نتنياهو المزعومة بين الحين والآخر ما هي إلا نوع من الضغط الذي يمارسه على المقاومة لتقديم تنازلات، ولا علاقة لذلك بما يحدث ميدانيًا.
وهكذا يترقب أكثر من مليون ونصف نازح ومشرد في رفح وخانيونس ومناطق الشمال في انتظار ما ستسفر عنه تلك المفاوضات، آملين أن تمنحهم هدنة مؤقتة لتنفس الحياة بعدما زكمت روائح الموت أنوفهم.. فبأي هلال يحل رمضان عليهم؟