بعد سيطرتها على عدة نقاط استراتيجية في مناطق سيطرة المعارضة، أضحت تُثار الكثير من التساؤلات عن ماهية التكتيكات التي اتبعتها الهيئة في سبيل احتكار السيطرة، ويمكن أن يُساق في معرض الإجابة عن هذه التساؤلات عدة تكتيكات أهمها: كسب الدعم الشبعي نتيجة نجاح عملياتها الاستراتيجية العسكرية ضد قوات النظام، التسلسل الهرمي المركزي والفعال في القيادة، تفعيل الخطاب المتين القادر على استقطاب عدد من مقاتلين الفصائل الأخرى، المرونة في الخطاب بشأن متطلبات الثورة وأهدافها، وغيرها الكثير من الأهداف الأخرى. لكن في تقديري يبدو أن قاعدة “رأس المال هو أساس نجاح كل مشروع” هي الأجدر بأن تكون العامل الأول وراء إحراز الهيئة السيطرة المشهودة، فقد حققت بفعل تكوين عدة مناهل اقتصادية، استقلال اقتصادي ذاتي مكنها من امتلاك قرار يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية مقارنة بالفصائل الأخرى.
وعلى هامش الرغبة في الاطلاع على المناهل الاقتصادية التي تعتمد عليها الهيئة، اشتركت وعدد من الباحثين المطلعين في جلسة النقاش التي عُقدت بالتشارك بين مركز جسور ومركز الشرق للسياسات، في 4 من آب/أغسطس المنصرم، تحت عنوان “خيارات ما بعد الأستانة”، وبعد نقاش طويل، أسعفنا الباحث سعد الشارع، الذي أمضى وقتًا طويلاً داخل الأراضي السورية خلال الثورة، بعدة نقاط توضح المصادر الاقتصادية الذاتية للهيئة:
ـ المعابر التجارية: كمعبر السعن في ريف حماه الشرقي “بينها وبين النظام”، ومعبر أم حارتين في سهول حماه الشمالية “بينها وبين النظام”، والمعبر الرابط إدلب بمناطق الأكراد في عفرين.
ـ الأسواق التجارية: ويأتي على رأسها سوقا الذهب والتحويلات في سرمدا وسنجار.
ـ المردود الزراعي: لا سيما في منطقة إيكاردا المشهورة بزراعة القمح.
هيئة تحرير الشام ليست حماس، عندما سيطرت حماس على قطاع غزة عام 2007، كانت عبارة عن حزب سياسي حاز على 73% من نسبة الانتخابات التشريعية
ـ المصانع: كمصانع الأدوية والأسمدة الزراعية.
ـ سوق تجارة السلاح: ينشط بشكل أساسي في مناطق ريف حماه.
ـ تجارة البشر: وتتم هذه التجارة عبر خطف أشخاص محليين مطلوبين أو دوليين وطلب الفدية مقابل إطلاق سراحهم.
ـ بيع الكهرباء التي تأتي من النظام بمقدار 100 ميغاوات، بشكل مجاني، مقابل أن يعطوا حلب منها 25 ميغاوات.
تجارة النفط
قد تكون هذه المصادر المذكورة أعلاه، شكلت مصادر اقتصادية تمويلية ذاتية لهيئة تحرير الشام، لكن بحسبان المعادلة الدولية التي لا تريد أن تواصل الهيئة سيطرتها على المنطقة، وباعتبار أن المصادر الاقتصادية المذكورة مصادر لا تشكل دورة اقتصادية تظفر بتوازن بين “اقتصاد سلطة الهيئة” و”اقتصاد المواطن المقيم في إدلب”، يتضح أن سيناريو صمود الهيئة مقابل التحديات الدولية والاجتماعية والاقتصادية مجرد ضرب من الخيال، ولإضفاء إيضاح أفضل عن سيناريوهات سيطرة الهيئة على إدلب، يمكن سرد التالي:
ـ سيناريو غزة: بالتمعن في الإجراءات التي تقوم بها الهيئة، من السيطرة على معبر باب الهوى ومهاجمة النظام والمليشيات الداعمة له في ريف حماه، يُستقى وكأن الهيئة تحاول استنساخ سيناريو سيطرة حماس على قطاع غزة عام 2007، حيث تكتسب شرعيتها الشعبية بفعل مهاجمتها لقوات النظام، وتُنظم حركة المواطنين الخارجية عبر تحويل معبر الهوى إلى وضعية معبر رفح الرابط بين قطاع غزة ومصر. لكن، يبدو واضحًا أن هذا السيناريو خيالي بشكل كبير، لعدة أسباب:
الشواهد الميدانية تؤكد لنا بأن نسبة كبيرة من المواطنين المقيمين في إدلب أصابهم اليأس، وباتوا يفكرون بواقعية تأخذ بهم نحو الرغبة في إنهاء الأزمة التي لم تحقق لهم ما ينشدون من حرية وعدالة اجتماعية
– هيئة تحرير الشام ليست حماس: عندما سيطرت حماس على قطاع غزة عام 2007، كانت عبارة عن حزب سياسي حاز على 73% من نسبة الانتخابات التشريعية، وأسندت حماس، حينها، تحركها إلى حقها الشرعي في مقاومة العناصر التي تحاول نزعها الشرعية، ذلك العنصر الذي تفتقده هيئة التحرير بالمطلق على الصعيدين المحلي والدولي. أيضًا، لم تشكل حماس خطرًا استراتيجيًا على الأمن القومي الاستراتيجي لمصر، حيث رأت مصر نفسها، بعد فترة من سيطرة حماس على القطاع، مجبرةً على فتح معبر رفح، لأنها ليست طرفًا في الأزمة الفلسطينية الداخلية، ولم تكن تملك ذريعة شرعية لغلق المعبر، كما أنها وجدت في انتهاجها “تحرك وقائي” يقبل بحكم الأمر الواقع لحماس التي أتت عن طريق الانتخابات، والتي كانت، في حينها، تحظى بقبول شعبي ملموس، الخيار الأفضل لتجنيب أمنها القومي احتمال الانفجار الداخلي لسكان قطاع، على العكس من الوضع في إدلب، حيث إن “التحرك الوقائي” يقضي بفض سيطرة جبهة النصر بالكامل. ففكريًا حماس حركة تحرر وطني تحظى بقبول عالمي نسبي ولا تهدد أمن الدول المجاورة لها، أما هيئة تحرير الشام فتمثل الفكر الجهادي التوسعي الذي يهدد الأمن القومي والتماسك الاجتماعي لأي دولة قريبة منها، لا سيما تركيا.
– عامل الوقت غير المواتي للتطورات الجارية: الشواهد الميدانية تؤكد لنا بأن نسبة كبيرة من المواطنين المقيمين في إدلب أصابهم اليأس، وباتوا يفكرون بواقعية تأخذ بهم نحو الرغبة في إنهاء الأزمة التي لم تحقق لهم ما ينشدون من حرية وعدالة اجتماعية، والتي عادت عليهم بحكم “الجماعات المتطرفة” التي تطبق عليهم “أحكام الترهيب” بعيدًا عن “أحكام الترغيب” التي قدمها الدين الإسلامي على الترهيب. فتوق المواطنين المقيمين في إدلب للأمن، ورغبتهم في إنهاء الأزمة غير المجدية بالنسبة لهم، وضيقهم ذرعًا بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والديني المتردي، وغيرها، عوامل تدفع بالمواطن العادي، ومن خلفه بالفصائل المسلحة المؤمنة بالواقعية السياسية، برفض هذا السيناريو.
ـ صعوبة استدامة الاستقلالية الاقتصادية: كما سلف ذكره، مناهل الدورة الاقتصادية للهيئة تصب في صالح السلطة فقط، وإن كان هناك بعض المناهل التي قد تعود على المواطن بالفائدة النسبية كالزراعة أو الأسواق التجارية، فالفائدة هنا ضيئلة ومحدودة بفئة ضيقة جدًا، فالمجتمع لا يعمل جميعًا في هذه المهن، ولا يوجد حسابات جارية أخرى كالخدمات أو الصناعة أو التجارة المتبادلة، وتنعدم الحسابات الرأسمالية “التحويلات المصرفية” أو رواتب الموظفين، وتنعدم المساعدات المالية أو الاستثمارات التشغيلية المستدامة، لعزوف عدد من المنظمات الدولية عن العمل هناك، ولا يوجد قبول دولي لاستمرار التبادل التجاري والمالي بين الهيئة والفواعل المجاورة لها. تركيا أغلقت معبر باب الهوى فور سيطرة الهيئة، ولا شك أن النظام والأطراف الأخرى ستجد نفسها أولى بإغلاق المنافذ المؤدية للجبهة.
قد لا يتكرر سيناريو فرز المعتدلين داخل الهيئة ومشاركتهم في السلطة، وإقصاء المتطرفين وحسر نشاطهم تمامًا كما تم في الصومال
ـ سيناريو الصومال: يتمحور سيناريو الصومال حول حكم المحاكم الإسلامية الذي بدأ في الصومال منذ عام 1991، حيث بدا حكمها بكيانين: الأول يجمع الصوفية وتنظيم أهل السنة والجماعة والإخوان، وغيرها من التيارات “المعتدلة أو الوسطية” التي تميل إلى الحلول السلمية في العادة، وتيار “السلفية الجهادية” الذي يتبني عادةً خيار “التغلب” أو “الحسم العسكري”.
لاقى اتحاد “المحاكم الإسلامي” دعم العلماء وزعماء العشائر ورجال الأعمال الصوماليين، لدوره في تحقيق الأمن ومواجهة العصابات، وعدم إبداء التصعب في تحركاته على الصعيدين الداخلي والدولي، واستمر على ذلك، حتى آذار/مارس 2004، حيث برز تنظيم “حركة المجاهدين الشباب” “السلفي” الذي انفصل عن “المحاكم الإسلامية”.
حقق تحرك “المحاكم الإسلامي” المعتدل الذي لم يحد عن توجهه رغم استدعاء المحكمة الانتقالية القوات الإثيوبية في كانون الأول/ديسمبر 2006، ضد، التيار الإسلامي المعتدل، حيث انتخب البرلمان الصومالي، بدعم إقليمي ودولي، رئيسه الشيخ شريف شيخ أحمد رئيسًا للصومال، بعد توليه لذلك المنصب، حل شيخ أحمد “المحاكم الإسلامية”، محدثًا شرخًا في الصومال أفضى إلى ظفر التيار المعتدل بفرصة المشاركة السياسية، وإقصاء التيار السلفي المتطرف وحصر نشاطته.
باتت المعادلة الدولية ماضية نحو تحويل إدلب إلى منطقة “خفض تصعيد” تخضع لسيطرة الدول الضامنة
قد لا يتكرر سيناريو فرز المعتدلين داخل الهيئة ومشاركتهم في السلطة، وإقصاء المتطرفين وحصر نشاطهم تمامًا كما تم في الصومال، لكن يمكن لتركيا، على وجه الخصوص، كونها الأقرب لمناطق سيطرة الفصائل والأجدر بإجراء تدخل يغير المعادلة، إحداث شرخ داخل الهيئة يفرز المعتدلين ويقصي المتطرفين أو يُنهي سيطرتهم، عبر تحقيق سيرورة “التحلل الناعم” للهيئة، بحيث يتم التواصل مع الفصائل “غير القاعدية” و”الشرعيين” الواقعيين أصحاب المسوغ الديني الذي قد يدعم الرؤية التركية، واستقطاب قيادات الشبكات الاقتصادية والاجتماعية المؤثرة داخل الهيئة، والذين قد يقبل بعضهم بذلك مقابل الأمان، وتصفية أصحاب المناصب الأمنية والعسكرية والدينية العليا “حراس المعبد” الذين يرفضون مبادرات الحل.
ـ سيناريو أفغانستان: يأخذ سيناريو قاعدة أفغانستان التي حصلت على الدعم الأمريكي ضد القوات السوفيتية، بالاعتقاد أن الدول التي وظفت “جبهة النصرة” أو “الهيئة” في خدمة مصلحتها، قد تتجه نحو التخلص منها، من أجل مصلحتها أيضًا، والمقصود هنا تركيا “البراغماتية” على وجه التحديد. وبعد هجومهم على إدلب، بطريقة مباشرة أو عبر “حرب الوكالة”، قد تضطر القيادات الرافضة لمعادلة الحل في إدلب، وفيض واسع من “المجاهدين المهاجرين” إلى سبق التحرك التركي والانتقال إلى البادية أو الجبال، كما آل الأمر بتنظيم القاعدة، وبالتالي يُصبح هناك حرب كر وفر تجريها هذه الكوادر ضد الدول الضامنة التي قد تفلح بالتخلص منها عبر حرب شاملة أو خروقات استخباراتية فاعلة يرافقها دعاية سياسية سوداء ضدهم، وبحسبان الوضع الشعبي السوري الذي يرفض التطرف يصبح هذا السيناريو ممكنًا، ولكن، إن أخفقت هذه الدول بالتخلص منهم قبل أن يصبحوا سكان الجبال أو ما تحت الأرض، فسيصبح لديها صداع دائم.
في المحصلة، باتت المعادلة الدولية ماضية نحو تحويل إدلب إلى منطقة “خفض تصعيد” تخضع لسيطرة الدول الضامنة، وعليه فإن سيناريوهي الصومال وأفغانستان هما الأقرب في تحديد مآل سيطرة الهيئة على إدلب.