“من النقاشات الألمانية حول إسرائيل وفلسطين يمكنك أن تتعلم القليل عن الشرق الأوسط، ولكن الكثير عن ألمانيا”؛ عبارة لأستاذ العلوم السياسية دانييل مارفيكي (Daniel Marwecki)، مؤلف كتاب “ألمانيا وإسرائيل: تبييض الصفحة وبناء الدولة” (Germany and Israel: Whitewashing and Statebuilding). الكتاب يحلّل بشكل ممتاز علاقة ألمانيا و”إسرائيل”، ويذكر العديد من الجوانب النفسية التي ألهمت هذا المقال.
يذكر الكاتب أن النقاشات حول “إسرائيل” في ألمانيا هي عبارة عن إسقاطاتٍ نفسية واجتماعية، تلعب “إسرائيل” فيها دور مَوضِع الإسقاط، ويتم إسقاط جوانب مختلفة من الهوية الألمانية عليها، كما سنوضّح.
في مقالٍ سابق تحدّثنا عن عقدة الهولوكوست عند الألمان، وذكرنا أن الشعب الألماني يعاني من مشاعر بالذنب والعار بسبب الهولوكوست، وأن الهوية الألمانية الجديدة منذ الوحدة الألمانية جعلت الفخر بكيفية مواجهة الماضي ودعم ضحايا الهولوكوست ركنًا من أركانها، ليحلّ بديلًا عن مشاعر العار والذنب التي لا تطاق. قمنا في المقال السابق أيضًا بذكر لمحة تحليلية نفسية للموقف الألماني من “إسرائيل”.
في هذا المقال المعمّق، سننزل طبقةً أعمق ونتوسّع أكثر في التحليل النفسي للموقف الألماني من “إسرائيل”.
تعدّ آليات الدفاع النفسية من أساسيات التحليل النفسي والديناميكيات النفسية، وهي آليات لاواعية تتحرك في داخل نفس الإنسان، لتحميه من أن يعي مشاعره أو نزعاته المدانة أخلاقيًّا أو المستنكرة اجتماعيًّا أو المزعجة له، أي سواء كانت مرفوضةً منه هو أو من الآخرين.
آليات الدفاع تهدف إلى إبقاء المشاعر المزعجة قابعة في اللاوعي حتى لا يضطر الإنسان إلى مواجهتها، فتحمي تماسك النفس الإنسانية. كلّ إنسان منا يستخدم بالضرورة آليات دفاعية نفسية في كل لحظة، وهذا ضروري ليستطيع متابعة حياته والتكيّف معها.
لكن بعض هذه الآليات لها تأثير مرَضيّ أو تؤدي إلى تكيّفات ضارة أو ترسيخ سلوكيات لاأخلاقية أو حتى إجراميّة. والأصل أن آلية الدفاع النفسية ظاهرةٌ فردية، لكنها قد تتطور إلى ظاهرة جماعية، لا سيما في المنعطفات التاريخية للأمم، كما سنرى.
سنفصّل في 3 آليات دفاعية عند الألمان. هذه الآليات تتداخل في ما بينها، لكننا سنسعى إلى توضيح كلّ منها على حدة. سنلاحظ أيضًا أن المقال يذكر العديد من الخلفيّات التاريخية والأمثلة ذات الصلة الوثيقة بآليات الدفاع هذه، والتي تشرح سياقها التاريخي وتساعد على فهمها.
لمحة تاريخية
خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الأولى بخسارة مذلّة ضد الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وأمريكا)، ومات 4% من سكانها وعانى الشعب الألماني من مجاعة كارثية، وحُمّلت ألمانيا المسؤولية الكاملة عن الحرب وأُلزمت بدفع تعويضات ضخمة للحلفاء (ما يعادل 40 ألف طن من الذهب، لم تنتهِ من دفعها إلا عام 2010).
معاناة الحرب وما بعدها كوّنت بشكل طبيعي مشاعر بالذل والظلم عند الألمان، وبأنهم ضحايا حرب. بعدها عادت قوة ألمانيا للتصاعد وبدأت الحرب العالمية الثانية، والتي كانت مدفوعة جزئيًّا بشعور الضحية لدى الألمان والرغبة بالتعويض والانتصار. لكن ألمانيا خسرت الحرب العالمية الثانية أمام الحلفاء مجددًا، خسرت أكبر حرب في التاريخ.
معظم المدن الكبيرة والمتوسطة دُمّرت، عانى الشعب معاناةً هائلة أثناء الحرب وبعدها، مات 10% من سكان ألمانيا في الحرب، غير المشردين ومبتوري الأطراف، اغتصب السوفيت في نهاية الحرب ما بين مليون ومليوني امرأة ألمانية، وأُلزمت ألمانيا بدفع تعويضات هائلة مجددًا.
من الطبيعي أن يشعر الشعب الألماني إزاء خسارةٍ كهذه بمشاعر هائلة بالقهر والظلم، وبكونهم ضحايا للحرب مجددًا، فالناس لا يتحكمون بسياسات الحكومة الخارجية وقراراتها العسكرية، وهم في النهاية كانوا ضحيةً للحرب فعلًا. لكن الألمان اليوم لا يحقّ لهم الشعور بأنهم كانوا ضحايا.
كل الشعوب التي عانت في الحرب ستشعر بشكل أو بآخر بشعور الضحية. الاتحاد السوفيتي مثلًا خسر من سكانه في الحرب أكثر من الألمان، إلا أن الفارق الكبير هو أن الاتحاد السوفيتي خرج منتصرًا من الحرب، أي حقّق ما دفع هذه الأثمان لأجله، ثم برز كقوةٍ عظمى في العالم.
أما ألمانيا فخسرت كل ما خسرته، ثم خسرت في الحرب وخسرت قوتها في العالم، واستسلمت أمام أعدائها الذين احتلوها ثم قسموها إلى قسمَين، كل قسم انضوى تحت لواء جهةٍ من الحلفاء، ألمانيا الشرقية تحت لواء الاتحاد السوفيتي وتم دمجها في حلف وارسو، والغربية تحت لواء الولايات المتحدة وتم دمجها في حلف النيتو، وكل هذا يهدف إلى تحييد الخطر الألماني نهائيًّا وتحجيم ألمانيا.
مع هذا، يمكن اليوم لأي شعب أن يشعر أنه كان ضحية للحرب إلا الألمان. الألمان يطغى لديهم اليوم الشعور بأنهم كانوا المجرمين لا الضحايا، وذلك لأنهم ساهموا في الهولوكوست الذي يعدّونه أفظع مجزرة في التاريخ. وهذا أمر آخر يتوجّب على الألمان مواجهته. فهم لم يخسروا الحرب بشكل مذلّ فقط، بل عليهم مواجهة حقيقة أنهم ارتكبوا مجزرة الهولوكوست الفظيعة.
التماهي مع الضحية (Identification with the victim)
وهي الآلية الدفاعية الأولى.
خسارة ألمانيا ودمارها واستسلامها المذل في الحرب العالمية الثانية كانت أمورًا كارثية بكل المقاييس على الأمة الألمانية، وعانى الشعب بسببها معاناة لا توصف. من البديهي أن بلدًا دُمّر بالكامل وشعبًا تشرّد وجاع ومن ثم استسلم سيتولّد لديه شعور شديد بالمعاناة والقهر، وسيرى نفسه ضحية للحرب، إلا أن هذا مُدان وممنوع على الألمان اليوم، فوصف الألمان لأنفسهم بأنهم كانوا ضحايا يُعتبر مباشرة هروبًا من مسؤولية ارتكاب الهولوكوست، وبالتالي شكلًا من معاداة السامية المدانة بشدّة في ألمانيا.
هذا الشعور الشديد لا بدَّ أن يعبّر عن نفسه بطريقة أخرى مسموحة. لذا يقوم الألمان بالمبالغة في وصف معاناة اليهود الإسرائيليين اليوم كضحايا، ومن ثم التماهي معهم ومع معاناتهم تلك. يصفون معاناة الإسرائيليين ويرتكسون تجاهها بانفعال ومشاعر قوية، وكأنهم هم الضحايا.
من البديهي أيضًا أن بلدًا هُزم عسكريًّا واستسلم بشكل مذلّ، سيكون لديه إحساس مريع بالهزيمة وتوق شديد للنصر واستعادة القوة. لكن معاداة الألمان للحلفاء اليوم غير واردة على الإطلاق، بل إن ألمانيا تعدّ تابعة للولايات المتحدة. وبالتالي تتوجّه الرغبة في فرض القوة العسكرية والتوق للنصر إلى أعداء “إسرائيل”، ويحدث التماهي مع “إسرائيل” مجددًا، ويظهر الفرح الألماني عندما تنتصر “إسرائيل”، وكأن الألمان هم المنتصرون.
إذًا: يتماهى الألمان مع اليهود (الممثَّلين بـ”دولة إسرائيل” تحديدًا) في أمرَين على الأقل:
– التوق إلى القوة والنصر والفخر بالإنجازات العسكرية.
– شعور الضحية.
وفي كلّ من هذين الأمرَين يقوم الألمان بإسقاط جوانب من هويتهم وتاريخهم على الشرق الأوسط، كما سنرى في آلية الإسقاط.
لماذا يحدث التماهي عند الألمان مع “إسرائيل” بالذات؟ لأن التماهي مع الضحية هو آلية دفاعية تهدف أساسًا إلى كبت مشاعر العداء تجاه الضحية، أو كبت مشاعر الذنب تجاهها بسبب أذية سابقة. عبر التماهي مع الضحية تصير الضحية ممثّلًا للذات، وتغرق مشاعر العداء تجاهها في اللاوعي. فالتماهي مع “إسرائيل” يهدف إلى كبت معاداة السامية الموجودة عند الألمان منذ قرون، وكبت شعور الذنب تجاه اليهود بسبب جرائم النازية.
من جهة أخرى، الشعور بالذنب عند الألمان تجاه الهولوكوست لا يتكوّن إلا عبر التماهي مع المعتدي (Identification with the aggressor). لا يمكن أن ينشأ لديك شعورٌ بالذنب تجاه فعل لم ترتكبه بنفسك، إلا إذا كنت تشعر بالتماهي مع الفاعل أو بأنه يمثلك أو يشبهك، أو بأن كان يمكن أن تفعل ما فعل.
شعور الألمان الشديد بالذنب تجاه الهولوكوست يخفي تحته شعورًا بالتماهي مع النازيين، وبالتالي بالذنب بسبب أفعالهم، بينما لا يشعر العرب أو المكسيكيون مثلًا بهذا التماهي ولا بالذنب تجاه أفعال النازية، مع أن كلًّا من الألمان الحاليين والعرب والمكسيكيين لم يرتكبوا الهولوكوست بأنفسهم. أي أن كثرة التبرّؤ من النازية عند الألمان تدلّ على تقارب نفسيّ وهوياتيّ لاواعية معها.
لتوضيح الفكرة أكثر، فلنضرب مثالًا بظاهرة عايشها الكثيرون. في سنوات نشاط تنظيم “داعش” وارتكابه لعمليات إجرامية، كثرت مطالبات للمسلمين بالتبرؤ من “داعش” لدفع التهمة عن أنفسهم. بعض المسلمين شعروا بالذنب بسبب أفعال “داعش”، وبالحاجة للاعتذار والتبرّؤ المتكرر منها، رغم أن هؤلاء المسلمين لم يكن لهم تأثير أو سلطة على “داعش” أكثر من شخص بريطاني أو صيني. شعور هؤلاء المسلمين بالذنب والحاجة للاعتذار يدلّ على تماهٍ مع المجرم. أما من لم يشعروا بالذنب وبالحاجة للتبرؤ المتكرر من “داعش”، فهم الذين يشعرون في داخلهم أنه لا يمثلهم فعلًا.
هذا التماهي قد ينشأ ويشتدّ إذا تعرّض الإنسان إلى ضغوط خارجية تدفعه إلى خانة المجرم، أو تطالبه بالتبرّؤ منه باستمرار لدفع التهمة عن نفسه، وهذا ما حدث لبعض المسلمين بخصوص “داعش”، وما يحدث للألمان بخصوص النازية، والذي يدفع الألمان إلى هذه الخانة هو الدولة الألمانية نفسها بتأثير خارجي من الولايات المتحدة.
المهم في اليهود بالنسبة إلى ألمانيا هو مدى تبنّيهم للرواية الألمانية وليس مدى يهوديتهم. ألمانيا بهذا تقوم بتشييئهم وتراهم أدوات لخدمة روايتها
إذًا، شعور التماهي مع الضحية -وهي اليهود الممثلون بـ”دولة إسرائيل” حصرًا- آلية تهدف إلى كبت شعور العداء نحوها وشعور الذنب تجاهها بسبب جرائم النازية، أي أنها تهدف إلى كبت شعور التماهي مع النازية. هذا يعني أن شعور التماهي مع النازية يقع في طبقة أكثر عمقًا في اللاوعي لدى الألمان من شعور التماهي مع اليهود. في النهاية ومهما حدث، النازيون هم ألمان واليهود هم “الآخر”.
لماذا أكرر أن التماهي هو مع اليهود الممثلين بـ”إسرائيل” حصرًا؟ لأن اليهود المعارضين لـ”إسرائيل” لا يخدمون الرواية الألمانية ويهددون آليات الدفاع النفسية الألمانية، فيتعرضون للتهميش إعلاميًّا ولا يسلَّط الضوء عليهم.
تشير الكاتبة الشهيرة ديبورا فيلدمان، اليهودية الأمريكية-الألمانية، في كتابها Judenfetisch أو “فيتيشية اليهود”، إلى أن ألمانيا “تصنع يهودها”، أي أن الإعلام يدعم ويعظّم من شأن أي مواطن اكتشف شخصًا يهوديًّا ما في سلالته، فقرر فجأة أن يعرّف عن نفسه كيهودي ويتعصّب لـ”إسرائيل” متبنيًا الرواية الألمانية، حتى دون أن يكون لديه أي التزام بتعاليم اليهودية ودون أن تكون أمه يهودية (وهو الشرط في التعاليم الأصلية).
أي أن المهم في اليهود بالنسبة إلى ألمانيا هو مدى تبنّيهم للرواية الألمانية وليس مدى يهوديتهم. ألمانيا بهذا تقوم بتشييئهم وتراهم أدوات لخدمة روايتها. تذكر فيلدمان أن البيئة الألمانية والإعلام الألماني يمارسان ضغطًا غير معلن على اليهود، لكي يتبنوا الرواية الألمانية في تذكّر الهولوكوست ودعم “إسرائيل” باعتبارهما صكّ غفران ومدعاة فخر لألمانيا، فلا يطرب الألمان لسماع صوت اليهود المنتقدين لـ”إسرائيل”، مثل فيلدمان وغيرها.
لسان حال الألمان يقول: “أنتم يهود وكلكم عانيتم من الهولوكوست، وكلكم ترون إسرائيل وطنكم ونحن ندعمها من أجلكم، وهذا يكفّر عن ذنوبنا ويظهر شجاعتنا”. يؤدي هذا بحسب فيلدمان إلى استبدال يهود مزيفين باليهود الحقيقيين، وبالتالي إلى الاستمرار في تدمير اليهودية في ألمانيا.
يظهر من هذا مقدار التمركز حول الذات عند الألمان في دعمهم لـ”إسرائيل”، وهذا في ذاته من مظاهر التماهي.
(على الهامش وعلى ذكر التماهي مع المجرم؛ هناك نوع آخر منه، وهو تبنّي أدوات المجرم وتكرار إجرامه. وهذا ينطبق على الإسرائيليين الذين لديهم ماضٍ مرتبط بالهولوكوست ويمارسون العنصرية والإبادة على الفلسطينيين. هم في هذه الحالة يتماهون مع النازيين الذين يتبرّأ منهم الألمان).
الإسقاط (Projection)
وهي الآلية الدفاعية الثانية.
بعد انتصار “إسرائيل” في حرب النكسة عام 1967، نشرت صحيفة “بيلد” الألمانية عنوانًا عريضًا يقول: “إنه النصر! دايان هو رومل إسرائيل!”.
شبّهت الصحيفة موشيه دايان، وزير دفاع “إسرائيل” في الحرب، بإرفين رومل، أحد أكبر قادة الجيش الألماني والملقّب بثعلب الصحراء. رومل كان جنرالًا في الجيش الألماني (الفيرماخت Wehrmacht) قبل فترة النازية، واستمر خلال فترة النازية كأحد جنرالات هتلر، قبل أن يتحول ضد هتلر لاحقًا، أي أنه بحسب النظرة السائدة اليوم يحمل رمزية مختلطة (مع وضدّ النازية). لكن في ذلك الوقت كان الفيرماخت يعتبر بحدّ ذاته رمزًا وطنيًّا ألمانيًّا وليس رمزًا نازيًّا كما الآن. وبالتالي كان رومل يحمل رمزية جيدة فقط لكونه قائدًا في الجيش انقلب ضد هتلر.
رومل جنرال عسكري فذّ وحقق انتصارات للألمان على عدة جبهات. وصحيفة “بيلد” شبّهت دايان برومل عند انتصار “إسرائيل” في حرب النكسة، وفي هذا يتجلى تماهي الألمان اللاواعي مع “إسرائيل”، ورؤيتها كامتداد ألماني، وإسقاط الرموز والقدوات والرغبات الألمانية عليها. النصر الذي يشكل هاجسًا لدى الألمان، يحققونه عبر التماهي مع نصر “إسرائيل”.
تمجيد الإسرائيليين عسكريًّا بهذه الطريقة، من قبل أمة مهزومة عسكريًّا، يوضّح أيضًا التماهي معهم وإسقاط رغبات الألمان وهويتهم عليهم.
ليس هذا فقط، بل إن مؤسس صحيفة “دير شبيغل” نشر مقالًا في صحيفته بمناسبة نصر “إسرائيل”، قال فيه عن المعركة “إن الجنود الإسرائيليين عبروا (أرض المعركة) مثل رومل”. مقال “دير شبيغل” طويل جدًّا ومكتوب بصيغة إنشائية مليئة بالفخر والفرح بنصر الإسرائيليين، وكيف أذاقوا العرب شرّ هزيمة. الوصف والفخر والمشاعر تشعر القارئ أن ألمانيا هي المنتصرة في الحرب لا “إسرائيل”.
المقال وصف النصر أيضًًا بأنه “نصر خاطف في الحرب الخاطفة (Blitzsieg im Blitzkrieg)”. ولفظة الحرب الخاطفة (Blitzkrieg) كانت أصلًا تستخدَم لوصف تكتيكات الجيش الألماني، أي أنها من مفردات القاموس العسكري الوطني الألماني.
تشبيه نصر “إسرائيل” بنصر ألمانيا، وقائد جيش “إسرائيل” بقائد ألماني، ولفظة الحرب الخاطفة، والوصف الإنشائي الفخور بنصر “إسرائيل”، وكل هذا في ظل دعم ألمانيا العسكري لـ”إسرائيل” الذي ساهم في ذاك النصر بشكل مباشر، يُظهر بكل وضوح التماهي الألماني مع “إسرائيل” كآلية دفاع نفسية وإسقاط الرغبات الألمانية اليائسة في النصر عليها، فتخرج مشاعر الفخر بالنصر التي طالما تاقت إلى الخروج. أي أن “إسرائيل” يتم “ألمنتها (Germanification)” بشكل لاواعٍ.
مقال آخر لصحيفة “شتوتغارتر تسايتونغ” قال وقتها: “إن الصورة القديمة التي عمرها 2000 سنة للرجل اليهودي قد اُستبدلت بها اليوم صورة جديدة لليهودي كمخطط عسكري استراتيجي وجندي رائع يواجه الموت بشجاعة”.
تمجيد الإسرائيليين عسكريًّا بهذه الطريقة، من قبل أمة مهزومة عسكريًّا، يوضّح أيضًا التماهي معهم وإسقاط رغبات الألمان وهويتهم عليهم.
يذكر دانييل مارفيكي في كتابه أن التحيز الألماني لـ”إسرائيل” عام 1967 لم يكن له مثيل حتى في أمريكا. يفسّر ذلك بالجهل الكبير بتاريخ الشرق الأوسط، وبمحاولة الألمان كبت شعورهم بالذنب.
يقول الكاتب أيضًا إن تعاطف الألمان مع “إسرائيل” تعاطف نرجسي. حيث يتعاطف الألمان مع صورةٍ متخيلةٍ مثالية لذاتهم التي يرغبون بتحقيقها، يسقطون هذه الصورة على “إسرائيل” ويتعاطفون معها. ويتضمّن ذلك عجزًا تامًّا عن رؤية الصورة الكلية لمجريات الصراع في الشرق الأوسط.
محاكمة أيشمان
من الأحداث المهمة في تاريخ علاقة ألمانيا بـ”إسرائيل” كانت محاكمة أدولف أيشمان. أيشمان كان من العقول المدبّرة للهولوكوست. اختطفه الموساد الإسرائيلي من الأرجنتين واقتاده إلى “إسرائيل”، حيث تمّت محاكمته علنًا وإعدامه عام 1962. حظيت المحاكمة باهتمام عالمي، وأبرزت الهولوكوست لأول مرة كشأنٍ عام وقد كانت قبلها شأنًا خاصًّا بالضحايا.
هناك وثائق كثيرة في أرشيف وزارة الخارجية الألمانية، تتحدث بوضوح عن أن هذه المحاكمة كانت تنطوي على تهديدٍ كبير لسمعة ومصالح ألمانيا في العالم، إذا لم تقم “إسرائيل” أثناء المحاكمة بالتفريق بشكل صريح بين ألمانيا الحالية وألمانيا النازية، وأن المستشار الألماني أديناور كان سيلغي المساعدات الألمانية إلى “إسرائيل” كليًّا لو حصل ذلك. أي أنه علّق المساعدات على قيام “إسرائيل” بالتفريق بين ألمانيا الحالية والنازية.
رئيس الوزراء الإسرائيلي بن غوريون أشرف شخصيًّا على المحاكمة، وتأكد من أنها تفرّق بين ألمانيا الأمس وألمانيا اليوم. وألقى كلمةً تبرّئ ألمانيا والشعب الألماني من جرائم النازية (بعكس الموقف السائد اليوم). وكان هناك مراقب ألماني يحضر المحاكمة ويوثّق ويتأكد من تنفيذ الاتفاق.
في المقابل، تمّ في المحاكمة وصف الدول العربية بالنازية وإسقاط دور اضطهاد اليهود عليهم، وأُعزي إليهم دورٌ مباشر في الهولوكوست حتى (مثل تضخيم دور مفتي القدس الحسيني في اضطهاد اليهود). أي تمّ التقليل من شأن علاقة ألمانيا الحالية بألمانيا النازية، والتعظيم من شأن علاقة الدول العربية بألمانيا النازية. أي أن “إسرائيل” ربطت العرب بالنازية، وفكّت ربط ألمانيا الحالية مع النازية، “Germany was denazified and Arab states were nazified”، كما يقول دانييل مارفيكي.
فصار العرب أقرب إلى هتلر من الألمان الحاليين في رواية “إسرائيل”. فكّ ربط ألمانيا بالنازية هو دور “إسرائيل” في الصفقة التي ستحصل بموجبها على المساعدات من ألمانيا، مقابل تحسين سمعة ألمانيا أمام العالم. وربط العرب بالنازية قامت به “إسرائيل” لتشرعن سلوكياتها ووجودها في المنطقة العربية.
آلية الإسقاط تعني إسقاط السمات والنزعات الذاتية المدانة والمعيبة، والتي تثير الشعور بالذنب أو الخجل على شخص آخر، واتهامه أنه هو من لديه تلك السمات
كانت هذه بداية إسقاط النازية على العرب. وصفُ العرب بالنازية هو سياسة إسرائيلية مستمرة حتى اليوم، مرورًا بلقب “هتلر النيل” (عبد الناصر) إلى “هتلر بيروت” (عرفات)، وانتهاء بوصف كل المواقف المعادية لـ”إسرائيل” بأنها مدفوعة بـ”معاداة السامية”.
المراقب الألماني في محاكمة أيشمان ألقى كلمةً ختامية عجيبة في المحاكمة، قال فيها: “ما يلفت النظر بشدة عند الزائر الأوروبي إلى إسرائيل هو رؤية الجيل الجديد والمميز جدًّا من الشباب الإسرائيلي. هذا الجيل يحمل سمات مختلفة تمامًا عمّا اعتدنا عليه عند اليهود؛ فهو طويل القامة وعيونه زرقاء وشعره أشقر في كثير من الأحيان… إن سلالة اليهود الألمان تمثل نوعًا جديدًا من اليهود”.
هذه المقولة تعجّ بالعنصرية الألمانية بشكل مفضوح. إنه يمدح السمات الألمانية في اليهود ويمدح الجيل الجديد من اليهود، لأنه يحمل سمات العرق الألماني الآري، وهو يتماهى مع “إسرائيل” ويسقط عليها سمة الألمانية الآرية. (يعلّق مارفيكي في كتابه أن هذا مثال على أن معاداة السامية الألمانية قد تعبّر عن نفسها بشكل مؤيّد لـ”إسرائيل”).
إذًا: آلية الإسقاط تعني إسقاط السمات والنزعات الذاتية المدانة والمعيبة، والتي تثير الشعور بالذنب أو الخجل على شخص آخر، واتهامه أنه هو من لديه تلك السمات. يحدث هذا بشكل لاواعي تمامًا. ويتم معه أيضًا إسقاط مشاعر الكره والاحتقار والغضب التي كان الشخص سيشعر بها تجاه ذاته على الشخص الآخر.
وقد تعني أيضًا إسقاط السمات الذاتية المرغوبة على شخص آخر ومن ثم الإعجاب به، كنوع من التعويض أو بهدف التماهي معه إذا كان ضحية لكبت مشاعر العداء تجاهه.
يقوم الألمان اليوم بإسقاط رغباتهم وتوقهم للنصر على الإسرائيليين، كما ذكرنا، ويقومون بإسقاط النازية وكراهية اليهود والرغبة بإبادتهم على العرب أعداء “إسرائيل”. فيصير العرب الحاليون -وليس الألمان- خلفاء النازيين.
من هو الذي يفكر بطريقة الإبادة العرقية ومن الذي كان يريد إبادة اليهود حتى آخر رجل؟ إنهم الألمان. الألمان يقوّلون العرب ما أرادوا هم القيام به من جرائم، يختلقون اقتباسات على لسان العرب أو ينقلونها دون مصدر موثوق.
مقالة في صحيفة “دير فرايتاغ” الألمانية صوّرت العرب أنهم يريدون إبادة اليهود. اقتبست المقالة كدليل على ذلك مقولة مزعومة لأمين الحسيني قبل تأسيس “إسرائيل” بعقود، تقول: “أولئك الغزاة الصهاينة، سنذبحهم حتى آخر رجل منهم. لا نريد التطور ولا نريد الرفاهية (التي تجلبها هجرة اليهود)”.
إذا تتبّعنا سلسلة مصادر المقولة، فسنجد أنها تعود إلى مقال نُشر في صحيفة أمريكية صفراء (“نيويورك بوست”) عام 1947 -أي بعد عقود من المقولة-، وليس لها أي مصدر قبل هذا. من البديهي أن الحسيني إذا قال هذه العبارة فهو لم يقلها بالألمانية أو بالإنجليزية، بل بالعربية، والمفترض أن نجد بسهولة المصدر العربي الذي يذكر كلماته نفسها. لكنني لم أجد رغم اجتهادي بالبحث مصدرًا يذكر هذه العبارة بالعربية.
عدا عن ذلك، فكرة إبادة اليهود هي فكرة دخيلة تمامًا على العرب والمسلمين وغير موجودة إطلاقًا في أي أيديولوجيا إسلامية، بل هناك الكثير ممّا يعاكسها تمامًا في الإسلام، لذا لا أحد من فقهاء المسلمين يفكر في الإبادة العرقية لليهود أو لغيرهم، بل إن الفكرة لا تخطر بباله أصلًا، فليس لها سياق أيديولوجي يبرر نشوءها أو خلفيةٌ ثقافية أو تاريخية تجعلها منطقية. تبدو فكرةً دخيلةً مقتطعةً من سياق آخر.
من هو الذي يفكر بطريقة الإبادة العرقية ومن الذي كان يريد إبادة اليهود حتى آخر رجل؟ إنهم الألمان. الألمان يقوّلون العرب ما أرادوا هم القيام به من جرائم، يختلقون اقتباسات على لسان العرب أو ينقلونها دون مصدر موثوق.
مثال آخر: بودكاست لصحيفة “فيلت” عنونته بـ”شعار “فلسطين حرة” هو النسخة الجديدة من شعار “يحيا هتلر””.
والإعلام الألماني مليء بأمثلة مشابهة تسقط النازية على العرب، وتختزل أسباب معاداة “إسرائيل” عند العرب بمعاداة السامية. وضحنا في المقال السابق “عار الهولوكوست.. تشريح الموقف الألماني من إسرائيل” أن معاداة السامية ظاهرةٌ محددةٌ، نابعة من التاريخ الأوروبي، ولا يصحّ إطلاق اللفظة على شعوب أخرى لها سياقات مختلفة تمامًا.
“إسرائيل” -كما ذكرنا- تروّج دائمًا لرواية أن العرب خلفاء النازيين. عام 2015 ادّعى نتنياهو أن هتلر لم يكن أصلًا يريد قتل اليهود، لكن مفتي القدس الحسيني أقنعه بذلك. نتنياهو جعل العرب نازيين أكثر من هتلر. طبعًا هذه كذبة مفضوحة وتعارض أبسط أدبيات ثقافة الذاكرة الألمانية، وألمانيا نفسها أنكرت صحّتها رسميًّا.
من المهم جدًّا هنا الانتباه إلى أن آليات الدفاع النفسية هذه (وهي بالتعريف آليات لاواعية) تصف الأفراد أو الشعوب، لا السياسيين أو الحكومات. الحكومات تعرف ما تحت الطاولة وتعرف التاريخ والسياسة، وإذا قامت بهذه الإسقاطات فهي تقوم بها بشكل واعٍ ولديها أهداف سياسية منها، فالإسقاط عندها ليس آليةً دفاعية نفسية بل هو كذبٌ لهدف سياسي. عندما تقوم الحكومات بهذه الإسقاطات فهي تتلاعب بالشعب وتجيّشه لتسيّره في الاتجاه الذي تريده.
إذًا، الألمان يرون أطراف الصراع في الشرق الأوسط على الشكل التالي: “إسرائيل” هي ألمانيا، والعرب هم النازيون، وألمانيا تتصارع مع النازيين بكل فخر. وهذه الرؤية لا علاقة لها إطلاقًا بسياق الشرق الأوسط أو تاريخه، لكنها مجرد إفرازات للهوية الألمانية التي شُرخت في الحرب وتحاول إعادة إنتاج نفسها.
في الأحداث الحالية، ونتيجة الاصطفاف الألماني ضد الرواية الفلسطينية، سمعنا مقولة بعض الفلسطينيين في ألمانيا بأنهم يشعرون أن ألمانيا تعاقبهم على الهولوكوست، تتهمهم بمعاداة السامية والرغبة بإبادة اليهود، الرغبة التي كانت من سمات المجتمع الألماني. الفلسطينيون يُعاقَبون على ارتكاب الهولوكوست؟ ومن قِبل من؟ الألمان! هذا من أجلى صور الإسقاط ومن الأدلة القاطعة عليه.
الألمان يرون أطراف الصراع في الشرق الأوسط على الشكل التالي: “إسرائيل” هي ألمانيا، والعرب هم النازيون، وألمانيا تتصارع مع النازيين بكل فخر
المجتمع الألماني يقوم بهذه الطريقة بإدانة كره اليهود والرغبة بإبادتهم، لكن ليس عنده هو بل عند أشخاص آخرين. فلا يعود مضطرًا للتعامل معها في داخله، وهذا يساعده في تجنُّب شعور الذنب، وهذا هو هدف الإسقاط.
تشير ديبورا فيلدمان في كتابها “فيتيشية اليهود”، إلى أن الألمان أُجبروا على نزع عدوانيتهم بعد الحرب وتحويل طبيعتهم جذريًّا إلى شكل مسالم سلبي. لكن هذا التحويل الجذري لم يكن ممكنًا إلا عبر نقل العدوانية إلى مكان آخر، وهو دعم الصهاينة في عدوانيتهم، فيتحقق للألمان ممارسة العدوانية بشكل غير مباشر (تبدو هذه النقطة كآلية دفاعية مختلفة مستقلّة تدعى الإزاحة (Displacement)).
الهزيمة المحطّمة للهوية
بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، برزت أسئلة وجودية حول هوية الأمة الألمانية، وبرزت الحاجة إلى تكوين هوية جمعية جديدة. الهزيمة في الحرب العالمية حدث هائل كفيل بتحطيم الهوية وتصديع الصورة الذاتية، وتوليد شكوك إعصارية في الذات والتاريخ والقيم والأيديولوجيا وثقافة الشعب.
الأمر شبيهٌ بموجة الإلحاد التي انتشرت بعد فشل ثورات الربيع العربي؛ دفعت الشعوب أثمانًا باهظة، وواجهت أهوال التعذيب والقتل والاضطهاد الذي لا يرحم، وبعد كلّ هذا لم تنل ما دفعت هذه الأثمان من أجله. انهارت الآمال وشعر الناس بالهزيمة أمام أنظمة ظالمة دموية. كمية الظلم كانت أكبر من أن يتحملوها.
هذه الهزيمة المريرة أدّت إلى تفتيت الهوية والصورة الذاتية لدى الكثيرين، ونشأ شكّ وجودي هائل في كل شيء يخصّ هذه الشعوب وثقافتها، شكّ في الدين وفي التاريخ وشخصياته، وفي التفسير والفقه وغيرهما، ومحاولات ارتكاسية مدفوعة بالشكّ القلِق لإعادة تشكيل كل شيء.
قد يبدو الأمر غريبًا للوهلة الأولى؛ ما علاقة فشل ثورة شعبية بالشك القلق في تفسير القرآن أو في التاريخ الإسلامي ومحاولة إعادة تشكيله بشكل رجعي؟ وفي أقصى الحالات بفقدان الإيمان والتحول إلى الإلحاد؟
العلاقة الجامعة بين كل ذلك هي الشك في الذات، وكل ما يتبعها من ثقافة وتاريخ وهوية، واهتزاز الصورة الذاتية وجدواها واستحقاقها، وفي أقصى الحالات تفتُّت الهوية والانتهاء إلى الإلحاد وبدء البحث عن هوية جديدة.
بالعودة إلى الألمان؛ بعد تفتُّت الهوية نتيجة الهزيمة الساحقة والاستسلام غير المشروط ودمار بلادهم في الحرب، برزت أسئلة وجودية عن الهوية الجمعية والصورة الذاتية. هنا تظهر مشاعر العار والذنب الجماعية تجاه جرائم النازية، والتي يتم استبدالها بفخر جماعي عظيم بكيفية مواجهة الماضي بشجاعة والتعلّم منه، ودعم دولة “إسرائيل” أملًا بالوصول إلى هوية مستقرة خالية من الذنب والعار.
وبسبب تصدّع الهوية الألمانية تبزغ كل هذه الآليات الدفاعية إلى الوجود، وتحاول الهوية الألمانية المتصدّعة إيجاد طرق بديلة للتعبير عن مكوّناتها وإعادة إنتاج نفسها عبر سياق آخر، مثل الإسقاط الذي ذكرناه.
في ذكرى تأسيس الصرح التذكاري للهولوكوست في برلين، قال المؤرّخ الألماني إيبرهارد يكل (أحد مؤسسي الصرح) عام 2010: “هناك ناس في دول أخرى يحسدوننا على هذا الصرح. لقد ساعدنا هذا الصرح في أن نمشي مرفوعي الرأس من جديد”.
يظهر من هذا التصريح مدى الفخر والإعجاب بالذات بسبب إنشاء هذا الصرح، ومدى الوهم الذي يعيش فيه هذا المؤرّخ وغيره عندما يظنون أنهم محسودون على إنشائه. ويظهر أيضًا مدى العار الكامن لديه.
يشير دانييل مارفيكي في كتابه إلى أنه بما أن الهوية الألمانية اليوم قائمة على قمع الشعور بالذنب تجاه الهولوكوست، فهذا يعني أن سؤال كيفية إنشاء هوية قومية حقيقية مع وجود الهولوكوست هو سؤال لم يتم الإجابة عنه حتى الآن.
وهنا يبرز تساؤل مهم: لماذا يتبرّأ الألمان من تاريخهم ومجازر أجدادهم، بينما لا يزال الإنجليز والفرنسيون يفخرون بتاريخهم وإمبراطورياتهم الاستعمارية (أو في أحسن الأحوال يستنكرونها كموقف عقلي دون تفاعل عاطفي أو سلوكي) رغم أنها ارتكبت مجازر أكثر؟
لأن الإنجليز والفرنسيين خرجوا منتصرين من الحرب، ولم تتفتّت هويتهم وصورتهم الذاتية، ولم تبرز عندهم الشكوك الوجودية الإعصارية في الذات والتاريخ (وطبعًا لأنهم لم يطوّروا بعد قيمًا تشكّل هوية أمّة تقف ضد الاستعمار جذريًّا).
أي أن المشاعر الكبيرة بالذنب، والتبرؤ من التاريخ المختلط بشعور العار، ما هما إلا إحدى تبعات الهزيمة. (على الهامش: يستخدم الإنجليز والفرنسيون آليات دفاعية أخرى لتجنُّب أن يوضعوا في مواجهة مع ماضيهم الاستعماري الدموي ويحافظوا على تماسك صورتهم الذاتية، كالإنكار (Denial) والعزل (Isolation). ولو وُضعوا في مواجهة مع جرائم ماضيهم كما حدث مع الألمان، فمن المتوقع أن صورتهم الذاتية ستتصدع أيضًا).
أساسًا فكرة فرادة الهولوكوست وأنه أفظع مجزرة في التاريخ تحمل وجهًا آخر خفيًا، وهو افتراض القوة الذاتية والعظمة. مَن هذا الذي يستطيع ارتكاب أفظع مجزرة في التاريخ سوى شخص هائل القوة؟ إنها فكرة متمركزة حول الذات (Egocentric) بشدة، وتعلي من شأن الذات الألمانية بشكل غير واعٍ.
ومن ثم يأتي الفخر العظيم بأنهم بعد ارتكاب أفظع مجزرة في التاريخ، يقومون الآن بمواجهتها بشجاعة وتعويض ضحاياها بشكل كافٍ. من هذا الذي يستطيع تعويض ضحايا أفظع مجزرة في التاريخ سوى شخص هائل القوة مجددًا؟ كل هذه قنوات لاواعية لتمرير رغبات القوة والسيطرة، وخلق صورة ذاتية (Self-Image) مستقرة للأمة الألمانية كأمة قوية.
تكوين الفعل العكسي (Reaction formation)
وهي الآلية الثالثة، وكنا قد شرحناها في مقال “عار الهولوكوست”، وسنعيد شرحها هنا بشكل أوسع لاكتمال الفكرة. تتمثل آلية تكوين الفعل العكسي عندما يشعر الإنسان بشعور أو نزوع نفسي مخجل أو مرفوض، فيقوم بشكل مبالغ فيه بسلوك معاكس له، ليبقي هذا الشعور أو النزوع مكبوتًا. وهذا يحدث بشكل لاواعٍ تمامًا. وفي بعض الأحيان قد يحقق الشخص رغبته المرفوضة اللاواعية من خلال سلوكه المعاكس هذا، متفاديًا الإزعاج الناتج عنها.
من الأمثلة اليومية على ذلك، شابٌّ يتحدث بشكل سيّئ عن فتاة لكنه في داخله منجذبٌ إليها دون أن يعي ذلك. أو موظفة تغتاب بشدة زميلتها التي حصلت على ترقية، بينما هي في داخلها معجبة بالتزامها وإتقانها. أو شخص يتعامل بلطف شديد مع جاره مع أنه لا يطيقه. إذا حدث أي ممّا سبق بشكل غير واعٍ فهي تمظهرات لآلية التكوين العكسي.
من الأمثلة أيضًا رجلٌ يتبنّى النسوية ودعم النساء ظاهريًّا، لكنه ينزلق إلى إعفائهنّ من المسؤوليات والواجبات وتمييزهن وتفضيلهن بشكل غير موضوعي. هذا السلوك التطفيليّ يتضمن اعتقادًا خفيًا لديه بأنهن أقل كفاءة، وهو ما يسعى هذا الرجل بشكل لكبته بدون وعي، لكنه يظهر من خلال سلوكه التطفيلي، أي أنه يحقق رغبته اللاواعية في التعبير عن قلة كفاءتهن، لكن بطريقة غير مُدانة.
النتيجة المتحققة على أرض الواقع من دعم الأوروبيين الشرس لـ”إسرائيل” هو تقليل عدد اليهود في أوروبا، وعدم الاضطرار لمواجهة معضلة اليهود من جديد
فلنعد إلى الألمان؛ جزءٌ من الألمان ما زال في داخله احتقار أو كرهٌ لاواعٍ لليهود، وبسبب الإدانة الأخلاقية الشديدة يدعمون الإسرائيليين بشكل أعمى يعفيهم من المسؤولية عن أفعالهم، وهذا بحدّ ذاته سلوك تطفيليّ كما ذكرنا، يتضمّن عدم رؤيتهم لهم كبالغين راشدين مؤهّلين، فيعبّرون بهذا عن احتقار اليهود الكامن فيهم والاعتقاد بقلّة نضجهم.
هذا بعكس من يدين الهولوكوست بشكل عقلاني ويتعاطف مع ضحاياها ويدعمهم دون تأييد أعمى أو تعامٍ عن أخطائهم، فهذا هو من يعاملهم معاملة البالغ المسؤول، أي أنه يراهم ندًّا له أو في مستواه.
إن معاداة السامية ظاهرةٌ متجذّرة في أوروبا منذ أكثر من 1000 سنة، تتمثل في رفض الشعوب الأوروبية لوجود اليهود بينها ومحاولة إقصائهم واضطهادهم باستمرار. بلغت الظاهرة أوجها في ألمانيا في زمن النازية. وهي تشكّل جزءًا من الذاكرة التاريخية للأوروبيين. ولا يمكن تصوّر أن ظاهرةً مجتمعية سادت لقرون ستختفي فجأة لأي سبب.
ولا بدَّ أن كراهية اليهود والرغبة في التخلص منهم لا تزال موجودة لدى الكثير من الألمان اليوم، إلا أنهم يكبتونها بسبب الإدانة الشديدة لها، ويقومون بشكل لاواعي بتكوين الفعل العكسي ودعم “إسرائيل”، لكبت شعور الكره هذا، لكن الهدف الأعمق هو أن يبقى اليهود هناك، أي خوفًا من عودة اليهود إلى أوروبا.
النتيجة المتحققة على أرض الواقع (Teleologically) من دعم الأوروبيين الشرس لـ”إسرائيل” هو تقليل عدد اليهود في أوروبا، وعدم الاضطرار لمواجهة معضلة اليهود من جديد. فهم يحققون بذلك الرغبة التي سادت لدى أجدادهم لقرون، دون الشعور بالذنب ودون التعرض لتهمة معاداة السامية، فكما ذكرنا، لا يمكن أبدًا لظاهرة كانت سائدة في مجتمع لقرون أن تختفي فجأة.
الموقف الألماني اليوم من فلسطين و”إسرائيل” (بما فيه ثقافة تذكّر الهولوكوست) هو موقفٌ ظاهره الشعارات الأخلاقية، وباطنه تلاعب السياسيين بالشعب عبر القيام بتلك الإسقاطات عمدًا لتحقيق مصالح لألمانيا
يذكر دانييل مارفيكي مقولة لمدرس التاريخ في جامعة بن غوريون، زاك-كراكوتسكين: “للمفارقة، تهجير اليهود من أوروبا هو ما مكّن إعادة دمجهم في أوروبا”. وهذا صحيح تاريخيًّا، ألمانيا وأوروبا كلها لم تستطع دمج اليهود المتبقين فيها إلا بعد تهجير معظم يهودها إلى فلسطين. راجع آلية تكوين الفعل العكسي.
ختامًا.. أوردَ تقرير لجنة الخبراء المستقلة حول تطورات معاداة السامية في ألمانيا، والذي نشرته وزارة الداخلية الألمانية، مقولةً لمحلل نفسي إسرائيلي يقول فيها: “إن الألمان لن يسامحونا أبدًا على أوشفتس”، وتعني أن الألمان الحاليين في لاوعيهم سيحقدون على اليهود ليس رغم الهولوكوست بل بسبب الهولوكوست، الذي سيحمّل الألمان شعورًا هائلًا بالذنب وسيصدّع هويتهم وصورتهم الذاتية أكثر. وهذه الحقيقة تفسّر نشوء الآليات الدفاعية المذكورة كلها.
عندما يأتي المهاجرون أو الطلاب الأجانب إلى ألمانيا، يفاجأون أثناء دورات اللغة الألمانية أن الألمان لا يستخدمون لفظة “شعب (Volk)” للتعبير عن أنفسهم أبدًا تقريبًا، بل يستخدمون حصرًا لفظة “سكان (Bevölkerung)”، فهم يقولون “سكان ألمانيا” التي تشمل جميع القاطنين في ألمانيا، ولا يعبّرون بعبارة “الشعب الألماني”.
ذلك لأن هذه العبارة محمّلة بالعنصرية بسبب الإرث التاريخي، وتعطي فورًا انطباعًا سلبيًّا عنهم وتُشعرهم أنهم عنصريون ونازيون. هل هناك أدلّ على تصدّع الهوية الجمعية من أن يشعر عموم الناس أن مجرد استخدامهم للفظة “الشعب”؛ مدان أو عنصري؟ (يكثر استخدام لفظة “الشعب” عند اليمين المتطرف في ألمانيا، وهؤلاء يوظفونها في سياق عنصري فعلًا).
لو أردنا أن نختصر المقال بفكرة واحدة، فستكون أن الموقف الألماني اليوم من فلسطين و”إسرائيل” (بما فيه ثقافة تذكّر الهولوكوست) هو موقفٌ ظاهره الشعارات الأخلاقية، وباطنه تلاعب السياسيين بالشعب عبر القيام بتلك الإسقاطات عمدًا لتحقيق مصالح لألمانيا، وفي أعماقه أنه من تجليات هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية وعنوان خضوعها للولايات المتحدة منذ ذلك الوقت.
نذكّر هنا أن آليات الدفاع النفسية في الأصل ظاهرة فردية، وهي لا تنطبق على كل الألمان، بل تنطبق كل واحدة منها على شريحة واسعة منهم أو على معظمهم. وتحوُّل هذه الآليات إلى ظاهرة جماعية أمر مثير للاهتمام ويستحق دراسة خاصة.