“Islam: The Untold Story” ،“الإسلام: القصة التي لم تُروى”، فيلم وثائقي أنتجته القناة البريطانية الرابعة عام 2012، كاتب السيناريو وباحث الفيلم هو المؤرخ المستشرق والروائي الإنجليزي توم هولاند، الفيلم يتبنى نظريات“باتريشا كرون” المستشرقة الأمريكية ذات الأصول الدنماركية في كتابها “تجارة مكة وظهور الإسلام”، هذه النظريات تقوم على وجود تضارب واضح بين جغرافية مكة الموصوفة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية والتراث الإسلامي ومكة التي نعرفها اليوم، وأن الكعبة تقع في بقعة جغرافية بعيدة عن مكة التي في السعودية.
يجول هولاند في فيلمه بمسار تشكيكي بطابع استقصائي يتساءل عن فك لغز عدم وجود أدلة تاريخية من مصادر غير التأريخ الإسلامي الحديث تُثبت وجود مكة في عصر بعثة نبي الإسلام محمد عليه أتم صلاة وتسليم، وهو ما أسماه في فيلمه بـ”الثقب الأسود”.
في عام 2016 يأتي المستشرق الكندي دان غيبسون صاحب كتاب (جغرافية القرآن) ليُطلق فيلمًا وثائقيًا جديدًا بعنوان “The Sacred City” “المدينة المُقدسة” يبدأ من حيث انتهى هولاند ليُقدم ما يعتقده جوابًا علميًا عن حقيقة البقعة الجغرافية التي كانت تُدعى مكة زمن بعثة رسولنا محمد صلم الله عليه وسلم، حاول غيبسون الوصول إلى سجل آثار مكة لكنه لم يجد للمدينة أي سجل أثري يعود إلى حقبة البعثة كما يدعي.
مكة لدى غيبسون هي مدينة البتراء الواقعة جنوب الأردن وهناك وُلد رسول الله عليه أتم صلاة وتسليم وهناك كانت الكعبة المشرفة، ويطرح في فيلمه شواهدًا تدل على إسلامية البتراء، وبهذا ينسب غيبسون لنفسه حل لغز اختفاء آثار تاريخية في مكة السعودية تُكسب المصداقية التاريخية لبعثة نبي الإسلام وفقًا للتاريخ الإسلامي.
الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء المشككون الثلاث عرابو هذه النظرية يكمنُ في الإجابة لا في السؤال، فأين المنزل الذي وُلد فيه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة؟ وأين دار الأرقم؟
يتلقف الرحالة التبشيري الأمريكي الندوات والورشات والمحاضرات لطرح مضمون فيلمي هولاند وغيبسون كنظرية تاريخية مُعتبرة تُشكك في أصول الإسلام وتنفي نفيًا تامًا صحة قبلة المسلمين وتطعن في بعثة نبي الإسلام.
إلا أن الخطأ الذي وقع فيه هؤلاء المشككون الثلاث عرابو هذه النظرية يكمن في الإجابة لا في السؤال، فأين المنزل الذي وُلد فيه رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة؟ وأين دار الأرقم؟ وأين منزل أمنا خديجة عليها السلام حيث كان يتنزل الوحي على رسول الله؟ وأين؟ وأين؟ إن كانت مكة بالفعل هي مهبط الوحي؟ إن ثبوت وجود أي من الآثار التاريخية للرسول عليه الصلاة والسلام في مكة ليس كفيلًا بهدم النظرية فحسب بل وبكشف حجم سذاجة وهشاشة المسار العلمي الذي بُنيت عليه النظرية والهباء المنثور لعشرات آلاف الدولارات التي أُنفقت لإنتاج كلا الفيلمين.
بالعودة إلى سؤالنا أين الآثار النبوية الملموسة في مكة؟ منذ عام 1803بدأت حملات مكثفة في السعودية يقودها علماء الدين لمنع البدع تضمنت هدم الإرث التاريخي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لحقبتي البعثة والهجرة على حد سواء وهذه الحملات ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا، لكن هل بالفعل منع البدعة دافعها؟ وهل الجهل بمعنى البدعة يمكن أن يسوغ تلك الحملات؟ محاضرة الدكتور أحمد يماني وزير النفط السعودي الأسبق عام 2000 عن اكتشاف منزل السيدة الخديجة عليها السلام تُشير إلى ما هو أبعد من مُجرد حملة يقودها الجهل بمفهوم البدعة.
ألقى الدكتور يماني محاضرته في بريطانيا بعنوان “بيت خديجة” لشرح قصة أعظم اكتشاف أثري يتعلق برسول الله عام 1989، وهو منزل أمنا خديجة عليها السلام، حيث قضى نبينا 28 عامًا من سنوات عمره الشريفة وشهد ميلاد أبناءه من خديجة، وهناك وجد فريق البحث متوضأ الرسول عليه السلام وهو حوض بحالة جيدة، هذا الإرث العظيم والشاهد الأقدم هو حق للأمة الإسلامية، ورغم هذا صدرت التعليمات للدكتور أحمد يماني بدفن المنزل بالرمال وإخفاء معالمه بالكامل، يؤكد الدكتور يماني في محاضرته أن جميع آثار صدر الإسلام تم هدمها بالكامل في مكة ولم يتبق سوى منزل السيدة خديجة ومنزل عبد المطلب حيث وُلد نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وكلاهما مدفونان تحت الأرض.
تم هدم قبر آمنة بنت وهب والدة رسول الله صلم الله عليه وسلم بطريقة بشعة، فبعد أن سوته الجرافات بالأرض صُب فوقه زيت البنزين
الباحث والمعماري السعودي الدكتور سامي عنقاوي المهندس المشرف على إعادة اكتشاف بيت خديجة يأسف بصوت تخنقه الحشرجة لقيام السلطات السعودية ببناء مرافق عامة “مراحيض” فوق منزل خديجة ومنزل رسول الله صلى الله وعليه سلم في مكة، عملية طمس الآثار المكية شهدت حملتها المحمومة إبان غزو الكويت بتسيير الجرافات في أزقة وشوارع مكة لتأتي على كل أثر من أصل ثلاثمئة شاهد أثري وفقًا للدكتور عنقاوي، ومما طُمس دار الأرقم.
في عام 2006 نشرت صحيفة “الإندبندنت” تقريرًا استقصائيًا مصورًا في صفحتين كاملتين حمل عنوان “عار على بيت آل سعود“، يشرح فيه الصحفي دانيال هاودن كيف حلت الأبراج في مكة مكان التراث الإسلامي، وباتت المواقع التاريخية القديمة أثرًا بعد عين، جاء في التحقيق هدم السلطات السعودية لمنزل أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليُقام فوقه فندق “الهيلتون”، ولا داعي لأذكر هنا بأن سلسلة فنادق الهيلتون تعود لمؤسسها الماسوني تشارلز هيلتون.
كما تم هدم قبر آمنة بنت وهب والدة رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريقة بشعة، فبعد أن سوته الجرافات بالأرض صُب فوقه زيت البنزين رغم آلاف الالتماسات التي رفعها المسلمون حول العالم للسلطات السعودية بمنع هذه الجريمة إلا أن قرار الإزالة نفذ.
والغريب في الأمر أنه في الوقت الذي يسوغ فيه “علماء السعودية” حرمة بقاء الآثار الإسلامية في مكة والمدينة بدعوى سد ذرائع البدع، نجدهم لا ينبسون ببنت شفة عن المتاحف المتفرقة في السعودية التي تحوي ممتلكات العائلة المالكة في السعودية، مثل حذاء الملك عبد العزيز وعصاه وعباءته وسريره، والحفاظ على بيت البيعة بحالة ممتازة المكان الذي شهد بيعة أهالي الأحساء للملك عبد العزيز هذا البيت أحد أبرز المتاحف المصانة في المملكة، في حين تم هدم مسجد بيعة الرضوان وإخفاء ملفات وخرائط المسجد التي تثبت تاريخية المسجد من أرشيف وكالة الأوقاف السعودية.
نجد عصابات بلا تاريخ تخلق لنفسها تاريخها الخاص بقوة الرصاص، ففور احتلال المليشيات الصهيونية لفلسطين أدركوا أن احتلال الأرض لن يكون كافيًا بحال من الأحول لإثبات وجودهم على الأرض وأحقيتهم التاريخية في فلسطين
فهل بالفعل الدافع وراء إخفاء الأدلة التاريخية على وجود رسول الله صلى الله وعليه وسلم في مكة دافع ديني؟!
الشبهات الحديثة للاستشراق الجديد بوجود الكعبة في البتراء لا مكة هو ثمرة بسيطة لجريمة علماء السعودية بحق التاريخ الإسلامي، هذه الشبهات تجدها على شاشات القنوات المشبوهة مجهولة مصدر التمويل المحرضة على الإسلام وتناقشها في حلقات مطولة على “اليوتيوب” ووسائل التواصل الاجتماعي وتعمل جاهدة على نشر النظرية باعتبارها حقيقة تاريخية، والمستقبل سيحمل الكثير من نتائج ضياع الأدلة التاريخية على بعثة رسول الله صلى عليه وسلم في مكة.
على النقيض تمامًا نجد عصابات بلا تاريخ تخلق لنفسها تاريخها الخاص بقوة الرصاص، ففور احتلال المليشيات الصهيونية لفلسطين أدركوا أن احتلال الأرض لن يكون كافيًا بحال من الأحول لإثبات وجودهم على الأرض وأحقيتهم التاريخية في فلسطين، فعمدوا إلى نهب المكتبات الفلسطينية وتدمير مبانيها وسرقة عشرات آلاف الكتب والمخطوطات والمتاحف وإحراق المساجد والمصليات التاريخية منذ سنوات الفتح الإسلامي، ونشروا فرق بحث عن الآثار في كل شبر فلسطيني لاستخراج واستكشاف أكبر قدر ممكن من عروبة وإسلامية فلسطين لإخفائه أو تدميره، لتبدأ المرحلة الثانية من تزوير التاريخ بإقحام الهوية الصهيونية على فلسطين، وكانوا إن وجدوا ملعقة يهودية تحت الأرض بنوا لها متحفًا وأقاموا المؤتمرات الدولية ونشروا الكتيبات حولها بمختلف اللغات.
وقد تجلت أكبر عمليات تزويرهم للآثار في حفريات الأنفاق أسفل المسجد الأقصى المبارك في محاولة سافرة لطمس الهوية التاريخية للمسجد، معركة الحفاظ على التراث التاريخي لفلسطين بُذل في سبيلها الدم والأرواح في ثورة البراق فهبة النفق وأحدثها ليس آخرها انتفاضة الأقصى، وعلى الصعيد الدولي يعبر الوفد الصهيوني في اليونسكو عن أحقيته التاريخية في حائط البراق وفي المسجد الإبراهيمي في الخليل ويصفها بمسألة أمن قومي لا يمكن التنازل عنها.