ترجمة وتحرير: نون بوست
صادف يوم الخميس 22 شباط/فبراير، الذكرى السنوية الخامسة لعطلة وطنية سعودية جديدة تسمى يوم التأسيس، وتحيي هذه العطلة، بحسب المرسوم الملكي الذي أنشأها سنة 2019، ذكرى “بداية عهد الإمام محمد بن سعود وتأسيسه للدولة السعودية الأولى” سنة 1727.
وعلى عكس اليوم الوطني السعودي، الذي يحتفل بالفكرة السياسية لتوحيد الدولة السعودية المعاصرة في سنة 1932، فإن يوم التأسيس يؤدي وظيفة ذات شقين: الاحتفال بإحدى الأساطير السياسية، ومحو أخرى، فهو يحتفل بالأسطورة القائلة بأن الدولة السعودية المعاصرة هي دولة “ثالثة” في ثلاثة قرون متخيلة متواصلة من المملكة العربية السعودية التاريخية في شبه الجزيرة العربية، كما أنه يمحو الأسطورة السياسية الوهابية، أو السرد القائل بأن الدولة السعودية “الأولى” بدأت بعد عقد العهد بين محمد بن عبد الوهاب، مؤسس الحركة الوهابية، ومحمد بن سعود سنة 1744، ومن خلال اختيار عام 1727 كعام بداية للدولة “الأولى” بدلاً من سنة 1744، يسعى يوم التأسيس إلى إزاحة الوهابية من السرد السياسي السعودي.
بالنسبة للعديد من المتخصصين والمحللين في السعودية، يُنظر إلى محو أسطورة الرواية الوهابية على أنه أمر عميق وجذري، وكان الرأي المقبول سابقًا هو أن الدولة السعودية قامت منذ سنة 1744 بإضفاء الشرعية دائمًا على نفسها باعتبارها الحامي والمروج الوحيد للوهابية، وأن السلطة السياسية في السعودية مقسمة بين عائلة آل سعود المالكة والنخبة الدينية الوهابية، ومن هذا المنطلق، فإن التخلص من الوهابية يعني أن الدولة السعودية تفقد مصدرًا رئيسيًا للشرعية وتكسر شراكتها التاريخية مع المؤسسة الدينية.
ومع ذلك، فإن نظرةً فاحصةً على كيفية تأسيس الدولة السعودية المعاصرة تكشف أن قصة الدولة السعودية التي أضفت الشرعية على نفسها من خلال الوهابية هي قصة خاطئة، فلم تضفِ المملكة السعودية الشرعية على نفسها من خلال الوهابية، بل عبر تقليد معياري هجين يضم عناصر عربية وسلفية.
الخطوة الأولى في فهم كيفية قيام الدولة السعودية المعاصرة بإضفاء الشرعية على نفسها خلال فترة تشكيلها هي فهم أن النخبة الحاكمة خلال تلك الحقبة كانت تتكون من أعضاء من الجيل الأخير من العرب العثمانيين، وهذا الجيل، بحسب الباحث ويليام ل. كليفلاند، ولد “بين عامي 1870 و1890، “وتم تدريب أعضائه، وبنوا حياتهم المهنية، وخططوا لمستقبلهم في عالم الإمبراطورية العثمانية المتأخرة”.
وبحلول نهاية الحرب العالمية الأولى؛ انهار هذا العالم العثماني، ولعب العديد من أفراد هذا الجيل دورًا حاسمًا في تأسيس الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد العثمانية، وفي حالة السعودية، لا يضم هذا الجيل العديد من المستشارين والبيروقراطيين والمثقفين المصريين والسوريين وغيرهم من العرب الذين شاركوا في تأسيس الدولة السعودية فحسب، بل يضم أيضًا المؤسس نفسه، عبد العزيز آل سعود، في أول مقابلة له على الإطلاق مع صحيفة “الدستور” الصادرة في البصرة عام 1913، وصف عبد العزيز نفسه بأنه “عربي عثماني”، ملتزم بفعل كل ما يلزم “لحماية الوطن العثماني في شبه الجزيرة العربية”، وقد أجرى هذه المقابلة لتبرير نجاحه الأخير في طرد الحاميات العثمانية من الواحات العربية الشرقية الإستراتيجية، الأحساء والقطيف، ولإقناع النخب العثمانية الحاكمة في بغداد وإسطنبول بأن أفعاله لا ينبغي تفسيرها على أنها انفصالية.
تختلف هذه النظرة لعبد العزيز كعضو في الجيل العربي العثماني الأخير في نواحٍ كبيرة عن البدائل الأخرى التي يتم الاستشهاد بها بشكل متكرر، والتي تُصوره كزعيم وهابي أو عميل للإمبراطورية البريطانية، فالأول ينتزعه من جيله وزمانه ويربطه بالماضي الوهابي الأسطوري الذي كثيرًا ما يتم استحضاره بمعزل عن سياقه، أما البديل الثاني فينكر قوته ويبالغ في تبسيط ثلاثة عقود من الديناميكيات السياسية والأحداث التاريخية في شبه الجزيرة العربية، والتي بلغت ذروتها في إنشاء السعودية المعاصرة، مصورًا إياها كمجرد تصميم بريطاني.
وعلى الرغم من هيمنة هذين الإطارين، فقد ولد عبد العزيز في مدينة الرياض حوالي سنة 1875 كأحد أعيان العرب العثمانيين، وهرب جده، فيصل بن تركي، من منفاه في مصر في أربعينيات القرن التاسع عشر وأثبت نفسه حاكمًا على وسط وشرق الجزيرة العربية، وعلى عكس الأئمة الوهابيين السابقين من عائلته الذين تحدوا الإمبراطورية العثمانية، سعى فيصل إلى الحكم تحت سلطة عثمانية اسمية، وكان هذا التحول في النهج تجاه العثمانيين مدفوعًا بعاملين، الأول أن فيصل شهد بنفسه الدمار الذي ألحقه الجيش العثماني المصري بمسقط رأسه الدرعية، عاصمة الإمامة الوهابية، عندما تحدوا الحكم العثماني، ورأى أيضًا عددًا كبيرًا من أفراد عائلته الذين تم إعدامهم بإجراءات موجزة أو أُجبروا مثله على النفي إلى مصر، أما العامل الثاني فكان تأثير النموذج المصري في التعامل مع العثمانيين، فقد أمضى فيصل ما مجموعه عقدًا ونصف منفيًا في مصر عندما كانت تحت حكم محمد علي باشا، ورأى كيف تمكن علي من تأسيس حكم ذاتي بنجاح تحت السلطة العثمانية الاسمية، وقد سهّل الجمع بين هذين العاملين انتقال فيصل من النهج الصفري الذي اتبعه الأئمة الوهابيون السابقون إلى نهج أكثر واقعية ومشابهًا لمصر في التعامل مع الإمبراطورية.
ونجحت إستراتيجية فيصل؛ حيث اعترف به العثمانيون حاكمًا في سنة 1860، والتزم بدفع ضريبة سنوية لهم، وبعد وفاته سنة 1865، خلفه ابنه عبد الله، ولأن الإمبراطورية العثمانية لم تمنح المنصب بالوراثة، كان على عبد الله الحصول على موافقتهم على حكمه في وسط وشرق الجزيرة العربية، واستغرق الأمر منه بضع سنوات حتى حصل على لقب قائم مقام، وسنة أو سنتين إضافيتين ليتم ترقيته إلى رتبة باشا، ولم يكن عهد عبد الله مستقرًا، فقد تحداه أخوه سعود، وبسبب قتالهما طلب عبد الله المساعدة من والي بغداد العثماني مدحت باشا، وعندما تلقى مدحت طلب عبد الله، كان بالفعل في خضم إنفاذ الحكم العثماني المباشر والمركزي في بغداد، واستخدم طلب عبد الله كذريعة لتوسيع الحكم المباشر للإمبراطورية ليشمل شرق شبه الجزيرة العربية في سنة 1871، وبعد عقدين من الزمن، نجحت سلالة نجدية أخرى، وهي آل رشيد، والتي كانت تحكم تحت السلطة العثمانية الاسمية، في احتلال الرياض وطرد عبد العزيز البالغ من العمر 16 سنة ووالده وأفراد آخرين من عائلته، وانتهى الأمر بعبد العزيز وعائلته بالعيش في المنفى في الكويت تحت الرعاية العثمانية.
لم تكن مميزات عبد العزيز تقتصر على كونه عضوًا في عائلة عربية بارزة معترف بها من قبل الإمبراطورية العثمانية فحسب، بل واصل حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى نهج جده المتمثل في الحرص الشديد على طمأنة العثمانيين إلى أنه لا يسعى إلى الاستقلال، وفي عام 1902، سنحت الفرصة لعبد العزيز البالغ من العمر 27 عامًا لإحياء حكم جده في وسط وشرق الجزيرة العربية وسط الصراع المستمر بين حاكم الكويت مبارك الصباح وحاكم نجد عبد العزيز الرشيد، وبعد أن نجح في السيطرة على الرياض ووسع حكمه ليشمل معظم نجد على حساب الرشيد، أرسل رسالة إلى والي الحجاز العثماني يبرر تصرفاته، وفي هذه الرسالة، ذكر أن “عدوان الرشيد وظلمه المتمثل في قتل الناس ومصادرة ممتلكاتهم” هو السبب الرئيسي لقتاله، ثم أكد أنه “سيكون دائمًا خادمًا مطيعًا لأمير المؤمنين”.
لم يكن سعي عبد العزيز إلى الحكم الذاتي بدلاً من الاستقلال أمرًا فريدًا، بل كان موقفًا مشتركًا مع قادة محليين آخرين في شبه الجزيرة العربية، أحد الأمثلة على ذلك هو يحيى حميد الدين، وهو إمام يمني قاد تمردًا لمدة سبع سنوات ضد العثمانيين قبل أن يوقع على معاهدة دان في سنة 1911 والتي تم بموجبها الاعتراف به رسميًا كزعيم مستقل تحت الحكم الاسمي العثماني، ومثال آخر من تلك الفترة هو الإمام محمد الإدريسي في جنوب غرب السعودية، الذي بدأ تمرده سنة 1908 لكنه فشل في الحصول على الاعتراف العثماني الرسمي، وعلى الرغم من فشله وتعاونه مع الإيطاليين ضد العثمانيين، إلا أن الإدريسي كان حريصًا على أن يُظهر في رسائله إلى المجلات والصحف العربية الكبرى أنه لم يكن انفصاليًا.
مثل غيره من أعضاء الأجيال العربية العثمانية الأخيرة، كان عبد العزيز منتبهًا للرأي العام العربي العثماني والصحف الناشئة وكان يتكيف باستمرار مع الحقائق السياسية العربية المتغيرة. ولا شيء يُظهر ذلك أفضل من توقيت قراره بغزو شرق الجزيرة العربية وإنهاء الحكم العثماني المباشر هناك. ومنذ سنة 1906 على الأقل، أعرب عبد العزيز عن رغبته في احتلال شرق الجزيرة العربية، لكنه لم يفعل ذلك فعليًا حتى سنة 1913. ولم يكن سبب التأخير هو الوجود العسكري العثماني هناك، الذي لم ينظر إليه عبد العزيز على أنه عائق؛ بل كان قناعته أنه لا يستطيع الاحتفاظ بالمدينتين بعد احتلالهما دون ضمان التزام بريطانيا بمنع أي انتقام بحري عثماني. وقام بعدة محاولات للحصول على موافقة بريطانيا، إلا أن الأخيرة رفضتها كلها.
وما جعل عبد العزيز يغير رأيه ويحتل شرق الجزيرة العربية، حتى دون الحصول على ضمانات بريطانية، هو التطورات بين وجهاء العرب العثمانيين والإمبراطورية. فبعد ثورة تركيا الفتاة في تموز/ يوليو 1908، مر الوجهاء العرب العثمانيون بثلاث مراحل في علاقتهم بإسطنبول؛ بدأت الأولى بانقلاب لجنة الاتحاد والترقي العثمانية واستعادة الدستور في تموز/ يوليو 1908 واستمرت حتى حل البرلمان والدعوة لإجراء انتخابات مبكرة في كانون الثاني/ يناير 1912. وفي هذه الفترة، كان الموقف الرئيسي بين الوجهاء العرب العثمانيين على دعم برنامج جمعية الاتحاد والترقي، الذي أتاح لهم إمكانية أن يكونوا شركاء في ملكية دستورية مركزية متعددة الأعراق.
وبدأت المرحلة الثانية بحل جمعية الاتحاد والترقي للبرلمان في كانون الثاني/ يناير 1912، وامتدت إلى الإطاحة بهم من السلطة في تموز/ يوليو، وانتهت بعودتهم في انقلاب في كانون الثاني/ يناير 1913. وخلال هذه المرحلة، أصبح العديد من هؤلاء الوجهاء أكثر إحباطًا من جمعية الاتحاد والترقي وتحولوا من كونهم وحدويين إلى المطالبة بحكومة لا مركزية، تُمنح فيها المناطق العربية نوعًا من الحكم الذاتي. وألقوا بدعمهم وراء حزب الحرية والوفاق الجديد الذي حكم في الفترة من تموز/ يوليو إلى كانون الثاني/ يناير. أما المرحلة الثالثة، فقد بدأت بانقلاب جمعية الاتحاد والترقي في كانون الثاني/ يناير 1913، واستمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى سنة 1918. وخلال هذه الفترة، تحول وجهاء العرب العثمانيين إلى قوميين عرب بمطالب تراوحت بين الحكم الذاتي وصولًا إلى الانفصال.
وخلال هذه المرحلة الثالثة من العلاقة بين العرب العثمانيين والإمبراطورية، قرر عبد العزيز المضي قدمًا واحتلال شرق الجزيرة العربية. وبشكل أكثر تحديدًا، تم اتخاذ هذه الخطوة بعد وقت قصير من الرفض الرسمي للمطلب العربي لشكل من أشكال الفيدرالية العثمانية من خلال إعلان قانون الولاية الجديد في 28 آذار/ مارس 1913. وقد تم الاحتجاج على هذا الإعلان في العديد من المدن العربية، بما في ذلك البصرة؛ حيث كان عبد العزيز يخشى انتقامًا بحريًّا عثمانيًّا. وفي نيسان/ إبريل، نظمت جمعية الإصلاح العام المشكلة حديثًا، بقيادة طالب النقيب، مظاهرة ضمت مجموعة كبيرة من الوجهاء تطالب بتغييرات في الحكومة. حتى أن وجهاء البصرة هددوا بحمل السلاح ضد السلطات العثمانية، وردًا على ذلك قررت إسطنبول اغتيال النقيب، لكن المحاولة باءت بالفشل.
وكان عبد العزيز يتابع هذه التطورات عن كثب وكان على اتصال مباشر مع بعض هؤلاء الوجهاء العرب العثمانيين. وفي إحدى مناقشاته مع ويليام شكسبير، الوكيل البريطاني في الكويت، قدم عبد العزيز وصفًا لمصادر معلوماته عن الأحداث العالمية. وكتب شكسبير أن “الأمير لم يتمكن من تصديق الروايات التي وصلت إليه من المصادر التركية أو الصحف المصرية”؛ وذلك لأن هذه الروايات تتناقض في بعض جوانبها “مع ما سمعه من الكويت والبحرين”. علاوة على ذلك؛ ضمت شبكة حلفاء وأصدقاء عبد العزيز شخصيات بارزة في العديد من المناطق العربية. ومن الأمثلة البارزة من البصرة عبد اللطيف المنديل، الذي كان أحد الشركاء السياسيين الرئيسيين لطالب النقيب، وفي الوقت نفسه، الممثل السياسي والتجاري لعبد العزيز في كل من البصرة وبغداد. ولهذا السبب كانت أول مقابلة صحفية سابقة الذكر أجراها عبد العزيز بعد فتح شرق الجزيرة العربية، ومع صحيفة من البصرة. وكان الصحفي البصري إبراهيم الدمغ، الذي أجرى المقابلة المتعاطفة، من أصل نجدي أيضًا.
وعلى الرغم من أن توسع عبد العزيز في شرق الجزيرة العربية حدث خلال المرحلة التي بدأت فيها دعوات الاستقلال العربي من قبل العديد من الوجهاء العرب، إلا أنه أبرم معاهدة مع العثمانيين لتأمين الحكم الذاتي. وبعد 10 أشهر من النقاش حول كيفية الرد على احتلال عبد العزيز لشرق الجزيرة العربية؛ قرر العثمانيون إرسال لجنة من البصرة للتفاوض مع عبد العزيز بالقرب من الكويت. وتوصل الطرفان إلى اتفاقيتين رئيسيتين؛ الأولى أصدرها السلطان العثماني في 9 تموز/ يوليو 1914، وأعلن فيها انفصال نجد عن البصرة وإعادة تنظيمها كولاية. والثانية؛ التي تم الانتهاء منها في 27 أيار/ مايو، تضمن مواد تنظم أمورًا مثل الأمن والضرائب والعلاقات الخارجية ومجالات أخرى للمحافظة الناشئة. وهكذا، قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب العالمية الأولى وتفكك الإمبراطورية العثمانية، نجح عبد العزيز في أن يصبح واليًا عثمانيًا مستقلًا بنفس الطريقة التي كان بها جده فيصل.
وبالنظر إلى هذا السياق العثماني، لا ينبغي أن يكون مفاجئًا أن العديد من أعضاء النخبة السعودية المؤسسة، بما في ذلك عبد العزيز نفسه، تأثروا بالاتجاهات الفكرية والسياسية الرئيسية التي شكلت خيال الجيل العربي العثماني الأخير وتصرفاتهم السياسية. ومن أهم هذه الاتجاهات السلفية والعروبة.
وفي أوائل القرن العشرين، لم تكن كلمة “السلفية” مرادفة للوهابية كما هي اليوم. وفي ذلك الوقت؛ كانت الكلمة تشير إلى حركة الإصلاح الإسلامية التي، وفقًا لهنري لوزيير، “سعت إلى التوفيق بين الإسلام والمثل الاجتماعية والسياسية والفكرية لعصر التنوير”. وظهرت هذه الحركة في أواخر القرن التاسع عشر، وكان من أبرز مفكريها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، وقدمت سلسلة من الانتقادات الإسلامية ضد الممارسات والمعتقدات الإسلامية التي تعتبر غير مناسبة للعالم الحديث.
وبعد الحرب العالمية الأولى؛ بدأ العديد من أعضاء التيار السلفي بدعم المشروع السعودي، معتبرين إياه الأمل الوحيد المتبقي لقيام دولة عربية مستقلة بعد فرض نظام الانتداب على العديد من الأراضي العربية ما بعد الدولة العثمانية. وعلى سبيل المثال؛ قام المصلح المسلم رشيد رضا بتحويل مجلته “المنار”، التي كانت مؤثرة على نطاق واسع في العالم الإسلامي، إلى واجهة للترويج للدولة السعودية الجديدة وإضفاء الشرعية عليها بشروط سلفية. وقرر سلفيون آخرون الهجرة للمساعدة في بناء الدولة السعودية الجديدة. وكان أحدهم المصلح السوري محمد بهجت البيطار، الذي لعب دورًا هامًا في التعليم في السعودية. وكما أظهر المؤرخ ديفيد كومينز، لعب السلفيون أيضًا دورًا مهمًا في إعادة تفسير الأيديولوجية الوهابية كجزء من حركة سلفية وقومية ملتزمة بالتقدم في شبه الجزيرة العربية.
مثل السلفية، لم تكن العروبة في أوائل القرن العشرين مرتبطة بالجمهورية والعدالة الاجتماعية كما حدث لاحقًا مع صعود الناصرية وحزب البعث. في النصف الأول من القرن العشرين، كان للعروبة هدفان سياسيان رئيسيان: التوحيد الإقليمي والاستقلال عن الحكم الأجنبي. وهناك العديد من الحالات التي أضفت فيها النخبة السعودية المؤسسة الشرعية على حكمها من خلال استخدام هذا الشكل من العروبة. سأذكر ثلاثة:
أولًا، في سنة 1932، عندما قررت هذه النخبة المؤسسة توحيد مملكتي نجد والحجاز، وظفت خطابًا عروبيًا. وفي تقريرها عن قرار التوحيد، نشرت صحيفة أم القرى السعودية الرسمية مقالًا بعنوان “الخطوة الأولى نحو الوحدة العربية وتحقيق آمال العرب”.
ثانيًا، أدى قرار التوحيد إلى إعطاء المملكة الجديدة اسمًا جديدًا. يختلف الاسم العربي للسعودية قليلًا عن اسمه الإنجليزي؛ حيث أن كلمة “سعودي” في اللغة الإنجليزية هي صفة تصف الجزيرة العربية، فإنها تقرأ في اللغة العربية على النحو التالي: المملكة العربية السعودية؛ فالاسم العربي يجعل الصفتين “عربي” و”سعودي” لوصف المملكة.
أخيرًا، خلال المفاوضات السعودية اليمنية حول وضع الأراضي الجنوبية الغربية للجزيرة العربية في أوائل ثلاثينيات القرن العشرين، كانت إحدى الحجج التي قدمها السعوديون ضد المطالبة اليمنية باليمن الكبير هي أن شبه الجزيرة العربية ككل تشكل “وحدة جغرافية”. ولا توجد حواجز جغرافية بين مجتمعاتها. واستمر الجدال بالقول إن جميع سكان شبه الجزيرة العربية هم من العرب وأن “الاختلافات اللغوية بينهم ليست مثل تلك بين الأنجلوسكسونية واللاتينية”. كما أن “الدين السائد في شبه الجزيرة العربية هو الإسلام”. ورغم وجود تنوع في الطوائف الإسلامية، إلا أن “هذا لا يلغي طبيعتها الإسلامية”.
ما يعنيه كل هذا هو أن الدولة السعودية لم تتأسس كدولة وهابية، مما يعكس استمرار عقد متخيل بين أسرة آل سعود وعائلة دينية. لقد تأسست كمملكة عربية مع التركيز الشديد على السلفية الحداثية. إن فهم ذلك لا يقلل من أهمية يوم التأسيس السعودي وانفصاله عن الخطاب السياسي الوهابي. ومع ذلك؛ فإنه يلفت الانتباه إلى نقطتين؛ الأولى هو أن الأسطورة الوهابية لم يستشهد بها مؤسس السعودية المعاصرة. والثانية هو أن استخدام الأسطورة الوهابية كأداة للشرعية كان ظاهرة حديثة بدأت مع حكم الملك فيصل. وبدلاً من ذلك، كان تأسيس الدولة السعودية نتيجة مباشرة للتقاء القوى التاريخية التي أعادت تشكيل النهج السعودي في السياسة وبناء الدولة.
المصدر: نيولاينز