تمر إسبانيا بأيام عصيبة ومصيرية مع قدوم موعد استفتاء انفصال إقليم كتالونيا عن إسبانيا، والذي يمثلها برلمان وحكومة مستقلان، ويعزز القناعة الراسخة عند الكتالونيين للإصرار على إجراء الاستفتاء أنهم شعب مستقل وله ثقافة ولغة مستقلة، ومن شأن الاستقلال عن إسبانيا أن يضع المسؤولين الكتالونيين في مواجهة الحكومة المركزية في مدريد التي تقول إن التصويت “غير قانوني ولن يتم“، وهي واحدة من أكبر الأزمات التي تشهدها إسبانيا منذ تفعيل الديمقراطية بعد وفاة الديكتاتور فرانسيسكو فرانكو في 1975.
حيث جاء فرانكو إلى الحكم عبر انقلاب عسكري على سلطة البلاد، وبعد انتصاره في الحرب الأهلية التي نشبت في البلاد في ثلاثينيات القرن الماضي بدعم من النازيين، لعب حكم فرانكو المستبد لبلورة الهوية القومية الكتالونية، حيث حارب وقتها أي ظهور للهوية أو الثقافة الكتالونية، ومن ذلك أنه ألغى الحكم الذاتي في البلاد، طوال سنوات حياته، ومنع أي حديث أو نشاط أو كتابات تتعلق بقضية الإقليم، وإضافة إلى ذلك، منع اللغة الكتالونية وألغى النشيد الوطني..
استقلال كتالونيا على المدى القصير أمر صعب جدًا، لأن الاستفتاء برمته تنظر له السلطات الإسبانية ومؤسسات المجتمع الدولي بأنه غيري شرعي.
وبعد وفاة فرانكو، ناضل الكتالونيون ضد الفاشية إلى أن استطاع الإقليم إعادة حكمه الذاتي، ومنذ ذلك الوقت بدأ التنظير للهوية القومية على أرضية من المظلومية والانتهاكات التي تعرضوا لها في فترة الحرب الأهلية وما بعدها.
العد العكسي بدأ
بدأ سكان إقليم كتالونيا الغني منذ ساعات الصباح الباكر اليوم الأحد، بتشكيل طوابير للتصويت في استفتاء على انفصال الإقليم عن إسبانيا في العديد من المراكز المخصصة للاقتراع في مدارس برشلونة، في ظروف غير مستقرة تمامًا، إذ أرسلت الحكومة الإسابنية آلاف من رجال الشرطة من أنحاء إسبانيا كافة إلى كتالونيا لمنع إجراء الاستفتاء، وسط إصرار الحكومة الإقليمية الكتالونية أنها ماضية في إجراء استفتاء الانفصال، مشيرة أنه يمكن للناخبين التوجه لمراكز اقتراع بديلة في حال منعهم من التصويت.
حيث داهمت قوات الشرطة الإسبانية المراكز المعدة للاقتراع وصادرت صناديق اقتراع من عدة مراكز تصويت، كما أخلت قوات الحرس المدني دون استخدام العنف مركز الاقتراع الذي كان من المقرر أن يدلي فيه رئيس الحكومة الكتالونية كارلاس بوتشديمونت، بصوته هذا الصباح.
يشكل الإقليم ثقلاً اقتصاديًا في البلاد، إذ يشكل خُمس الاقتصاد الإسباني باحتوائه على كبرى الشركات الإسبانية المصدرة مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية، ويبلغ الناتج المحلي للإقليم نحو 210 مليون يورو.
وكانت السلطات الإسبانية قد أغلقت أكثر من نصف مراكز الاقتراع البالغ عددها 2315 في كتالونيا بحلول أمس السبت، كما صادرت كميات كبيرة من البطاقات الانتخابية، وعطلت المنظومة الإلكترونية التي يعتمد عليها الإقليم لإجراء عمليات التصويت.
مداهمات لمراكز التصويت ومنع المصوتين من الدخول إلى المراكز من قبل أفراد الشرطة
وقال ممثل الحكومة الإسابنية في كتالونيا أنريك ميو: “من أصل 2315 مركز تصويت خُتم 1300 بالشمع الأحمر”، وأضاف أن “163 من هذه المراكز يحتلها ناشطون يحق لهم مغادرتها، لكن لا أحد يستطيع دخولها”، إذ احتل الانفصاليون الكتالونيون، عشرات المدارس التي تم اختيارها كمراكز تصويت، بهدف منع الشرطة من إغلاقها.
في وقت أصر الانفصاليون على الاستمرار في الدفاع عن حقهم في التصويت، وأقاموا حواجز بشرية أمام أبواب مراكز التصويت لمنع دخول قوات الأمن إلى داخلها لمصادرة صناديق الاقتراع وأوراق التصويت في الاستفتاء، وفي هذا السياق ذكر مندوب الحكومة الإسبانية في برشلونة لأن الشرطة الكتالونية لم تكن مهنية، متهمًا إياها بالانحياز للأوامر السياسية للحكومة الكتالونية.
ونقل متطوعون صناديق وأوراق الاقتراع إلى عدد من المراكز معظمها مدارس ومؤسسات ثقافية، فيما يعد تحديًا للحكومة المركزية في مدريد، حيث أشارت وزارة الداخلية الإسبانية في بيان أن “بعض” مراكز الاقتراع المحتملة لا تزال يسيطر عليها أشخاص ينوون عرقلة جهود الشرطة لتنفيذ أمر قضائي بحظر استخدام المباني العامة في التصويت.
أسباب اقتصادية وراء فكرة الانفصال
على مدى العقود الماضية كان هناك نحو 15 – 20% من سكان كتالونيا يريدون الانفصال عن إسبانيا ويؤيدون فكرتها، فكتالونيا كانت جزءًا لا يتجزأ من إسبانيا منذ القرن السادس عشر وقبل ذلك التاريخ كانت تتبع لمملكة أراغون، لكن الأزمة المالية التي ضربت إسبانيا بعد العام 2007 على إثر الأزمة المالية العالمية، أثارت غضب الكتالونيين من الحكومة المركزية في مدريد.
قوات شرطة من الحكومة المركزية لمنع إجراء استفتاء كتالونيا للانفصال عن إسبانيا
حيث ولدت شعورًا لدى مواطني الإقليم بأنهم يدفعون للحكومة المركزية أكثر مما تستحق، خاصة أن الإقليم يعتبر صناعيًا وهو من أغنى المناطق في الدولة جميعها، حيث يضم العديد من الصناعات المعدنية، والصناعات الدوائية والكيميائية، كما أن فيه قطاعًا سياحيًا مزدهرًا، ويسيطر على 20% من الناتج القومي الإجمالي الإسباني.
كما يعتبر مواطنو الإقليم أن السياسات الحكومية الإسبانية تسببت في أضرار كبيرة على منطقتهم، خاصة أنهم يدفعون ضرائب تصل إلى 20 مليار يورو، من دون مقابل واضح، سواء على سبيل دعم البنى التحتية أو غيرها.
ماذا لو قال الكتالونيون “نعم”؟
يتمتع الإقليم الذي يبلغ عدد سكانه 7.5 ملايين نسمة بأوسع تدابير للحكم الذاتي بين أقاليم إسبانيا، ويأتي ترتيبه السابع من بين 17 إقليمًا يتمتع بحكم ذاتي في البلاد، وتبلغ مساحة الإقليم 32.1 ألف كيلومتر مربع، ويضم 947 بلدية موزعة على أربع مقاطعات هي برشلونة وجرندة ولاردة وتراغونة.
يوفر نادي برشلونة نحو 15 ألف وظيفة مباشرة من دون اعتبار الوظائف غير المباشرة، كما أنه ينعش الخزينة العامة للمدينة الكتالونية بمبلغ 219 مليون يورو سنويًا
لكن ماذا لو قال المصوتون اليوم “نعم” بنسبة كبيرة! ماذا سيحل بتلك المساحة والسكان، برأي محللين فإن استقلال كتالونيا على المدى القصير أمر صعب جدًا، لأن الاستفتاء برمته تنظر له السلطات الإسبانية ومؤسسات المجتمع الدولي بأنه غيري شرعي، ومع ذلك فهناك احتمال أن تخرج حكومة الإقليم اليوم وتعلن نتيجة الاستفتاء وتعلن الاستقلال من جانب واحد، وهو أمر مرجح بحسب مراقبين، أو قد تذهب في مسار أكثر حذرًا بعد التصويت وتدعو إلى انتخابات إقليمية.
وفي حال حصول خيار الانفصال، فمن غير المتوقع أن ترضخ الحكومة المركزية في مدريد لخيار الانفصاليين، وقد تضطر للسيطرة على المنطقة وإدارتها، بحسب بند غير مستخدم في الدستور الإسباني، المتعلق بالمادة 155، وهو ما من شأنه أن يخلق حالة من عدم الاستقرار في البلاد بفضل تعزيز الخلافات بين الحكومة المركزية ومن يريد الانفصال.
مؤيدون لانفصال كتالونيا يطالبون باستقلال عن إسبانيا
من غير المتوقع أن تقف الحكومة المركزية الإسابنية مكتوفة اليدين على التفتيت الحاصل في البلاد، نظرًا لحجم الأضرار الاقتصادية والسياسية التي قد تصيب إسبانيا بسبب انفصال كتالونيا عنها، ولعل أبرز تلك الأضرار موقفها من الاتحاد الأوروبي بسبب عدم الحفاظ على بلادها موحدة، لذا سيضعف الموقف السياسي لإسبانيا مع بقية الدول بعد الانفصال وتنشغل بمحاربة الانفصاليين أكثر من أمور أخرى.
من الناحية الجغرافية ستخسر البلاد 8% من مساحتها الإجمالية، قرابة 33 ألف كيلو متر مربع مساحة إقليم كتالونيا، إضافة إلى أن البلاد ستفقد نحو 14% من القوة العاملة الإجمالية للسكان، وهذا رقم كبير من شأنه أن يكون له آثار سيئة على الاقتصاد عمومًا ويؤدي لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي لإسبانيا وبالتالي انخفاض ترتيبها على مستوى العالم.
كما يشكل الإقليم ثقلاً اقتصاديًا في البلاد، إذ يمثل خُمس الاقتصاد الإسباني باحتوائه على كبرى الشركات الإسبانية المصدرة مثل السيارات والأجهزة الإلكترونية، ويبلغ الناتج المحلي للإقليم نحو 210 مليون يورو، ما من شأنه أن يشكل خسارة لإسبانيا بنحو 19% من إجمالي ناتجها المحلي فيما لو انفصل الإقليم عنها، ويُشار أيضًا أن إسبانيا ستخسر نحو 26% من صادراتها التي يتم تصنيعها من خلال مواد مصنعة في إقليم كتالونيا، بالإضافة إلى تحكم الإقليم في 70% من حركة النقل والمواصلات الخاصة بالتجارة الخارجية لإسبانيا.
في حال حصول خيار الانفصال، فمن غير المتوقع أن ترضخ الحكومة المركزية في مدريد لخيار الانفصاليين، وقد تضطر للسيطرة على المنطقة وإدارتها
أما من الجهة الأخرى، فإقليم كتالونيا سيتضرر هو الآخر أضرارًا بالغة وعلى رأسها نادي برشلونة (درة إسبانيا واقتصادها إلى جانب غريمه ريال مدريد)، فلن يكون قادرًا على المنافسة بالدوري الإسباني، وهذا من شأنه توجيه ضربة قاسية ليس للنادي الكتالوني وحسب بل أيضًا للدوري الكروي الإسباني عمومًا، فالنادي العريق يعتبر المحرك الأساسي لاقتصاد الإقليم، فهو الدافع الرئيسي للأشغال والتوظيف وأحد أبرز عوامل التنمية في المقاطعة بأسرها، لذا لن يكون للنادي ذات الأهمية التي يتمتع بها الآن، فضلا أنه سيفقد الكثير من قيمته المالية بعد عدم تمكنه من المشاركة في الدور الإسباني.
حكومة كتالونيا
وبحسب الأرقام والبيانات المنشورة عن مساهمة النادي باقتصاد الإقليم تبين أن فريق برشلونة كان وراء تدفق إيرادات مالية على مدينة برشلونة بـ759 مليون يورو (910 ملايين دولار) أو ما يعادل 1.2% من الناتج الإجمالي المحلي للمدينة، ويوفر النادي نحو 15 ألف وظيفة مباشرة من دون اعتبار الوظائف غير المباشرة، كما أنه ينعش الخزينة العامة للمدينة الكتالونية بمبلغ 219 مليون يورو سنويًا (243 مليون دولار).