حث الرئيس الصيني شي جين بينج، أعضاء الحزب الشيوعي على دراسة الرأسمالية المعاصرة، محذرًا من الانحراف عن الماركسية، يأتي هذا الكلام قبل أسابيع من انطلاق مؤتمر الحزب الرئيسي، وأضاف شي وفقاً لوكالة أنباء الصين الجديدة “شينخوا” أثناء جلسة دراسية بالمكتب السياسي للحزب، إنه على الرغم من تغير الزمان وتطور المجتمع فإن المبادئ الأساسية للماركسية مازالت صحيحة.
وأوضح الرئيس أنه “إذا انحرفنا أو تخلينا عن الماركسية فإن حزبنا سيفقد روحه وتوجهه” وفيما يتعلق بالقضية الأساسية المتعلقة بتعزيز الدور القيادي للماركسية فعلينا التمسك بعزيمة راسخة وعدم التذبذب في أي وقت أو تحت أي ظروف، بحسب قوله.
وأشار أيضًا أنه يجب على الحزب الشيوعي أن يحسن دمج المبادئ الأساسية للماركسية في ” واقع الصين المعاصر والتعلم من إنجازات الحضارات الأخرى لخلق وتطوير الماركسية”. يُشار أن الرئيس الصيني يشرف على حملة صارمة على المجتمع المدني منذ توليه السلطة قبل 5 سنوات تقريبا، حيث شدد سيطرة الحزب على الإنترنت ووسائل الإعلام والبنية الأساسية الأمنية واعتقل محامين حقوقيين ومعارضين.
الصين رأسمالية بغلاف اشتراكي
الماركسية التي أشاد بها الرئيس الصيني شي، هي الإطار الذي صاغه كارل ماركس من جملة من المفاهيم في إطار نقده للمجتمع الرأسمالي ودعوته إلى ضرورة الثورة البروليتارية بُغية التحول إلى الاشتراكية، وسعيه في التأكيد على أن هذا التحول حتمية تاريخية بالإضافة إلى كونه ضرورة. حيث تحَدث ماركس عن مفهوم الصراع الطبقي، واعتبر تاريخ أي مجتمع هو تاريخ صراعات طبقية، بسبب تضارب المصالح بين الطبقات الاجتماعية، ورأى أن رحى هذا الصراع داخل المجتمع الرأسمالي تدور بين أصحاب الرأسمال المُضطهِدين والعمال المُضطهَدين.
تنوي الصين إنفاق 4 ترليونات دولار خلال العقدين المقبلين ليكون مشروع الطريق والحزام من أكبر المشاريع الاستراتيجية التي تقوم بها الصين ليس على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى العالمي أيضًا
كما أبدع ماركس مفهومي فائض القيمة وتراكم الرأسمال اللذين جعلاه يتنبأ بعدم قابلية النمط الاقتصادي الرأسمالي في الاستمرار، وحتمية تحول المجتمع الإنساني إلى النمط الاشتراكي في الإنتاج.
اليوم لا عجب أن تجد في كل بيت حول العالم منتجًا صينيًا، فالعلامة التجارية “صنع في الصين” غزت جميع دول العالم. بعد وفاة الزعيم الصيني، ماو تسيدونغ، عام 1976 لم يساور الاقتصاديون شعور أن الصين ستغدوا أكثر تطورًا وانفتاحًا، وهي التي كانت تمثل أكثر الدول فقرًا وانعزالا في العالم، إذ تمكنت خلال 3 عقود أن تبني اقتصاد سوق ديناميكي ناجح بشكل كبير على الأقل من وجهة نظر الحكومة الصينية وليس من وجهة النظر الأمريكية أو الغربية التي لطالما تنتقد الاقتصاد الصيني.
حدث هذا عمليًا برعاية “الحزب الشيوعي الصيني” الذي عمد لمراجعة سياساته الاشتراكية لتتوافق والزمن الذي يعيش فيه، حيث كانت السياسات الحكومية القديمة التي اتبعها، ماو تسيدونج، مدمرة وأدت إلى إفقار البلاد ماديًا ومعنويًا.
الرئيس الصيني شي جين بينج
عاشت الصين في فترة سبعينات القرن الماضي مرحلة مفصلية في تاريخ البلاد، حيث قامت حركات في تلك الآونة تدعو لاعتماد سياسات رأسمالية واتباع نهج السوق الحر. إحدى تلك الحركات هدفت إلى تحويل الصين إلى دولة اشتراكية حديثة وقوية، وحركة أخرى، ساهمت بشكل كبير في إدخال العناصر الرأسمالية إلى البلاد، كانت نتاج ما يمكن تسميتها “الثورات الهامشية”. وبينما ركز الإصلاح الذي تقوده الحكومة على تعزيز حوافز المشروعات الحكومية، كان دور الثورات الهامشية خلق أرباب المشروعات الخاصة وقوى السوق.
لم يتخلى زعماء الصين عن الاشتراكية التي تدعو إلى الملكية العامة من أجل ضمان توزيع عادل للثروة، على الرغم من أن المشروعات الحكومية في واقع الأمر زادت من عدم المساواة ومن السياسات الفاسدة. ومع كل التحول إلى السياسات الرأسمالية واقتصاد السوق الحر تمسك الزعماء بإبقاء بعض القطاعات مثل المصارف والطاقة والمواصلات والتعليم تحت احتكار الدولة، ودائمًا ما تتعرض الحكومة الصينية لانتقادات كبيرة من قبل الدول الغربية وأمريكا على خلفية عدم اتباعها نهجًا رأسماليًا صرفًا وهو ما يؤذي اقتصادات تلك البلدان.
تمتلك الصين أكبر احتياطي نقدي أجنبي فى العالم بمقدار 3.2 تريليون دولار
ولهذا وصف الكثير وضع الاقتصاد الصيني بأنه “اقتصاد رأسمالي تقوده الدولة” فمن لحظة الوصول إلى المطار والشوارع والسيارات الفارهة واللافتات الضخمة، تطل عاصمة الصين الاشتراكية في ثوب رأسمالي، كانت العاضمة قبل ثلاثين عامًا منبوذة رسميًا وشعبيًا. وقد اختفت صور زعماء الصين الاشتراكيين لتبقى محصورة داخل المؤسسات الرسمية وأوراق العملة الوطنية، وتم استبدالها بصور الإعلانات والشعارات التجارية التي تغص بها الشوارع والأبراج. وباتت العقيدة الاشتراكية التي كانت في الماضي تكن عداءًا مطلقًا للنظام الرأسمالي، تبدو في حالة تزاوج وتمازج لا تخطئه العين لمن يزور الصين.
مع ذلك وبالرغم من غزو المنتجات الصينية لدول العالم، إلا أن أنها لم تستطع مثلا بناء أسماء تجارية كبيرة ومعروفة كما هو حاصل في المنتجات المشهورة عالميًا لدى الدول المتقدمة. حيث يرى محللين أن التدفق غير المقيد للفكر هو شرط من شروط النمو والمعرفة، وهو العامل الأهم في أي اقتصاد مبدع ومستمر. فقد خلقت الثورة البريطانية الصناعية قبل قرنين منتجات جديدة، وبرزت خلالها صناعات جديدة، لكن الثورة الصناعية الصينية لا تزال دون ذلك الإبداع بمراحل، وبالكاد يتذكر المستهلكين حول العالم اسمًا تجاريًا صينيًا معروفًا.
بحسب اقتصاديين، فإنه يمكن استعمال أدوات السوق في الصين ليس بالرجوع إلى الماضي، بل كتوظيف عنصر قوة حيوي في عملية تحسين ترتيبات قوة الإنتاج الجماعية الاشتراكية؛ كما يمكن النظر أيضًا إلى إدخال الشركات الأجنبية، إذا بقيت خاضعة للاقتصاد المخطط لمصلحة تطوير الصين، كتوظيف في تسهيل وتسريع عملية التطوير. وحتى نموّ الرأسمال الداخلي، إلى حد معيّن، يمكن أن يوظَّف في تعبئة الفراغ في بعض مجالات الإنتاج مما يجبر اقتصاد الدولة على اليقظة والاجتهاد ليلبي حاجة الجماهير كعمال وكمستهلكين.
العقيدة الاشتراكية التي كانت في الماضي تكن عداء مطلقا للنظام الرأسمالي، تبدو اليوم في حالة تزاوج وتمازج لا تخطئه العين لمن يزور الصين.
كما يجب أيضًا ملاحظة أن الصين تمكنت في مسايرة الاقتصاد العالمي خلال العقود الماضية والاندماج فيه على أساس “الاعتماد المتبادل” مع اقتصادات العالم وليس “التبعية” لها التي وقعت بها الدول ذات الاقتصادات الضعيفة، وفي الوقت الذي دعت فيه الرأسمالية العالمية والعولمة إلى الانفتاح واعتماد آليات السوق في الاقتصاد حافظت الصين ما أمكن على سيطرة الدولة على الاقتصاد وأبقت مخدمات نمو الاقتصاد تحت سيطرتها، حيث دعمت مؤسسات القطاع الخاص بالأموال بغرض تقليل تكلفة منتجاتها لترفع من مدى منافستها في الأسواق العالمية مقابل البضائع المناظرة لها المنتجة في أوروبا وأمريكا واليابان.
ماذا حققت الصين الاشتراكية الرأسمالية؟
حسب التقارير فقد تضاعف نصيب الفرد فى الصين من الناتج المحلي الإجمالي حوالى 6 مرات تقريبًا ليصل إلى 6800 دولار بالمقارنة بالعشر سنوات الماضية، وبنمو اقتصادي ظل مستقرًا فوق معدل 9% سنويًا على مدى سنوات، وامتلاكها لأكبر احتياطى نقدي أجنبي فى العالم بمقدار 3.2 تريليون دولار، أصبح الاقتصاد الصيني في المركز الثاني بين أكبر اقتصادات العالم بعد الولايات المتحدة.
استحوذت الصين وحدها على نسبة 12% من إجمالى الصادرات العالمية، حيث بلغ نمو صادرات الصين فى الفترة من 1990 إلى 2012 نسبة 17%، وتمتلك الصين نسبة 10% من إجمالى الواردات العالمية حيث تستورد الصين نسبة كبيرة من المواد الخام والمواد البسيطة والتى تستعملها فى إنتاج صادراتها وتحويلها إلى سلع متطورة وأصبحت بهذا محركًا قويًا لا يستهان به للطلب العالمي على المواد الأولية وبالتالي على معدلات نمو اقتصادات لكثير من البلدان التي لديها علاقات تجارية معها، وتمتلك الصين أيضًا نسبة 66% من واردات السلع الوسيطة فى آسيا، بالإضافة إلى 25% من السلع المصدرة إلى كوريا واليابان.
كما تنوي الصين إنفاق 4 ترليونات دولار خلال العقدين الحاليّ والمقبل ليكون مشروع الطريق والحزام من أكبر المشاريع الاستراتيجية التي تقوم بها الصين ليس على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى العالمي أيضًا، حيث لا يوجد منافس له حتى الآن على الأقل من قبل دول العالم الكبرى، سوى سياسات تسعى من خلالها الدول للجم التمدد الصيني وتحجيمه.
يسعى مشروع الحزام والطريق، إلى بناء الطرق والسكك الحديدية والجسور والمواني في الدول التي سيمر منها الطريق والممتد عبر أكثر من 60 دولة في آسيا وأوروبا والمنطقة العربية، ويساهم في إيجاد عقود لشركات البناء وصناعة الأسمنت والصلب لتكون بديلاً عن المشروعات المحلية، حيث وصلت عمليات التحديث الضخمة في البنية التحتية في الصين إلى حد الإشباع، وأدت بعد فترة إلى انخفاض معدلات النمو إلى 6.5% بعدما فاقت 10% ولامست 15% في سنوات.
استيقاظ الصين خلال الفترة الماضية جعل منها قوة اقتصادية كبيرة تنافس الولايات المتحدة الأمريكية على المركز الأول كأكبر اقتصاد في العالم، وحيث لا يزال هذا التنين يحث الخطى نحو المستقبل فإن أفق اكتمال استيقاظ هذا التنين بات قريبًا وكل هذا عبر اعتماد آليات رأسمالية دون التخلي عن النهج الاشتراكي العام في البلاد وهو ما يثير حنق الدول التي تعتمد على نهج رأسمالي صرف.